- مقدمة باب استحباب الثوب الأبيض
- قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ...}
- قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}
- البسوا من ثيابكم البياض
- البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا كتاب جديد في هذا المصنَّف، وهو كتاب اللباس، واللباس معروف، ويدخل فيه ما يلبسه الإنسان أيًّا كان نوعه، كما يدخل فيه أيضاً ما يجلس عليه ويفترشه، وسيأتي إيضاح ذلك بإذن الله -تبارك وتعالى.
وفيه حديث أنس المعروف لمّا ذكر الحصير الذي قد اسود من طول ما لُبس، يعني: من طول الجلوس عليه، وكثرة الاستعمال، قال: لُبس، وهو حصير يجلس عليه، فما يقال في اللباس من جهة الحرير مثلاً، أو بعض الألبسة المحرمة يقال أيضاً فيما يفترش.
يقول: باب استحباب الثوب الأبيض، وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود، يعني: وسائر الألوان إلا ما دل الدليل على تحريمه، وسيأتي -إن شاء الله، وسيأتي الكلام على الأحمر أيضاً.
قال: وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها، إلا الحرير، يعني: سائر الأنواع إلا الحرير.
الثوب الأبيض، الثوب في الأصل يقال للرداء، مثل الذي نلبسه في الإحرام، يقال له: ثوب، القماش يقال له: ثوب، هذا الذي نلبسه يقال له: قميص، وإن كنا نطلق عليه اليوم أنه ثوب فهذا عرف حادث، ولكن يقال له: قميص في زمن النبي ﷺ.
المقصود أن الثوب الأبيض يدخل فيه القميص، ويدخل فيه سائر ما يلبس، واستحبابه بناء على ما جاء في الأدلة، ولا شك أن الظاهر يؤثر في الباطن، ولا يخفى الملازمة بين ما يلبسه الإنسان ويتزيّا به، وبين ما يكون في نفسه من أثر هذا اللباس، ولهذا جاء النهي عن التشبه بالكفار، لما يفضي ذلك إليه من الميل إليهم وموالاتهم، ونحو ذلك، وهكذا في سائر الألبسة.
وقد تكلم شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم بكلام طويل على قضية التشبه والمشابهة بأنواعها، وذكر قضية اللباس وأفاض فيها، وكان مما ذكر أن الإنسان إذا لبس الثياب التي تكون للمقاتلين يجد في نفسه إقداماً وميلا إلى أخلاقهم، وإذا لبس الثياب التي تكون للعلماء، ونحو ذلك وجد في نفسه ميلا إلى الوقار، ونحن نقول أيضاً: إذا لبس الملابس الرياضية وجد في نفسه خفة ونشاطاً وتوثباً، وهكذا، ولذلك يقال: إن البياض له أثر أيضاً على لابسه، الثوب الأبيض يؤثر فيه ولابدّ، ويعرف هذا الإنسان إذا غير لباسه، إذا لبس لوناً آخر كالأسود مثلاً، وبقي فيه مدة، ثم بعد ذلك لبس الأبيض يجد أثراً ظاهراً في نفسه، وحينما يلبس الثياب البيضاء، يعني: يلبس هذه العمامة بيضاء، وثوب أبيض ناصع البياض، فإنه يجد أثر ذلك في نفسه، ولذلك يستعمل مثل هذا اللباس للمرضى في المستشفيات في سررهم، وما شابه ذلك، لعله من هذا القبيل، وكذلك أيضاً لعلي ذكرت في بعض المناسبات ما كُتب من تقرير حول هذا في بعض السجون الأمريكية حيث طلبوا من السجناء في أحد السجون أن يغتسلوا في كل صباح -هم كفار- وأن يلبسوا ثيابًا جديدة بيضاء كل يوم، فوجدوا أثر ذلك في سلوكهم، تغير السلوك.
أورد قول الله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26].
يمتن على عباده بإنزال اللباس "لباساً يواري سوآتكم" والسوءة قيل لها سوءة؛ لأن بدوّها للناس وانكشافها يسوء صاحبها قال: وَرِيشًا والريش والرياش يقال لما يتزين به، ولهذا فإن اللباس يكون من باب الزينة، والله تعالى قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31].
وأصل الآية نازلة في ستر العورات في الطواف، حيث كانوا يطوفون في البيت عراة، لكنه يؤخذ من عمومها ما هو أوسع من ذلك، قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26].
وهذا تجده في كتاب الله يذكر هذا وهذا، فلما ذكر اللباس المحسوس الظاهر هذا الذي نلبسه ذكر أمراً، أو معنى آخر، وله نوع اتصال به -كما أشرت: لباس التقوى، كما قال الله -تبارك وتعالى: وثيابك فطهر بعضهم يقول: القلب والنفس، وبعضهم يقول: هذه الثياب التي نلبسها، ويمكن أن يحمل على هذا وهذا للملازمة بين الأمرين.
وقال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ[النحل: 81]، السرابيل هي القُمُص، "سرابيل تقيكم الحر"، يقولون: هذا من باب الاكتفاء، ذكر أحد المتقابليْن ليدل على الآخر، أي تقيكم الحر والبرد، "وسرابيل تقيكم بأسكم" مثل الدروع، فيمتن الله على عباده بهذا.
البسوا البياض فإنه أطهر: يعني من جهة النقاء، وأطيب: بمعنى أنه من أحسن اللباس وأكمله ولما له من الأثر الذي أشرت إليه آنفًا.
وكفنوا فيها موتاكم وهذا كله محمول على الاستحباب؛ لأنه توجد أدلة أخرى تدل على أن ذلك لا يجب -كما سيأتي- حتى في تكفين الموتى.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في البياض (4/ 51)، رقم: (4061)، والترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ، باب ما يستحب من الأكفان (3/ 310)، رقم: (994).
- أخرجه النسائي، كتاب الزينة، الأمر بلبس البيض من الثياب (8/ 205)، رقم: (5322).