الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم الظلم، والأمر برد المظالم، الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، هذا أصل معناه في كلام العرب، وهو معناه عند أهل السنة، والجماعة، وكل من وضع الشيء في غير موضعه فقد ظلم، ولهذا فإن العرب يقولون لمن ضرب لبنه قبل أن يروب يقال له: ظالم؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه، وقبل أوانه، كما قال الشاعر:
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم[1] |
العكد هو عصب اللسان، فمثل هذا يقال في كلام العرب، واستعمالهم، وكذلك يقال للقبر الحفرة التي يدفن فيها الميت، يقال لها: مظلومة فهذه كما يقولون لهذا القبر يقال: مظلومة؛ لأنه حفر في موضع لم يكن محفورًا، وعلى كل حال يقول: والأمر برد المظالم، الأمر برد المظالم إذا كانت كما هي، أخذ منه هذا الكتاب يرده عليه، أخذ منه هذه الأرض يردها عليه، أخذ منه مئة ريال يردها عليه، أخذ منه سيارته يردها عليه.
أما إذا تغير هذا المغصوب، أو حصل له التلف فإنه يرد بالمثل إن كان مثليًا يعني هذه الساعة مثلاً يرد مثل هذه الساعة تمامًا، يرد عليه مثلها إن كان مثليا يعني له مثل، وإن لم يكن كذلك رد عليه القيمة، يقوَّم هذا، فينظر، فيرد عليه ترد عليه قيمته، هذا رد المظالم، لكن ما يرده عليه وقد تلف، أو تغيرت حاله، ونقصت قيمته، غصب السيارة، وكانت تساوي مئة ألف، واستعملها، وصدم فيها، وصارت تساوي عشرة آلاف، ثم سمع موعظة في الظلم، وتاب، وقال تفضل هذه سيارتك، وأنا أتوب إلى الله يقال: لا، ما يكفي هذا، تقوَّم السيارة حينما سرقها، أو غصبها.
وهكذا لو أنه أخذ مزرعته غصبها، ثم تلفت الأشجار، والزروع، والثمار، وذهبت، وصارت متصحرة، فكل ذلك يقوَّم عليه، ما يكفي أن يرد له الأرض، وهي زروعها هشيم، يقول: قال الله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ما للظالمين من حميم ما لهم يعني: قريب، مشفق، محب محبة قوية، محبة عظيمة، وهنا حميم نكرة في سياق النفي مسبوقة بمن، يعني: ما للظالمين من حميم ما لهم أي حميم أيا كان موقعه.
وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ الشفيع من الشفع فيكون الواحد منفردًا بحاجته، فيأتي معه من يؤيده، ويؤازره، ويقويه، ويقف معه، ويطالب بمطالبه، فيكون شفيعا، ويكون معه آخر يعني، قواه، قوى موقفه، فهؤلاء الظلمة، هؤلاء الظالمين ليس لهم حميم، ولا شفيع يطاع، يعني: يتخلى الكل عنهم، وهذا من أعظم ما يصيب الإنسان، نسأل الله العافية.
والذي يبتلى في الدنيا بنوع من البلاء، فيتخلى الناس عنه جميعا، ويبقى يواجه البلاء وحده، فإن ذلك تكون مراراته وألمه مضاعفا عليه -نسأل الله العافية- والذي لم يجرب قد لا يدرك هذا المعنى كما هو، قد لا يدرك، خاصة إذا كان الظالم الناس يريدون السلامة منه، فيتخوفونه، فلا يقتربون من هذا الإنسان، وهم يعلمون أنه مظلوم، فيخافون، ويبتعدون حتى إنه لربما لا يجد من يتصل عليه، ولا من يزوره، ولا من يسلم عليه، ولا من يقف معه، يتحاشونه، فيشعر أنه قد انفرد وحده يواجه آلامه، وهمومه، ومصائبه، ولذلك لماذا يعزى المسلم؟
لئلا ينفرد بالمصيبة، يخفف عنه.
لماذا يعاد إذا مرض؟
لأن الإنسان في حالات الضعف إذا كان في مقام عزاء، في مقام مرض يحتاج إلى من يقوي جانبه، إلى من يؤازره، لئلا ينكسر، لئلا ينهشم، لئلا يضعف، لئلا يذبل، لئلا ينفرد به الشيطان، فهذا كله ينتفي يوم القيامة مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يتخلى الجميع عنه، في الدنيا قد يجد أناسا يعينونه على الظلم، لكنه في الآخرة لا يجد أحدا، كل أحد مشغول بنفسه.
وقال تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ هناك نفى عنهم الحميم، والشفيع المطاع، هم ما لهم شفيع أصلا، لا مطاع، ولا غير مطاع؛ لأنه لا تنفع الشفاعة عند الله إلا بإذنه، ولا يأذن لمثل هؤلاء، الإذن للشافع، والإذن للمشفوع.
وقال: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى فهنا قال: وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ لأن مقصود هذا الظالم في ذلك الموقف ليس هو مجرد شفيع، وإنما شفيع يطاع، كما هو الناس في الدنيا، يبحث الإنسان عن أحد، يمكن أن يتكلم فيقبل كلامه، يكتب خطابا فيقبل ذلك، ويحصل مطلوب هذا الإنسان، أو ينجو من المخاوف، هناك لا يوجد.
فذكر المطاع؛ لأن حاجة هذا المأسور بذنبه إلى شفيع مطاع، وإلا أصلا لا يحصل له شفيع، لا مطاع، ولا غير مطاع.
وقال: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ لاحظ ما في شفيع، ما في حميم، طيب الشفيع واسطة يعني، ولا حميم، وأيضًا ما لهم من نصير من غير شفاعة، ينصرهم يأخذهم بالقوة، يخلصهم، يفك أسرهم، يطلقهم، لا يوجد لهم، لاحظ وبأقوى صيغ النفي وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ نصير نكرة في سياق النفي مسبوقة بمن، تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح بالعموم، ما لهم منى نصير، أي نصير، لا نصير عاجز، ولا نصير قادر، ولا نصير ضعيف، ولا نصير وسط، النصير منفي عنهم، يبقى يواجه الحساب، والعذاب وحده، ويشعر أنه وحده فقط الذي يحاسب، والذي يعذب، فإذا علم الإنسان بهذا، فلا يغتر، ولا يبدي قوته، وقهره لأولئك الذين لربما يكونون ضعفاء، لا يستطيعون رد مظلمته، ولا يغتر بهؤلاء الذين معه لربما يزينون له الظلم.
قال: وأما الأحاديث، فمنها حديث أبي ذر المتقدم في آخر باب المجاهدة، وقد مضى الكلام عليه، حديث أبي ذر هو الحديث العظيم، وهو الحديث القدسي: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا[2].
هذا صدر الحديث، وهو المتعلق بهذا الباب، فيه موضع الشاهد، وإلا فالحديث كما هو معلوم طويل إني حرمت الظلم على نفسي حرم الظلم على نفسه لأن الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ليس أحد من الناس يحكم على الله ولا يوجب عليه شيئا، ولا يمنعه من شيء؛ لأن الله أعظم من ذلك، لكن الله يفعل ما يشاء، فالله قد يحرم على نفسه شيئا، وهذا من كمال ملكه، وتمام إرادته إني حرمت الظلم على نفسي، وهذا النفي، وهذا التحريم انتفاء الظلم، وما ربك بظلام للعبيد، هذا النفي يقتضي ثبوت كمال ضده، وهو أنه كامل العدل، هنا إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا.
فإذا كان حرم الظلم على نفسه فإن ذلك يدل على قبح هذا الظلم، وأنه ينبغي التنزه عنه مع أن الخلق خلقه، والعباد عباده، والملك ملكه، قال: فلا تظالموا، ثم ذكر حديث جابر أن رسول الله ﷺ قال: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة[3].
اتقوا الظلم هنا الأمر بالاتقاء اتقوا الظلم، فيتقى الظلم تجعل بينك، وبينه، وقاية، ويتقى كل سبب، ووسيلة، وسبيل يوصل إلى الظلم، ويوقع فيه، اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والحديث على ظاهره، ظلمات، الناس يوم القيامة منهم من يكون في نور يسعى نوره بين يديه، وبيمينه، ومن الناس من يكون في ظلمة.
هذه الظلمات لها أسباب منها الكفر، ومن هذه الظلمات من أسبابها الظلم، فمن أراد أن يكون في النور التام يوم القيامة، فعليه أن يتخذ الأسباب لذلك التي هي أعظمها التوحيد، والإيمان، ومن أعظمها أيضًا المحبة في الله، المتحابون في الله بجلال الله على منابر من نور يوم القيامة.
وكذلك أيضًا العدل، فإن أهله يكونون في حال من النور، وسائر الطاعات تزيد في نور العبد يوم القيامة، وتنور قبره؛ لأن هذه القبور كما قال النبي ﷺ مليئة بالظلمة، وذكر ﷺ أن الله ينورها بصلاته عليهم -عليه الصلاة والسلام- ينورها على أهلها.
فهذا أحد أسباب هذا النور الذي يحصل في القبور، ويحصل في المحشر، وعلى الصراط، والمقصود أن العبد كلما كان في نور كانت عاقبته إلى نور، يكون في نور هذا القرآن سماه الله نورًا، وقال: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ والنبي ﷺ أخبر أن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من هذا النور اهتدى[4] يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ظلمات الكفر، والجهل إلى نور الإيمان، والعلم، والهدى، فإذا كان العبد مستنيرًا في هذه الحياة الدنيا بنور الوحي، هذا هو التنوير الحقيقي، وليس التنوير بظلمات الغرب، وجاهلية الغرب، وكتب الغرب المترجمة، وفلسفات الغرب التي هي مليئة بالظلمات، ويقال لمن ملئ قلبه منها يقال له: تنويري.
النور الحقيقي أيها الأحبة إذا كان الإنسان ينغمس، وينغمر فيه في هذه الحياة الدنيا فإن ذلك يكون في قبره، ويكون أيضًا يكون في محشره، وعلى الصراط يقول: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم[5].
قد مضى الكلام على الشح، والفرق بينه، وبين البخل، وقلنا: بأن الأقرب أن الشح أشد من البخل، بعض أهل العلم يقولون: الشح بخل مع حرص، وبعضهم يقول: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يتطلع إلى ما في أيدي الناس، وقيل غير ذلك، لكن هذا من أقربها، -والله أعلم- اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم والله يقول، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، وبينا وجه الفلاح كيف يكون الفلاح لمن وقي الشح.
فهنا يبين الحديث هذا المعنى، الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب كيف إذا وقي الشح حصل له الفلاح، يقول النبي ﷺ: ..أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم[6] رواه مسلم، يعني هذا الشح جعلهم يسفكون الدماء؛ لأنهم يتنافسون في هذه الحياة الدنيا، وعرضها الزائل، فيتقاتلون عليها، وهكذا أيضًا استحلوا محارمهم، يقطعون الأرحام، يبيعون الأعراض، يعصون الله -تبارك وتعالى- تضيع الذمم، والأمانات بسبب هذا الشح، تمتلئ القلوب بالشحناء، يتفكك المجتمع، فهنا نهى النبي ﷺ عن الظلم، وعن الشح لما يجر إليه ذلك من الويلات، والعواقب الوخيمة -والله تعالى أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- انظر: المعاني الكبير في أبيات المعاني، للدينوري (1/404).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2578).
- أخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله برقم (2642)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (101).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2578).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2578).