الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي تحريم الظلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث عدي بن عميرة وكل ما سمي من الرجال بهذا الاسم عَمِيرة فإنه بفتح العين، وكسر الميم، عَمِيرة، وأما النساء فقد ورد هذا، وهذا، يعني: ورد عَمِيرة، وورد عُمَيرة بأسماء النساء، فكل ما تراه في الكتب من أسماء الرواة، وما أشبه ذلك فهو عَميرة بالفتح، وهو عدي بن عميرة الكندي، روى عن النبي ﷺ ثلاثة أحاديث، هذا واحد منها أخرجه الإمام مسلم في صحيحه يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول: من استعملناه منكم على عمل... استعملناه على عمل كجباية الزكاة مثلاً، والقيام على الصدقات، وأخذها من أصحابها، من دافعيها، أو غير ذلك مما يمكن أن يولى عليه الإنسان كولاية على بلد.
يقول: من استعملناه منكم على عمل، فَكَتَمَنا مخيطا... يعني: الإبرة فما فوقه... ما فوقه يحتمل أن يكون بمعنى: فما دونه، يعني ما أصغر منه، والاحتمالان في الآية من سورة البقرة في قوله -تبارك وتعالى- إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا يحتمل أن يكون المراد فما فوقها يعني: فما هو أصغر منها في الحجم، وأدق من البعوضة، ويحتمل أن يكون المراد: فما فوقها يعني: ما هو أكبر منها، وأعظم في الخلقة.
فهنا فكتمنا مخيطا يعني: إبرة فما فوقها، فما هو أصغر، وأدق منها، ويحتمل، وما هو أكبر منها يعني: الإبرة يمثل بها للشيء الصغير الحقير التافه، تقول: جاء بالخيط والمخيط، أعطيته الخيط والمخيط؛ يعني: ما تركت شيئا إلا وقد خولته إياه.
يقول: فكتمنا مخيطا فما فوقه... كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، كان غلولاً -كما سبق- فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وكما مضى أيضا في الحديث من أن النبي ﷺ ذكر الوعيد على الغلول، وما يأخذه العمال من المال العام بغير حق مما استعملوا فيه.
فذكر قال: لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر... أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
وذكر في الحديث الآخر: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين...[1] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
فالحاصل هنا يقول النبي ﷺ: كان غلولاً يأتي به يوم القيامة... يعني: من أخذ قليلا، أو كثيرًا إبرة، فما دونها، أو ما هو أعظم منها فإنه يأتي به يوم القيامة.
وفي رواية: فهو غل يأتي به يوم القيامة[2] والغل هو الحديد الذي يربط به اليدان مع العنق، يربط به الأسير في يديه، وفي عنقه، فيكون هذا الشيء الذي غله يكون غلاً تربط فيه يداه، وعنقه فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك".
يعني أن النبي ﷺ ولاه على شيء فلما سمع الوعيد سمع الحديث، قال يا رسول الله: أقلني من هذا العمل، لا أريده، خلصني منه؛ لئلا أدخل في حرج، فذمتي لا تتسع لهذا، اقبل عني عملك، قال: وما لك. قال: سمعتك تقول كذا، وكذا، وكذا، ذكر الحديث، قال: وأنا أقول الآن: من استعملناه على عمل فليجيء بقليله، وكثيره، فما أتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى[3] رواه مسلم.
يعني لا يأتي، ويقول: هذا والله هدايا قدمت لي، وهذا هو المال الذي طالبتموني أتيت به، وأما هذه بحكم علاقاتي، ومعرفتي جاء الناس لي بهدايا، هذا جاءني بتحفة، وهذا جاءني بساعة، وهذا جاءني ببشت، وهذا جاءني بسيارة، وهذا جاءني بما شاء الله تبارك الله جاء بمفتاح سيارة، وقال ترى هذه ليست لك هذه لولدك فلان؛ لأنه تخرج من ثالث متوسط، هلا جلس في بيته أبيه وأمه حتى يأتيه، ويعطيه شبح على أن ولده متخرج من ثالث متوسط.
فهذا كله غلول يأتي به يحمله يحمل هذه السيارة يوم القيامة في أرض المحشر، يفتضح أمام الخلائق، والناس يدهمهم العرق كما هو معروف فليأت بقليله، وكثيره فما أتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى.
إذا جاء بقليله وكثيره عند ذلك الإمام له أن يعطيه شيئا من هذا مقابل عمله، وليس له حق أن يأخذ من عند نفسه.
والحديث الآخر الذي ذكره هو حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي ﷺ فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، يحتمل أنهم مروا عليه مرورا مقتولاً، فمروا به، ويحتمل أنه مروا على رجل أي فيما ذكروا، ذكروا أسماء، فلما ذكروا أحد الأسماء قال النبي ﷺ لما قالوا فلان شهيد، فقال النبي ﷺ: كلا يعني: ليس بشهيد إني رأيته في النار في ماذا؟ في بردة غلها بردة ثوب مخطط لو يعطاها، واحد منا ما أخذها في بردة يعني: بسبب بردة، دخل النار بسبب بردة غلها أو عباءة[4] رواه مسلم.
عباءة قتل في سبيل الله، ومع من مع النبي ﷺ فأخبر أنه في النار، فكيف بالذي يجري الصفقات الوهمية بالملايين، صفقات ما لها حقيقة في أرض الواقع، أو صفقات مشرية بقيم عالية، ثم ترد بحجة أنها ما تصلح، أو فيها عيب، ثم يشترى بنصف الثمن، ويذهب نصف الثمن إلى جيبه، كيف بمن يأتي، ويتوقع المسيرات على ثلاثمائة عامل، والواقع أنه ما عنده إلا عشرة عمال، يشتغلون في هذه الجهة، والذين يوقعون ثلاثمائة، وأكثر من ثلاثمائة، والذين يشتغلون ما يصلون عشرة، الباقي هؤلاء الذين هم مئتين وتسعين هذا راتبهم كله غلول، يأتي به يوم القيامة، إذا كانت الإبرة، فكيف برواتب مئتين وتسعين عاملا؟
فهذا ما ينطلي على الله وإن انطلى على الناس، هذا يأكل حراما يأكل جمرًا، ويؤكل عياله حراما، وكل جسم لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ولا يبارك له في هذا، والمسألة الجوع يطرد بكسرة من الخبز، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.
الآن الذين في المسجد منهم من لا يملك إلا القليل، ومنهم من يملك الكثير، ومع ذلك الكل شبعان، والكل ينام، والكل يأتي إلى المسجد في عافية الله ولم يغل، ولم يأخذ، ولم يسط على مال حرام، ولم يأخذ في جيبه شيء من الحرام.
فالإنسان يجب أن يتحرز، وما كتب له من الرزق سيأتيه، إن صبر بالحلال، وإن لم يصبر فبالحرام.
العامل لربما يترك في محل يبيع فيه، ويأخذ كثيرًا من المال، والله يراه، ويكتب عمله، ثم ماذا؟
ثم هو يكثر على نفسه من العذاب والأغلال يوم القيامة، فما يضيع شيء؛ من أخذ في الدنيا شيئا بغير حقه فإنه سيدفع ثمنه غاليا في الغد، نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1612).
- أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأقضية، باب في هدايا العمال برقم (3581) وأحمد في مسنده برقم (17717)، وصححه الألباني في التعليق الرغيب، برقم (2/267).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، برقم (1833).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم (114).