الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب تحريم الظلم حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث عن النبي ﷺ قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى، وشعبان[1].
قوله ﷺ إن الزمان قد استدار، بعض أهل العلم، فسر الزمان هنا بالسنة، ومنهم من فسره بالوقت، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، ومن فسره بالسنة، أن السنة قد استدارت أي أنها قد دارت الشهور، والليالي، والأيام، فهذا آخر شهر في العام، وهو ذو الحجة، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وهذا الحديث، أو هذا الجزء من الحديث فسره أهلم العلم تفسيرات مختلفة، وبعضها فيه بعد، وفي بعضها غموض.
والذي أظنه أقرب -والله تعالى أعلم- في تفسيره هو أن العرب كانوا ينسئون الشهور، كما قال الله في سورة براءة إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وفي القراءة الأخرى: (يُضِل به الذين كفروا) يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
معنى ذلك أيها الأحبة السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، العرب في الجاهلية كانوا على ميراث من دين إبراهيم وكانوا يعرفون عدد الشهور، وكانوا يعرفون أيضًا الأشهر الحرم، ويعظمونها في الجاهلية، ويحرمونها، ونعرف ما وقع حينما كان في آخر يوم من شهر شوال، آخر ليلة من شوال لما في السرية، سرية عبد الله بن جحش حينما قتلوا ابن الحضرمي، في القصة المعروفة، لما تظاهروا أنهم من العمار، حلقوا رؤوسهم، واحتالوا عليهم بذلك، فلما اجتاز بهم المشركون قبل غزوة بدر، وأمنوهم، هجموا عليهم، ورموه بسهم، فقتل؛ فشنع عليهم المشركون، وقالوا كيف تستحلون الشهر الحرام، كان ليلة الأول من ذي القعدة، وكانوا قد التبس ذلك عليهم، فشنع عليهم المشركون فقال الله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ثم بدأ يرد على المشركين قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
قال: الشهر الحرام له حرمته، ولا تنتهك، لكن ما تفعلونه أنتم معاشر المشركين أعظم مما وقع من هذا الخطأ، وهذه الطريقة الصحيحة في الرد على أهل الزيغ والفساد والمرجفين والمضللين؛ أن يرد عليهم بشنائع أفعالهم، وسوء أعمالهم، يقال: هذا الذي وقع من هذا المسلم خطأ لا يقر، لكن ما تفعلونه أنتم أشد، وأنكى، وأعظم، فلا نغمض أعيننا عن أفعالكم، وشنائعكم، وظلمكم الذي لا يقادر.
فالمقصود أنهم كانوا يعرفون هذا، ويعرفون أن الأشهر الحرم أربعة، لكن كانت لهم أهواء، فما كانوا يلتزمون هذه الشهور بالتحريم، فماذا كانوا يصنعون؟
الأشهر الحرم معروفة هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب أربعة أشهر، ماذا يفعلون كان يأتي -كما عرف في تواريخ العرب، وقصص العرب- كان يأتي الرجل في الموسم في منى، الرجل الكبير في القبيلة، ويدور يقول: أنا الذي أقول، ولا مرد لما أقول قد جعلت الشهر الحرام في العام القادم صفرًا، خلاص، يعني: كأنه يقول قد أعذر من أنذر ما معنى هذا الكلام، الآن شهر محرم هو الحرام، هذا ناوي يغزو، ناوي يغير على بعض العرب، فيجعل الشهر الحرام في صفر، فإذا كان صفر هو المحرم ربيع الأول يكون هو صفر، ربيع الثاني يكون هو ربيع الأول، جمادى الأولى يكون ربيع الثاني، وبهذه الطريقة الشهور، فيكون شهر ذو الحجة هو شهر محرم السنة القادمة، وتدور بهذه الطريقة، فيحجون في غير شهر الحج، في غير ذي الحجة، وقد قال بعض أهل العلم: إن حجة أبي بكر التي كانت قبل حجة النبي ﷺ مكة فتحت في السنة الثامنة، وأمر النبي ﷺ على مكة عتاب بن أسيد، وحج في الناس؛ لأنها فتحت في رمضان، فحج بالناس عتاب بن أسيد .
في السنة التاسعة بعث النبي ﷺ أبا بكر، وبعث في أثره عليا ينادي بصدر سورة براءة بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ "وألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان"[2] كان المشركون يطوفون، ويحجون مع المسلمين، وكان من طقوسهم في الحج أن الواحد منهم إن كان يعرف أحدا من الحمس، والحمس هم قريش، ومن ولدت؛ لأنهم يتحمسون لدينهم، إذا كان يعرف أحدا من الحمس أعاره ثوبا، فطاف فيه، وإن لم يكن يعرف أحدًا من الحمس، فإنه إما أن يكون عنده ثوب جديد، ما لبس لا يكون عصى الله به، فيلبس هذا الثوب هذه أحكام الإحرام، يلبس هذا الثوب الجديد، فإذا فرغ من الطواف ألقاه في المطاف، تعرى، تجرد، ويسمونه اللقى، يدسونه بأقدامهم حتى يتلف، وإن لم يكن عنده ثوب جديد، فإنه يطوف ابتداء بالبيت عريان.
يعني هذا العري لا بد منه، وكان النساء يطفن ليلا، والرجال يطوفون بالنهار، وكانت المرأة لربما ربطت على وسطها خيطا يتدلى منه بعض الخيوط على سوأتها كالذي يكون على وجه الحمار؛ ليطرد الذباب عنه، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه | وما بدا منه فلا أحلّه[3] |
هذه شعائر الجاهلية، فالحاصل أن الواحد من هؤلاء كانوا إذا أرادوا الغزو في شهر من الشهور الحرم، في حرم مثلاً جعلوا الشهر الحرام في صفر، وجعلوا محرما، وهكذا يلعبون بالشهور الحرم، فكانت تدور بهذه الطريقة، فكان العام الذي وافق حج النبي ﷺ كان ذو الحجة هو ذو الحجة إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ذو الحجة هو ذو الحجة الحقيقي.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الاستدارة حصلت من السنة الثامنة؛ لأن النبي ﷺ ما يمكن أن يقر عتاب بن أسيد، ثم أبا بكر، يقولون: إن أبا بكر قد حج في ذي القعدة، وأن عتاب بن سيد حج في الشهر الذي في قبله، وهو في شوال، كانت تدور، فيقولون إن هذه الاستدارة حصلت قبل ذلك، أرجو أن يكون الكلام اتضح، هذا من أوضح الأقوال -والله تعالى أعلم- وإلا فقد ذكر أهل العلم أكثر من سبعة أقوال في معناها.
فالمقصود أن النبي ﷺ يقول: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ثم فسر ذلك قال: السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وقيل له ذلك؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، يضعون فيه السلاح، وهذا من حكمة الله الناس يأتون للحج، فشهر قبل ذي الحجة، وشهر بعده، يتمكنون من الوصول، والذهاب؛ لبعد المسافات حتى يأمنون.
قال: ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ويقال: ذو الحجة أيضًا، والمحرم، ورجب مضر رجب مضر، رجب المعروف، لماذا نسبه النبي ﷺ إلى مضر؛ لأنهم كانوا أشد العرب تعظيما لحرمته، رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، تأكيدا له أنه ليس كما يحصل بالنسئ، يتلاعبون بالناس، ويجعلون رجب هو لا الذي بين جمادى وشعبان، لا يلتبس على أحد، ويقول: أنا فهمت أن رجب الذي في العام الماضي كان لربما شعبان مثلاً، لا.
يقول: أي شهر هذا قلنا: الله ورسوله أعلم[4]، هم يعرفون أنه شهر ذو الحجة، لكن ظنوا أن النبي ﷺ سيسمه باسم آخر، وهذا من كمال أدبهم لم يتقدموا بين يديه ﷺ فيما يعلمون، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
يقول: فقلنا: الله ورسوله أعلم، وهذا يقوله الإنسان فيما يصلح فيه ذلك يعني الآن بعض الناس يقول دائما الله ورسوله أعلم، أقول: أين زيد، يقول الله ورسوله أعلم، هذا خطأ؛ لأن النبي ﷺ لا يعلم الآن أين زيد، الله هو الذي يعلم، فتقول: الله أعلم.
تقول أين الكتاب؟ ما تقول: الله ورسوله أعلم، تقول: الله أعلم، النبي ﷺ لا يعلم الغيب، لكن في زمن النبي ﷺ أو عن الأحكام الشرعية في زمنه ﷺ فيما يعلمه النبي ﷺ مثل هذا الشهر ما هو، أو نحو ذلك، أو في الأحكام الشرعية.
الآن هل يجوز للإنسان في الأحكام الشرعية إذا سئل قيل له: ما حكم كذا، تقول: الله ورسوله أعلم؟
يصح، لا شك أن الله ورسوله أعلم بأحكام الشرع، فهذا هو الفرق، متى نقول الله، ورسوله أعلم.
الحاصل أنه قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال أليس ذا الحجة؟
قلنا: بلى، قال فأي بلد هذا قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال أليس البلدة، البلدة يعني: البلد الحرام كما في بعض الروايات مكة، ويقال لها: البلدة، علما بالغلبة، كما يقال مثلاً: المدينة، مدينة رسول الله ﷺ وإلا فهذه مدينة، التي نحن فيها، ويقال لها: الدار يعني المدينة، فصار ذلك يتجه لها أليس البلدة قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم .. إلى آخره".
لاحظوا النبي ﷺ ما قال لهم ابتداء: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، لا، ولا قال لهم إنها حرام عليكم كحرمة هذا اليوم، وهذا الشهر، وإنما أراد أن يقررهم بهذه المعاني أولاً؛ لإحضار القلوب، من أجل أن يستحضروا هذا المعنى، ويعوه جيدا الذي يريد أن يقوله لهم -عليه الصلاة والسلام- فماذا قال لهم؟
قال: فإن دماءكم، ويشمل هذا القتل، فما دونه من الجراح، الاعتداء على النفوس بأي لون من الاعتداء إن دماءكم، وأموالكم يدخل فيه كل ما يتموله الإنسان من مركب، ومن نقود، ومن مسكن، وأراض، وعقار، وغير ذلك.
يقول: وأعراضكم والعرض هو محل المدح والذم في الإنسان، أعراضكم، يعني: لا يقدح أحد فيها بأي لون من القدح، ولا بلون من التدنيس، التدنيس مثل: الفجور، الفواحش، انتهاك الأعراض، ويدخل فيه أيضا القذف، ويدخل فيه أيضًا الغيبة، والقدح في الناس، وانتقاصهم، والإزراء عليهم، وبخس الناس حقوقهم المعنوية، وما أشبه ذلك، الكلام في الناس بما يقدح، هذا كله لا يجوز، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، إلى آخر ما ذكر.
- أخرجه البخاري، كتاب، باب قوله: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين، برقم (4662)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة، برقم (369).
- انظر: الكتاب: أخبار النساء، لابن الجوزي (148).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم (1741)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).