بسم الله الرحمن الرحيم
القواعد الفقهية لابن سعدي
(2) شرح المنظومة من أول الكتاب إلى قوله: الدينُ مبنيٌّ على المصالحِ *** في جلبها والدرءُ للقبائِحِ
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في منظومة القواعد الفقهية:
الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ *** وجامعِ الأشياءِ والمُفرِّقِ
ذي النِّعمِ الواسعةِ الغزيرةْ *** والحِكمِ الباهرةِ الكثيرةْ
ثم الصلاةُ معْ سلامٍ دائمِ *** على الرسولِ القرشيِّ الخاتَمِ
وآله وصحبِه الأبرارِ *** الحائزين مراتبَ الفَخَارِ
اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ *** علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ
ويَكشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ *** ويُوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ
فاحرِصْ على فهمِكَ للقواعدِ *** جامعةِ المسائلِ الشَّواردِ
لتَرْتَقِي في العلم خيرَ مُرتَقَى *** وتَقْتَفِي سُبلَ الذي قد وُفِّقَا
وهذه قواعدٌ نَظَمْتُها *** مِنْ كُتْبِ أهل العلم قد حَصَّلْتُها
جزاهم المولى عظيمَ الأجرِ *** والعفوَ مَعْ غُفرانِه وَالْبِرِّ
لو تقرأ لنا بيتًا بيتًا.
الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ *** وجامعِ الأشياءِ والمفرِّقِِ
الحمد لله، والصلاة والسلام علي رسول الله، أما بعد:
فهذا أوان الشروع في شرح هذه المنظومة المختصرة الميسرة، وهذه الأبيات العشرة هي مقدمة بين يدي المقصود، وهي ثناء على الله، وحمد له، وحث على حفظ القواعد، والعناية بها.
ولكن هذه المقدمة لم تشتمل على شيء من مقاصد هذا العلم، أو متعلقاته، أو مما يقال بين يديه.
ولا شك أنها بالنسبة لعدد أبيات هذه المنظومة تعد طويلة، عشرة أبيات في المقدمة لا تشتمل على شيء من متعلقات هذا العلم تعد طويلة.
والطريقة التي سنسير عليها هي ألا نُخرج هذا الكتاب عن مقصود مؤلفه، هذه المنظومة كتبت لتدرس أولاً في قواعد الفقه، فتوضح القاعدة بعبارة قريبة، وأذكر نص عبارة المؤلف في التعبير عن القاعدة في كتابه الآخر: "القواعد الجامعة"، وذلك أن الشيخ -رحمه الله- ذكر هذه القواعد هنا على طريقة النظم، ومعلوم أن النظم يحوج صاحبه إلى ارتكاب بعض الأمور التي لربما لا يلجأ إليها في النثر؛ لضرورة الشعر؛ فإن مجال الشعر أضيق من مجال النثر، فيحتاج أن يراعي الوزن، وما إلى ذلك، مما قد لا تتحقق معه الدقة المطلوبة التي يحتاج إليها في دراسة علم دقيق كعلم القواعد، ولذلك فإن القواعد من أهل العلم من يزن فيها الحرف في التعبير عنها، فيقصد بعباراتها الاختصار والإيجاز، وأن تكون عبارة شاملة جامعة قدر المستطاع، فإذا وضعنا ذلك على طريقة النظم فإننا نحتاج إلى أمور لا نحتاج إليها على طريقة النثر، ولذلك لو سألت وقلت: ما هو أبعد العلوم من حيث الحاجة إلى نظمه؟
أقول: علم القواعد، للسبب الذي ذكرته: القاعدة تحتاج أن توزن العبارة فيها بدقة، فإذا نظمت ألجأنا ذلك إلى أمور لمراعاة النظم، فسأشرحها شرحاً سهلاً ميسراً يوضح المقصود، والفوائد اللائقة بهذا المتن دون أن نحول هذا المتن إلى موسوعة في فن القواعد، فهذا خطأ
القاعدة تحتاج أن توزن العبارة فيها بدقة، فإذا نظمت ألجأنا ذلك إلى أمور لمراعاة النظم، فسأشرحها شرحاً سهلاً ميسراً يوضح المقصود، والفوائد اللائقة بهذا المتن دون أن نحول هذا المتن إلى موسوعة في فن القواعد، فهذا خطأ
، نحن نشتطّ في الكثير من الأحيان حينما ندرس متناً مختصراً، فنحول هذا المتن الذي قصد به المؤلف الإيجاز والتقريب نحوله إلى موسوعة علمية، فإذا كان هذا هو المقصود فلندرس كتاب: "الأشباه والنظائر" للسيوطي، أو ندرس كتاب الحافظ ابن رجب في القواعد، ولنرح أنفسنا ومن معنا، فهذه طريقة في التعليم ينبغي أن ندركها جيداً، ولذلك لا تَعتبر دراسة هذه القواعد هنا في هذا المتن دراسة نهائية بالنسبة إليك، مَن لا يريد التخصص في العلم سيتصور معانيَ هذه القواعد، سيستفيد منها في تطبيقات، في أشياء، في أمور تمر به، سينتفع انتفاعاً كثيراً -بإذن الله، لكن من أراد أن يواصل في العلم فهو سيدرس هذه القواعد -إن شاء الله- مرات ومرات بطرق أوسع على ما هو معروف من التدرج في طلب العلم.
وكذلك في دراسة هذا المتن ستكون العناية بالمقصود فقط.
أما الطريقة القاتلة التي تتابع الناس على دراستها في كثير من الأحيان مما يقطع الناس عن المقصود فهذا مرفوض تماماً، يعني لو أردنا أن ندرس على طريقة الحواشي، والطريقة التي تجعل المتن الواحد الصغير يدرس في قرون متطاولة، نحتاج أن نقول:
الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ *** .........................
قوله: "الحمد" "ال" للاستحقاق، ودخلت على الحمد، وهذا يدل على إضافة جميع المحامد لله، وإضافة جميع المحامد لله يدل على أنه الكامل من كل وجه؛ لأنه لا يكون الحمد المطلق إلا لمن كان له الكمال المطلق.
واللام في "لله" هنا تدل على الاستحقاق، وتأتي للملك، وتأتي للاختصاص.
و"الحمد" إضافة المحامد، وقيل: هو الثناء، وهو غلط، وذلك للحديث الذي ورد في الفاتحة: (إذا قال العبد: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالفاتحة: 2 قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِالفاتحة: 3 قال: أثنى علي عبدي)([1])، فالحمد على القول الراجح هو تكرار، والثناء هو تكرار الحمد ثانياً.
وما الفرق بين الحمد والشكر؟
بينهما عموم وخصوص مطلق.
وما معنى العموم والخصوص المطلق؟ وما الفرق بينه وبين العموم والخصوص من وجه؟ ثم ما الفرق بين الحمد والشكر؟ وما الفرق بين الحمد والمدح؟ وما الفرق بين الحمد والثناء؟ وسلسلة طويلة من الكلام الذي لا حاجة إليه؛ لأن الدرس في قواعد الفقه.
هذا إذا ما كان فيه بسملة، وإذا كان فيه بسملة في بداية الشرح، تعال خذ الكلام على الباء لوحدها فقط، والاسم، واشتقاق الاسم، "بسم الله"، وكلام طويل، هذه الطريقة غلط، غير صحيحة.
الطريقة الصحيحة: أن يوقف عند الشاهد، هنا إذا كان فيه كلمات غريبة تشرح، يبين المراد بها بأقرب طريق، أما تشقيق الكلام والعبارات هذا الذي يقطع الطريق على طلبة العلم، ويطول العلم، ويجعله بعيد المنال وصعباً، والناس يستمعون يقول: أف، هذا العلم لا يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد، وهذا الكلام غير صحيح، العلم سهل ومبسط ويسير.
فهنا الناظم -رحمه الله- يقول:
الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ *** وجامعِ الأشياءِ والمفرِّقِ
يضيف المحامد إلى الله، ويثني عليه بما هو أهله، فابتدأ بالحمد، وهو شيء لا شك أنه حسن.
و"الأرفق" ليس اسم من أسماء الله، ولكن في باب الخبر يتوسع ما لا يتوسع في باب الأسماء، ولا في باب الصفات، ولو أنه استبدل هذه العبارة بغيرها، فجاء باسم يناسب العليّ مثلاً؛ لأنه ذكر اسمًا من الأسماء، فلو أعقبه باسم آخر، فقال:
الحمد لله العلي الأعظمِ مثلاً، فالأمر في ذلك سهل ويسير.
"جامع الأشياء والمفرق" الله يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، وأرسل الرسل فرقانًا بين الناس.
والمعنى لا خفاء فيه.
جامعِ الأشياء والمفرق.
وفي هذا لربما إشارة إلى موضوع هذا الكتاب، وموضوع هذا النظم، وهو أن القواعد تجمع الجزئيات، ويتبين ما يدخل فيها وما لا يدخل فيها من خلال الاستثناءات، من خلال القواعد الأخرى، كل ذلك يعرف عند دراسة هذا العلم.
ثم قال:
ذي النِّعمِ الواسعةِ الغزيرةْ *** والحِكمِ الباهرةِ الكثيرةْ
أي أن هذا المحمود -- له النعم الكثيرة الوافرة التي لا تحصى في الأبدان، والأموال، والنعم الظاهرة، والباطنة في كل شيء، فنحن نتقلب بنعمه.
"والحكم الباهرة الكثيرة"، فحكمته -- الأمر والنهي، الأمر الكوني، القدر، وكذلك في أمره الشرعي، فأوامره -تبارك وتعالى- مبنية على الحكمة، وأفعاله مبنية على الحكمة، ومن صفاته -تبارك وتعالى- الحكيم، فشرَّع هذه الشريعة التي لا يخرج الشيء منها من تفاصيلها وجزئياتها، وكلياتها عن حكمة بالغة سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.
ثم الصلاةُ معْ سلامٍ دائمِ *** على الرسولِ القرشيِّ الخاتَمِ
بعدما أثنى على الله وحمده؛ صلى على النبي ﷺ، وهذا كله من آداب التأليف: أن يبدأ الإنسان بالبسملة مثلاً، أو يبدأ بحمد الله -تبارك وتعالى-، أن يصلي على النبي ﷺ، وقد كان هذا معروفا لدى العلماء في تصانيفهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم فيما يتعلق بالصلاة على النبي ﷺ أولَّ من وضع ذلك في كتاب.
وآله وصحبِه الأبرارِ *** الحائزي مراتبَ الفَخَارِ
أتبع الصلاة على النبي ﷺ بالصلاة على آله وأصحابه.
والمقصود بـ "الآل" هنا لما ذكر الأصحاب: أهل بيت النبي ﷺ، إذ إن آل النبي ﷺ يطلق على معانٍ متعددة: تارة يطلق على إطلاق ضيق؛ كعلي وفاطمة، والحسن والحسين؛ كما في حديث الكساء([2]).
وتارة يطلق على معنى أوسع يدخل فيه أزواجه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِالأحزاب:33، ولا شك أن أزواج النبي ﷺ من أهل بيته.
وتارة يطلق على من مُنع الصدقة؛ كآل عباس وآل عقيل وآل علي.
فالحاصل:
وآله وصحبِه الأبرارِ *** الحائزي مراتبَ الفَخَارِ
لهم المراتب العالية في الدنيا والآخرة؛ لاتباعهم النبي ﷺ.
اعلمْ هُديتَ أنّ أفضلَ الْمِنَنْ *** علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ
يقول: إن أفضل نعمة تُسدى للعبد بعد الإيمان بالله؛ لأنه لا شك أنه معلوم أن الإيمان هو أفضل نعمة يعطاها الإنسان، ومن حرم الإيمان فقد حرم الخير كله، فبعد الإيمان: العلم الذي يزيل عنه العلل بأنواعها، الشبهات والشهوات.
فالشبهات كما –ذكرنا-:
........................ *** علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك...
ومعلوم أن دواء الشبهات يكون بالعلم، فالناس الذين عندهم شبه، عندهم التباس في بعض الأمور، هؤلاء يحتاجون إلى علم، فالعلم يكشف عنهم ظلام الجهل.
وقال: يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ، الدرن يطلق على الأذى والقذر والوسخ، وما أشبه ذلك، ويريد بالدرن هنا الشهوات، فإن الشهوات هي الداء الآخر الذي ينتاب الإنسان فيقع بسببه فيما حرم الله -تبارك وتعالى-.
ولو أنه قال بدلاً من الدرن: والعمى.
علم يزيل الشك عنك والعمى، مثلاً.
فالدرن لا شك أنه يقع بسبب الشبهات، ويقع بسبب الشهوات، والواقع منه بسبب الشبه أعظم نكاية مما وقع بسبب الشهوة، ولهذا قال من قال من السلف بأن صاحب البدعة لا ترجى له توبة([3])؛ لأنه لا يرجع عنها، يتعبد ربه بهذه البدعة، ويدعو ربه قائماً قاعداً أن يثبته عليها، بينما صاحب الشهوة يقر بالتقصير، ويسأل ربه أن يتوب عليه، وأن يخلصه مما هو فيه، بخلاف صاحب الشبهة.
فالأمر في هذا سهل، وبالنسبة للشهوات علاجها بالوعظ، لذلك العامة أحوج ما يكونون إلى وعظ ورقاق، وإذا عُلّموا من العلم يُعلَّمون ما يحتاجون إليه من الأحكام التي تتعلق بهم، وكذلك يتعلمون أشياء من الرقاق، يحتاجون إلى وعظ يسوقهم إلى الامتثال.
ويَكشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ *** ويُوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ
هذا العلم يكشف الحق ويجليه، فيعرف الإنسان شرع الله -تبارك وتعالى-، وهذه الشريعة مبنية على الاتباع، فلا مجال للابتداع فيها: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)([4])، ومن ثَمّ فإن الإنسان لا يعرف ما شرعه الله -تبارك وتعالى- إلا إذا تعلم، وإلا فإنه إن بقي على جهله فلربما ينقضي العمر وهو يتعبد بأمور لم يشرعها الله -تبارك وتعالى-، وتكون مردودة عليه.
ويَكشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ *** .......................
القلوب: جمع، وذي: مفرد، فالأصل أن يقال: لذوي القلوب -أي لأصحاب القلوب- ليكون الكلام متلائماً متناسباً، ولكنه احتاج ذلك بسبب النظم.
ويكشف الحق لذوي القلوب *** .....................
لكن البيت ينكسر بهذا.
...................... *** ويُوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ.
يعرف العبد الحق الذي شرعه الله، فيمتثل، ويعرف تفاوت الأعمال، ما هو الأفضل، ما هو واجب الوقت، ما هو الأكمل؟ بر الوالدين واجب، والحج مندوب لمن أدى الفرض، فإذا احتاجه أبوه أو أمه أن يبقى عنده وهو يريد الحج، فماذا يقدم؟، إذا تزاحمت عنده المصالح -كما سيأتي- أو تزاحمت المفاسد لابد من ارتكاب أحد الضررين، ماذا يصنع؟ كل هذا يحتاج إلى العلم، يحتاج إلى معرفة خير الخيرين، وشر الشرين، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: ليس الفقيه الذي يعرف الحرام من الحلال، وإنما الفقيه الذي يعرف أعظم الخيرين، فينجو بسبب ذلك في مواطن الاشتباه والتزاحم([5]).
فاحرِصْ على فهمِكَ للقواعدِ *** جامعةِ المسائلِ الشَّواردِ
المؤلف يحرّض على فهم القواعد التي تجمع له ما تفرق وتشتت من الجزئيات، وقد سبق الكلام على هذا وذِكر فوائد هذه القواعد.
لتَرْتَقِي في العلم خيرَ مُرتَقَى *** وتَقْتَفِي سُبلَ الذي قد وُفِّقَا
يقول: إنك إذا حفظت القواعد أو فهمت القواعد ارتقيت في العلم، وهذا صحيح؛ لأن الإنسان إذا عرف القواعد نمت ملكته، وصار يبني الأحكام على أصول صحيحة، وينطلق من هذه القواعد في التفريع، وصارت هذه القواعد تضم له أشتات المسائل، وكثيراً من الجزئيات، فصار ذلك سبباً لإلمامه بكثير من الأحكام، مع أنه درس أشياء محدودة يسيرة، وقد ذكرت قول بعض أهل العلم حينما يضيق على الإنسان هل يدرس الفروع أو يدرس شيئاً من القواعد إما هذا وإما هذا؟، فكان بعضهم يرجح دراسة هذه القواعد؛ لأنها تلم له شعث هذه الجزئيات.
وهذه قواعدٌ نَظَمْتُها *** مِنْ كُتْبِ أهل العلم قد حَصَّلْتُها
قال: وهذه قواعدٌ، والأصل أن القواعد ممنوع من الصرف، أصله على وزن فواعل، فلا ينون، الممنوع من الصرف لا ينون، لكنه هنا نونه من أجل النظم.
وهذه قواعدٌ نَظَمْتُها *** مِنْ كُتْبِ أهل العلم قد حَصَّلْتُها
يقول: هذه القواعد جمعتها من كتب أهل العلم، ولا شك أن هذه القواعد موجودة في كتب القواعد، وهي متفرقة أيضاً في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم.
جزاهم المولى عظيمَ الأجرِ *** والعفوَ مَعْ غُفرانِه وَالْبِرِّ
هو هنا ينسب هذه القواعد إلى العلماء، وهذا من الأدب أن يضيف العلم إلى من أخذه منه، ويدعو لهؤلاء العلماء الذين استفاد منهم، فهذا كله من آداب طالب العلم.
أظن أن الكلام في هذه الأبيات سهل، والشيخ من عادته -رحمه الله- أن كلامه في غاية السهولة والوضوح، فلا يحتاج إلى تعقيد بالشرح.
فهذه عشرة أبيات شرحناها في عدة سطور، والطريقة العقيمة أن تجلس في هذه الأبيات الليالي والدهور من أجل أن تشرح كل حرف فيها وتفكك، وتبين الحقيقة والمجاز، ولماذا عبر بكذا، ولم يعبر بكذا؟ ولماذا قدم كذا؟ وأشياء لم تخطر على بال الناظم، فهذا غير صحيح.
والنيةُ شرطٌ لسائِر العملْ *** بها الصلاحُ والفسادُ للعملْ
هذه القاعدة الأولى ذكرها في صدر هذه المنظومة، ولا شك أن هذا هو أحسن مكان توضع فيه لسببين: السبب الأول: أنها تتعلق بالنية، ولا شك أن التذكير بالنية يحسن أن يكون في البداية، ولهذا كان طائفة من أهل العلم يوصون بوضع حديث: (إنما الأعمال بالنيات)([6])، في أول المصنفات؛ ليكون ذلك تذكيراً لهم، وتذكيراً لمن قرأه باستحضار النية.
والسبب الثاني: أن هذه القاعدة قاعدة: "الأمور بمقاصدها" هي أجلّّ القواعد وأنفع القواعد، وأعظم القواعد، وهي تدخل في جميع أبواب الفقه.
وحينما نقول: "أجلّ القواعد"، فإن ذلك لا يعني أنه لا توجد قاعدة نظيرة لها؛ فإن "أفعل" التفضيل لا تمنع التساوي، فهذه القاعدة في المرتبة الأولى من القواعد في جلالتها وعظمها ونفعها.
هذه القاعدة يعبر لها العلماء عادة بعبارة مختصرة: "الأمور بمقاصدها"، بلفظين، هنا قال:
والنيةُ شرطٌ لسائِر العملْ *** بها الصلاحُ والفسادُ للعملْ
أي: أن أعمال الإنسان مبنية على النية.
والكلام في هذه القاعدة يطول جدًّا، ويمكن أن تقام دورة كاملة لشرح هذه القاعدة فقط؛ لكثرة ما تحتها من القواعد ومن التفصيلات.
ولكن كل مقام له ما يناسبه، فشرح هذه المنظومة لا يصح معه إطلاقاً أن يوسع الكلام عليها بما يتنافى مع مقصود الناظم -رحمه الله تعالى- بوضع هذا النظم أو هذا الكتاب.
أدلة هذه القاعدة كثيرة جدًّا من الكتاب ومن السنة، قاعدة: "الأمور بمقاصدها" الله اعتبر النيات، أدلة القواعد مبثوثة في الكتاب والسنة، أحياناً -كما ذكرنا- تكون القاعدة مأخوذة من نص من حديث رسول الله ﷺ، وأحياناً من عبارة قالها بعض الصحابة، وأحياناً بعض السلف وبعض التابعين مثلاً، وأحياناً أحد العلماء.
فالمقصود: أن هذه القاعدة قاعدة مجمع عليها بالاتفاق، وإن اختلف العلماء في بعض التفاصيل المتعلقة بها: "الأمور بمقاصدها" الشارع اعتبر المقاصد في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، الله يقول: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ هذا الإنسان تلفظ بالكفر، فالله يقول: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًاالنحل:106 ففرق بين اثنين تكلموا بكلمة الكفر، هذا له قصد، وهذا له قصد، حتى الكلمة التي يقولها الإنسان -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لربما تصدر الكلمة من محب فتغفر، وتصدر من آخر ولا تغتفر، كلمة واحدة ينطق بها اثنان، فمثلاً الرجل الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)([7])، الله لم يؤاخذه، ولكن لو قالها إنسان يستهزئ فإن هذا من أعظم الكفر.
فالقصد اختلف معه الحكم، هذا لم يقصد، فاغتُفر هذا القول له، والآخر قصد فلم يغتفر له، وصار من أعظم الكفر.
عمر فيما نقل عنه حينما ذكر النبي ﷺ الفتّان في القبر، فماذا قال عمر؟ قال: "والله لئن أتيا إليّ لأسألهما من ربكما؟" يقول: الملَك يسألني: من ربك؟ في القبر هل هذه قضية تحتاج إلى امتحان حتى يمتحنني فيها: أنا متوثق تماماً منها، أنا أسأله من ربك؟ هذه الكلمة لو قالها إنسان يلعب أو يستهزئ لربما سقط في النار سبعين خريفاً، أو أبعد ما بين المشرق والمغرب، لكن إذا قالها مثل عمر في معرض توثقه من الإيمان فإن ذلك يكون مغتفراً في حق مثله، وهكذا في عبارات كثيرة لربما يقولها الإنسان وهو يقصد معنى صحيحًا، ويقولها آخر وهو يقصد معنى سيئاً، فيكون ذلك مغتفراً لهذا ولا يغتفر للآخر.
وفي قول الله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِالنـور: 26 مما ذكره بعض أهل العلم، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله-، وهو جزء من معناها في الواقع: أن الكلمات الطيبة ترجع للطيبين في مدلولاتها ومعانيها وآثارها، فهي تصدر منهم، وإذا قيلت في حقهم فإنها تصدق عليهم، وأن الكلمات الخبيثة تلائم وتليق بالخبيثين، فإن قيلت في حقهم صدقت عليهم، وإن قالوها فهم أهلها ومنبعها، وإذا قال الطيبون كلمة لا تليق فإنها لا تضرهم([8])، هكذا ذكروا.
فالحاصل: أن هذا مما يدخل في معنى الآية، وهذا كله يرجع إلى الأصل الذي نتكلم عنه وهو "الأمور بمقاصدها"، أن قصد الإنسان لا شك أنه يؤثر في عمله، الله يقول: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْالأحزاب: 5 لما نهاهم عن نسبة هؤلاء الأدعياء إلى غير آبائهم: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الأحزاب: 5، فإذا كان هذا الدعيُّ ينسب إلى غير أبيه، واعتاد الناس هذا، فهذا الإنسان سبق لسانه فقال: يا فلان بن فلان، نسبه إلى غير أبيه، جرياً على المعتاد، ولم يقصد المخالفة فإن هذا يغتفر، لكن لو قالها إنسان وهو غير عابئ بأمر الله، فإنه يكون عاصياً آثماً.
وهكذا في أمثلة كثيرة.
ومن دعاء المؤمنين الذي أرشدنا الله إليه في آخر سورة البقرة: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاالبقرة:286، فقال الله: (قد فعلت)([9]).
والله يقول: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْالبقرة: 225، وهذا في الأيمان، فإذا قال الإنسان الحلف مثلاً وهو لا يقصد اليمين، لم تنعقد في قلبه، وإنما جرى ذلك على لسانه، أو قاله في موضع في مغالبة ومخاصمة أو على سبيل الإكرام، أو نحو ذلك، ولم ينعقد اليمين في قلبه فإنه لا يؤاخذ بذلك.
ومن أوضح الأدلة الدالة على هذه القاعدة حديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ثم ذكر مثالاً لعمل يرتبط بالنية، ويتفاوت فيها غاية التفاوت، وهو من أجلّ الأعمال، وهو الهجرة: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([10]).
ولما سئل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل حمية، وعصبية، وشجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)([11])، فهذا قاتلَ وهذا قاتلَ، وبينهما كما بين المشرق والمغرب، وكذلك الجيش الذي يغزو الكعبة يُخسف بهم وفيهم الخدم، وفيهم التجار، وفيهم الجمالون، وما إلى ذلك، أخبر النبي ﷺ أنهم يبعثون على نياتهم([12])، هذا الجيش الذي يغزو الكعبة يبعث من فيه على نياتهم، فالنية أثرت هذا التأثير في مثل هذه الأعمال.
ومما يستشهد به أيضاً لهذه القاعدة ويصلح في هذا المقام حديث: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، حديث أبي هريرة مرفوعا عن النبي ﷺ، وذكر الثلاثة: رجل قاتل، ورجل أنفق، ورجل قرأ القرآن، أو تعلم العلم، هذا قاتل ليقال: شجاع، وهذا أنفق ليقال: جواد، وهذا قرأ القرآن ليقال: قارئ([13])، فهذه ثلاثة أعمال من أجلّ الأعمال، يكفي أنه بذل مهجته، والآخر بذل ماله، وأغلى ما لدى الإنسان هو المهجة والمال.
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ *** الجود يُفقر والإقدام قتّالُ([14]).
فبذل هذا وهذا، ثم يكون بعد ذلك أول من تسعر به النار يوم القيامة، لماذا؟ لأن نيته فاسدة.
والرجل الذي كان يقاتل وأثنى عليه أصحاب النبي ﷺ في الحديث المعروف، فقال النبي ﷺ: (هو في النار)، فتبعه رجل منهم، ثم أصابته جراحة شديدة، واستعجل الموت، إلى آخر الحديث المعروف([15]).
الحاصل: أنه ذكر أنه كان يقاتل حمية وعصبية لقومه، لم يكن قصده نصر الدين، ولا إعلاء كلمة الله.
وكذلك الأحاديث الأخرى مثل: (رفع القلم عن ثلاثة) لماذا؟ لأن النية والقصد والإرادة لا تصلح منهم مثل المجنون والصبي والنائم([16]).
وكذلك أيضاً: (إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)([17]).
فالحاصل: أن هذه الأشياء لا يؤاخذ الإنسان عليها.
هذه بعض أدلة هذه القاعدة، وأدلتها كثيرة جدًّا.
ومما يذكر في هذه القاعدة من المعاني المفيدة: ما آثار هذه النية؟
آثارها لا تحصى، فالنية تؤثر في كون العمل مقبولاً أو غير مقبول: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاالكهف:110 أن يكون العمل صوابًا، وأن يكون خالصاً لوجه الله، فالإخلاص مطلوب، فشروط قبول العمل ثلاثة:
1- أن يكون على عقيدة صحيحة.
2- وأن يقصد به وجه الله -تبارك وتعالى-، الإخلاص.
3- أن يكون العمل صواباً موافقاً لما شرعه الله -تبارك وتعالى-.
فهذه ثلاثة شروط، في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِالكهف: 2 ذكر الإيمان والعمل الصالح، وفي آخرها: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاالكهف: 110، ونظائر ذلك في الكتاب والسنة كثيرة.
فإذن النية تؤثر في قبول العمل، في كونه لله أو لغير الله رياءً وسمعة، وما إلى ذلك، فهذه تؤثرها النية، هذا رجل يصلي لكن قد يصلي لله وقد يصلي لغير الله، وتؤثر النية أيضاً في تميز العبادة عن العبادة، هذا يصلي ركعتين هل هي تحية المسجد؟ هل هي فرض الفجر مثلاً؟ ما هي؟ ما الذي يؤثر في هذا الأمر؟ هو النية.
أحد الإخوة سأل: إمام صلى العشاء بنية المغرب وهو مخطئ، هو أراد أن يصلي العشاء فصلاها بنية المغرب، فأْتمَّ به الناس، إمام المسجد، فصلى بهم ثلاث ركعات، فقالوا: سبحان الله، فقام إلى رابعة، فما حكم صلاة هذا الإنسان؟ وما حكم صلاة هؤلاء؟ هذا كيف يُعرف الحكم فيه؟.
بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)([18])، فنحن بهذا الحديث وبقاعدة: "الأمور بمقاصدها" نستطيع أن نفرق بين الأعمال هذا فرض، لكن ما هو هذا الفرض؟ صلاة ظهر، صلاة عصر، ما هذا الفرض؟ هذا نفل، ما هذا النفل؟ هل هو سنة راتبة؟ أو نفل مطلق؟ هل هو سنة الضحى؟، هذا الصوم الذي يصومه الإنسان هل هو فرض؟ قضاء رمضان مثلاً؟ هل هو نذر؟ هل هو نافلة؟ وهل هو نافلة معينة كالإثنين والخميس، الأيام البيض، عاشوراء، عرفة؟ أو أنه نفل مطلق؟ ما الذي يحتاج إلى نية من هذه الأشياء خاصة في مسألة الصيام أن يبيت الصوم من الليل؟
فالنية إذن تفرق بين العمل الذي لله والذي لغير الله، وتفرق في العمل الذي يكون لله ما هو؟ ما نوعه؟ هل هو فرض أو نفل؟ وإن كان فرضاً فمن أي الفروض؟، أشياء وتفاصيل كثيرة تدخل تحت هذه الجملة.
وكذلك النية أيضاً تفرق بين العادة وبين العبادة، هذا الإنسان اغتسل ما هذا الغسل؟ إنسان يقول: إن عليه جنابة، ثم اغتسل ناسيًا للجنابة، اغتسل للتنظف، هل يجزئه؟
الجواب: لا، لا يجزئه، لماذا؟ هي قضية واحدة فقط: النية.
هذا الإنسان اغتسل يوم الجمعة من الجنابة، ونسي أن ينوي الجمعة بهذا الغسل، هل يجزئه؟ هذه عبادة وهذه عبادة، والعبادة والعادة: غسل الجمعة وغسل النظافة.
لو أن الإنسان لم يأكل يوماً كاملاً، نائم أو مشغول أو مريض، ما أكل، لكنه لم ينوِ هل يعتبر هذا صيامًا؟
لا.
لكن لو نوى يعتبر صام يوماً في سبيل الله.
فالنية هي التي افترق بسببها العمل.
هذا الإنسان يطلب العلم يقصد وجه الله هذه عبادة، وآخر يطلب العلم؛ لأنه يلتذ به، كلما انفتقت له معانٍ ومعارف حصلت له لذة، فهو يتلذذ بالعلم، فعمله هذا ليس بعبادة، والآخر عمله عبادة.
النية أصل في العمل، ولكن هل تطلب في جميع الأعمال؟ ما هي أعمال الإنسان؟
أعمال الإنسان أربعة أشياء: قول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، والترك.
الترك فعل من الأفعال: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُالمائدة: 79، فعابهم الله، وسماه: فعلاً.
وكذلك قول أحد الصحابة لما كانوا يبنون المسجد في أول ما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، حينما كان النبي ﷺ يحمل اللّبِن مع أصحابه، وهذا قاعد يتفرج، فقال:
لَئِنْ قَعَدنا والنَّبيُّ يعملُ *** لَذاكَ منّا العملُ المُضلَّلُ([19]).
فسمى قعوده عن العمل مع رسول الله ﷺ: عملاً.
فالحاصل: أن هذا كله من العمل، فما الذي يحتاج من هذه الأشياء إلى نية؟
أقوال اللسان تحتاج إلى نية.
وهل جميع أقوال اللسان تحتاج إلى نية؟
على سبيل المثال: ما لا يقع إلا على صورة واحدة، صورة العبادة، قراءة القرآن هل تلتبس مع العادة؟، لأنه في الغسل ممكن أن يغتسل الإنسان للتبرد والتنظف، ويمكن أن يغتسل الغسل الشرعي، ولكن قراءة القرآن هل تقع على صورتين: عادة وعبادة؟
لا، (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)([20])، لكنها تحتاج إلى نية أخرى، ما هي؟
النية التي تفرق بين العمل الذي لله، والعمل الذي لغير الله، يحتاج أن يكون مخلصًا في هذا، وأظن أن هذا هو الفرق والملحظ في هذه المسألة التي بعض العلماء يقول فيها: ما لا يقع إلا على صورة واحدة لا يحتاج إلى نية كقراءة القرآن، وبعضهم يقول: بل يحتاج إلى نية، هو لا يحتاج إلى نية تميزه عن العادة، وإنما يحتاج إلى نية تميزه عن العمل الذي لغير الله، أن يتوجه بهذا العمل لله -تبارك وتعالى-؛ لأنه قد يقرأ رياءً وسمعة.
هذا بالنسبة للأقوال.
وبالنسبة لأعمال الجوارح العبادات المشروعة منها لا شك أنها تحتاج إلى نية، لا شك، لو واحد يصلي ولم يقصد الصلاة لكن قصد أن يرضي وأن يسكت من أمره بذلك مثل والده مثلًا، هو لم ينوِ الصلاة، هل تكون صلاته صحيحة؟، أو قصد التعليم ولم ينوِ الدخول في الصلاة فما الحكم؟
إنسان لبس الإحرام ثم مر بالميقات ولم ينوِ النسك أصلاً، وذهب وطاف بالبيت والصفا والمروة، وذهب إلى عرفة وذهب إلى منى ومزدلفة، هل يعتبر ذلك حجًّا؟
الجواب: لا، ليس ذلك بحج، لماذا؟ لأنه لم ينوِِ، و"الأمور بمقاصدها": (إنما الأعمال بالنيات)([21]).
فأعمال الجوارح على قسمين:
قسم منها عبادة مشروعة بصفتها بهيئتها، فهذا يحتاج إلى نية.
والقسم الثاني: هو من قبيل العادات، فهل هذه العادات يؤجر الإنسان عليها أو لا يؤجر؟
لا يقال: إنه يؤجر عليها بإطلاق، ولا يقال: إنه لا يؤجر عليها بإطلاق إلا بالنية.
لا شك أنه إن نوى بهذه الأمور وجه الله، أو معنى يحبه الله فإنه يؤجر عليها، مثل النوم هو عادة من العادات، فلو أنه نام وهو يريد التقوِّي بذلك على العلم، فإنه يؤجر.
وآخر نام وهو يريد أن يحضر حفلة ماجنة، سهرة ماجنة، فإنه يأثم على هذه النومة.
إنسان اشترى سيارة من أجل أن يذهب بها إلى مجالس العلم، ويحضر الدروس، يؤجر على شرائها، والثمن الذي دفع فيها، وعلى كل خطوة يخطوها.
وإنسان آخر اشترى سيارة ليلاحق بها البنات؛ فمثل هذا يأثم على هذا المال الذي دفعه، وعلى شراء هذه السيارة: (إنما الأعمال بالنيات).
هذا بالنسبة للعادات المباحة، لا شك أنه إن قصد بها معنى يحبه الله أنه يؤجر عليها.
هل يؤجر على شيء من العادات المباحة من غير أن يقصد بذلك وجه الله -؟
إذا تأملنا الأدلة نقول: نعم، قد يؤجر الإنسان ولو لم تكن له نية، فعل ذلك بدافع الجبلّة، المرأة التي جاءت إلى عائشة -ا- المرأة الفقيرة المسكينة، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة من بناتها تمرة، فكل واحدة من هؤلاء البنات التهمت هذه التمرة بلحظات، فلما رفعت الأم التمرة التي لها -الثالثة- فكل واحدة من هؤلاء الجواري رفعت يدها تريد هذه التمرة، فلما وصلت إلى فمها أخرجتها وقسمتها نصفين، وأعطت هذه شطراً منها، وهذه شطراً منها، فأخبر النبيُّ ﷺ عائشة لما حكت له هذا: أن الله قد أدخلها بذلك الجنة([22])، هذا عمل تدعو إليه الجبلّة، الأم وعاطفتها، تموت من أجل أن تحيا هؤلاء البنات أليس كذلك؟! ومع ذلك دخلت الجنة.
المرأة البغي من بني إسرائيل لما أصابها ما أصابها من العطش، ثم وجدت الكلب، إلى آخره، فلما رأته تذكرت حالها فأعطته، أحسنت إليه، فأخبرنا النبي ﷺ أن الله قد غفر لها وهي بغي، تزني بأجرة، من بغايا بني إسرائيل([23])، فأُجرت على هذا العمل.
وكذلك الرجل الذي تصبب عرقاً، فقال بعض أصحاب النبي ﷺ: لو كان ذلك في سبيل الله؟ كان يعمل في مهنة، حطاب، نجار، أو غير ذلك، فقالوا: لو كان ذلك في سبيل الله؟ قال: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)([24])، فلم يذكر هنا قضية النية، مع أن هذه أمور تدعو إليها الجبلّة، فالكافر والمؤمن كلهم يعمل في الدنيا ويكدح لأجل أن يحصّل قوته، ويطعم عياله، ومن تحت يده ممن ينفق عليهم، فأخبرنا النبي ﷺ أنه يؤجر، ولذلك فلو قالت المرأة: أنا أعمل في البيت، فأكنس الدار، وأغسل الأواني، هل أُثاب على هذا؟
نقول: نعم تؤجرين.
تقول: وإن لم أحتسب؟
وإن لم تحتسبي، فأنت على خير، وتقومين بعمل طيب من شأنه أن تُعْمر به الدنيا، إذا تعاون الرجل والمرأة، فالمرأة بقيت في بيتها وجاء زوجها وقد وجد كل شيء قد هُيئ له، وما إلى ذلك.
وأعمال القلوب لا شك أن النية لا يمكن أن تلتبس مع غيرها فيما يتعلق بهذه الأعمال، ولهذا ذُكر من فضائل الأعمال القلبية على غيرها من أعمال اللسان، وأعمال الجوارح: أن عمل القلب لا يمكن أن يقع مما يراد به وجه الله مما يحبه الله كالتوكل والخوف والرجاء والمحبة، لا يمكن أن يقع ويراد به الرياء والسمعة إلا إذا حل معه أمر زائد، كأن يخبر به، أما الذي في القلب فلا يمكن أن يرائي به، كيف ترائى بخوفك من الله وبمحبته؟ إلا إذا حصل معه أمر زائد بالجوارح، يخبر باللسان، أو يُظهر التخشع بجوارحه رياءً.
أما نفس عمل القلب فلا يدخله الرياء، فضلاً عن السمعة.
التروك، هل يؤجر الإنسان على مجرد الترك؟
طلاب علم جلسوا في مسجد هل تنهال عليهم الآن الحسنات بحجة أنهم غضوا أبصارهم عن الحرام؟
الجواب: لا، إلا بتحصيل أجر مجلس الذكر.
متى نؤجر على الترك؟
إذا كان الترك خوفاً من الله.
لكن لو أنه تركه خوفاً من الناس لا يؤجر، وكلما قوي الداعي كلما عظم الأجر: (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)([25])، فيؤجر الإنسان على تركه هذا مع قوة الداعي له، وتهيؤ الأسباب، لكن إذا وجد الداعي القوي والأسباب غير مهيأة ولا يمكنه، لا يؤجر.
يقول: أنا أتمنى أن أكون غنيًّا، ولو حصل لي صفقة ما آخذها، تحصل لك صفقة؟! هو حصل لك صفقة أصلاً؟ لكن لو حصلت له صفقة وما أخذها يؤجر.
أو إنسان عايش في جزيرة في البحر لوحده ما عنده أحد، ويقول: أنا أترك الفواحش خوفاً من الله، جزاك الله خيرًا، لكن هل حصلت لك وتيسرت لك أسبابها أصلاً حتى نقول: تركتها خوفاً من الله؟
وهكذا..
إنسان في مجلس علم يقول: والله أنا غاضٌّ بصري خوفاً من الله! غاض بصرك الآن عن ماذا؟
لكن لو أن أمامه شيئًا يستدعي النظر، وتدعوه نفسه إلى النظر المحرم، فهنا يقال: يؤجر على صرف النظر.
فالترك متى نؤجر عليه ومتى لا نؤجر عليه؟
إذا تعلقت به النية.
هذا في باب التروك، فصارت المسألة فيها هذه التفاصيل.
ولذلك من القواعد التي يذكرها العلماء تحت هذه القاعدة: قاعدة: "لا عمل إلا بنية"، ليست على إطلاقها، بناءً على التفصيل الذي ذكرته آنفاً.
وهنا القواعد التي يذكرونها تحتها: "العبرة في العقود بالمقاصد لا بالألفاظ"، قاعدة أيضا ليست محل اتفاق.
وأما ما يتعلق بمعنى النية من كلام الناظم فيقول:
النيةُ شرطٌ لسائِر العملْ *** بها الصلاحُ والفسادُ للعملْ
النية هي القصد.
وهل هي بمعنى الإرادة؟
نعم، تطلق بمعنى الإرادة، وإن كانت الإرادة أعم من النية، إذ إن النية تستعمل في العمل الذي يخص الإنسان، عمله هو، والإرادة ما يصدر منه ومن غيره، تقول: أريد منك أن تعمل الشيء الفلاني، ولا تقول: أنوي منك أن تعمل الشيء الفلاني.
فالإرادة أوسع من النية، النية إرادة خاصة بالإنسان، والإرادة تختص به وتتعلق بغيره.
النية شرط لسائر العمل.
بناء على التفصيل الذي ذكرناه هناك أشياء لا يشترط فيها النية، من جهة الثواب -كما ذكرنا-، ومن جهة سقوط التبعة، رد الديون، رد الغصوب، إنسان غصب أرضاً أو سيارة، أرجعها لصاحبها، لو ما نوى وجه الله، أو ما نوى ردها، فأخذها إنسان وردها إلى صاحبها، فإن ذلك يحصل به المقصود وإن لم ينوِ.
لكنْ إنسانٌ أقرض إنسانًا مائة ألف ريال، أو ألف ريال، ثم تبين أن هذا الإنسان معدم، وعليه ديون ومشاكل، وأناس يطالبونه، ودخل السجن، فالأخ يسأل يقول: هل لي أن أحتسبها من الزكاة؟
تحتسب الآن هذا القرض الذي صار على هذا المعسر تحتسبه من الزكاة؟ لا يمكن؛ لأنك أخرجته بنية القرض، فالنية لا تكون ثانياً، وإنما تكون في ابتداء العمل.
لكن من الناس من يسأل يقول: لي أقارب فقراء ويريدون مني قرضاً، وأنا عندي زكاة هل أعطيهم بنية الزكاة؟
نقول: أعطهم إن كانوا يقبلون الزكاة.
الدينُ مَبْنِيٌّ على المصالِحِ *** في جَلْبِها والدَّرْءِ للقبائِحِ
هذه القاعدة الثانية، ونص عبارة المؤلف -رحمه الله- في كتاب القواعد الجامعة، يقول: "الشارع لا يأمر إلا بما مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة"، وهذه القاعدة من القواعد المتفق عليها، وهي من أعظم القواعد، وأنفع القواعد، فالشريعة جميعاً مبنية على المصالح، ودفع المفاسد، بل كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بجلب المصالح، ودفع المفاسد، ومهمة الدعاة إلى الله تكثير المصالح، وتقليل المفاسد، الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- من أولها إلى آخرها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله؛ لتكثير المصالح، وتقليل المفاسد، فإذا كان ذلك أو شيء منه يفضي إلى تكثير المفسدة على المصلحة، فهو ليس من العمل الصالح، بل كان من العمل السيئ الذي يذم فاعله، والله يقول: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الأنعام: 108، فسب آلهة المشركين لا شك أن فيه مصلحة، أليس كذلك؟، هذه الآلهة المُدَّعاة التي يُخضعون لها رقابهم، يسجدون لحجر، ويقدمون له القرابين، ومع ذلك إذا كان يفضي إلى سب الله فإن ذلك يكون مفسدة، ولا يجوز للإنسان أن يفعله، ولهذا يقول النبي ﷺ: (لعن الله من لعن والديه)، ولما سألوه: وهل يلعن الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)([26])؛ لأنه لن يتفرج عليه إذا سب أباه، فسيرد عليه بالمثل غالباً، فيكون هذا الإنسان متسبباً في لعن والديه، فدل ذلك على أن المآلات في الشريعة معتبرة، ما يصير إليه، ما يئول إليه فعل الإنسان، أو قول الإنسان من المفاسد، فإن ذلك يجب أن يراعى، ولا يقول الإنسان: أنا عليّ أن أفعل الفعل والنتائج إلى الله -.
نقول: تعمل العمل الصالح الذي وقع فيه التحري كما أمر الله، وتغلب مصلحته على مفسدته، أما الثمرات كونها ظهرت أو لم تظهر فهذا إلى الله، ليس إليك، كونه ما تابعك على الحق أحد، ما استجاب أحد، ما اهتدى أحد، يأتي (النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد)([27]).
أمّا أن تعمل أعمالا من شأنها أن تفسد الأرض، ولها آثار سيئة ثم بعد ذلك تقول: أنا أعمل العمل والنتائج إلى الله، فهذا الكلام غير صحيح، ولا يقبل من قائله.
فإذن الشريعة مبنية على تكثير المصالح وجلبها، وتقليل المفاسد ودفعها.
ما معنى المصالح؟
المصالح هي المنافع، ولا بأس من تعبير بعض العلماء بقولهم: المنافع واللذات.
والمفاسد ما هي؟
هي المضار، وبعض العلماء يقولون: المضار والآلام.
فالآن عندنا المصلحة مطلوبة، أي تحصيلها، والمفسدة مطلوب دفعها أو تقليلها، هذه المصالح التي أمر الشارع بتحصيلها، والمفاسد التي أمر الشارع بدفعها، ما الذي يدلنا على ذلك؟ نقول: أدلة كثيرة جدًّا في الكتاب والسنة تدل على أن الله يأمر بذلك، ويرضى به، وأن كل ما جاء به الشارع فهو مصالح، وكل ما نهى عنه فهو مفاسد؛ إما خالصة وإما راجحة، الله يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِالنحل:90.
فهذه الأمور الثلاثة التي تقابلها ثلاثة -المأمورات والمنهيات-، يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، لو أردنا أن نشرح هذه الأشياء وما يدخل تحتها نجد أشياء كثيرة جدًّا، وغير ذلك من النصوص؛ كقوله -تبارك وتعالى- في المفاسد: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ الأعراف:33، قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الوصايا في الأنعام: أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالأنعام:151، إلى غير ذلك مما ذكر الله -.وكذلك في الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:٢٣].
ثم بعد ذلك أمر بالإحسان والبر والصلة لذوي القرابات، وكذلك نهى عن قتل الأولاد: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ الإسراء:31.
نهى عن قتل النفوس: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّالإسراء:33.
ونهى عن أكل مال اليتيم وقربانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُالإسراء:34.
ونهى عن المشي في الأرض مرحًا، وأن يقفوَ الإنسان ما ليس له به علم، وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط، ونهى عن بخس الناس أشياءهم، في نصوص لا تخفى عليكم في كتاب الله -تبارك وتعالى.
ولما ذكر الله الطهارة، قال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْالمائدة:6.
وكذلك قول النبي ﷺ: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([28]).
وفي رواية: (لأتمم صالح الأخلاق)([29])، فالنبي ﷺ جاء لتكميل هذه الخصال والمنافع والكمالات، وتقليل الشر والفساد، ورأس ذلك: الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى.
وهذه المنافع التي جاءت بها الشريعة تشمل كل ما أمر الله به ورسوله ﷺ، وكل ما يحبه الله ويرضاه، من أول الشريعة إلى آخرها: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)([30])، كل هذا من المنافع والمصالح.
وهذه المصالح ليست على مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة غاية التفاوت، ولهذا يحتاج الإنسان إلى معرفة هذا التفاوت لأمور متعددة؛ نحتاجه من أجل تقديم الأهم عند التزاحم، ودفع الأسوأ من المفاسد:
إنّ اللبيبَ إذا بدا من جسمه *** مرضان مختلفان داوى الأخطرا
فندفع الشر الأكثر، ويعرف هذا من سيرة النبي ﷺ وسيرة الأنبياء التي قصها الله علينا في القرآن، كيف كانوا يدعون إلى التوحيد، ويأمرون بجمل من مكارم الأخلاق ومحاسنها، وينهون عن الشرك أول ما ينهون عنه، وعن أمور من الانحرافات العظيمة؛ كقطع الطريق، والفواحش بأنواعها، وأكل أموال الناس بالباطل، وما إلى ذلك مما هو معروف مما قص الله علينا من خبرهم في القرآن.
فهذه الأشياء كلها من المنافع، أعني ما أمر الله به، وما نهى عنه كله من المفاسد، لكنها متفاوتة.
والعلماء يقسمون هذا التفاوت إلى ثلاثة أقسام:
الضرورات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
ما هي الضرورات؟
هي ما لا تقوم حياة الناس إلا بها.
وما هي الحاجيات؟
هي ما لو فقدت لبقي الناس في حرج شديد.
وما هي التحسينيات؟
التحسينيات هي ما جاءت به الشريعة من حمل الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وحفظ المروءات، وما إلى ذلك.
وحينما يقال: ضرورات وحاجيات وتحسينيات، ليس معنى ذلك أنها واجبة ومستحبة مثلاً، ليس هذا المقصود، التحسينيات فيها أشياء واجبة، والحاجيات فيها أشياء مباحة وواجبة ومندوبة، ليس المقصود هنا معرفة الحكم الذي هو الوجوب أو الندب أو الإباحة؛ وإنما مرتبة ذلك بالنسبة لشدة تعلق الحاجة به، من خلال قيام مصالح الناس في دنياهم.
التحسينيات فيها أشياء واجبة، والحاجيات فيها أشياء مباحة وواجبة ومندوبة، ليس المقصود هنا معرفة الحكم الذي هو الوجوب أو الندب أو الإباحة؛ وإنما مرتبة ذلك بالنسبة لشدة تعلق الحاجة به، من خلال قيام مصالح الناس في دنياهم.
فهذه الأمور الضرورية خمسة: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
وبعض أهل العلم يقول: العرض، والنسل، فيجعلها على ستة أقسام.
فعلى كل حال: أعلاها الدين بالاتفاق، ثم النفس، والباقي فيه خلاف في ترتيبه.
ثم الحاجيات، هذا يفيدنا في أولويات الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، بماذا نبدأ؟
نبدأ بالتوحيد، والقضايا المتعلقة بهذه الضرورات الخمس، ما نبدأ مع الناس نتحدث عن أشياء هي أمور أخرى تكميلية، نبدأ بالأمور الأساسية، والأمور العظيمة، الضرورات، ولذلك إذا نظرت إلى دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تجدها تدور حول هذه الأشياء، وهي الأشياء التي جاءت الشريعة لحفظها من جانب الوجود، ومن جانب العدم، في الدين: تعليم الناس الدين، حثهم على العبادة، وما إلى ذلك، هذا كله حفظ للدين من جانب الوجود، تثبيت دعائم الدين، ومن جانب العدم المبتدع يؤدب، يعزر، يمنع، المرتد يقتل (من بدل دينه فاقتلوه)([31])، حفظاً للدين.
والنفس: أمر الله بالأكل من الطيبات، هذا حفظ النفوس من جانب الوجود، واحتاط لها، وحفظها من جانب العدم بأن الذي يعتدي على النفس بالكلية -بالقتل- يقتل قصاصاً، الذي يعتدي عليها بالأطراف: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌالمائدة: 45 السن بالسن، والعين بالعين، إلى آخره.
العرض: أمر الله بالزواج: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)([32]).
كذلك أمر بأمور متعددة مما يحفظ العفاف للإنسان.
ومن جانب العدم حفظ الأعراض، والفُرش، والأنساب، فالزاني المحصن يرجم، وغير المحصن يجلد مائة جلدة، والذي يتعدى على أعراض الناس بالقذف فإنه يجلد ثمانين جلدة، حد المفتري.
والمال: أمر الله بتنميته، والسير بالأرض والتجارة، وما إلى ذلك، هذا حفظه من جانب الوجود، ومن جانب العدم من اعتدى على المال بالسرقة بشروطها، فإنه تقطع يده، هذا بالنسبة لحفظ المال من جهة الوجود ومن جهة العدم.
ثم بعد ذلك تأتي الحاجيات، ثم التحسينيات.
الحاجيات، مثل: البيع والشراء والمعاملات، الناس ما عندهم بيع ولا شراء، كيف يتناقلون المصالح؟ ما يعقل، يلحقهم حرج كبير.
التحسينيات هي حملهم على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات؛ إعفاء اللحية واجبة، لماذا تعفى اللحية؟ لأنها من الفطرة، بها زينة للرجل، عنوان رجولة، سنن المرسلين، المرأة ليس لها لحية، الرجل له لحية، سِيما أهل الصلاح والفضل.
المرأة في الزواج: لابد من الولي: (أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل)([33])، لماذا يشترط ولي المرأة في النكاح وهو من التحسينيات؟ لماذا؟
لأن المرأة إذا وُكل إليها أمر بضعها، بمعنى أنها تزوج نفسها، وتعقد على نفسها، فإننا نكون قد وضعناها في أمر لا تحسد عليه من الحرج، كأنها راغبة في الوطء والنكاح، تعقد على بضعها، وبضعها هو فرجها.
والنكاح يطلق على الوطء، ويطلق على ما يتوصل للوطء به، وهو العقد، ويطلق على معنى ثالث وهو أكمل الإطلاقات، وهو: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ البقرة:2300 بعقد صحيح وبوطء.
فالمقصود: أن المرأة إذا تُركت هي التي تذهب وتختار الزوج، وتعقد على نفسها، كما في بعض البلدان تخطب وتدفع له المهر كأنها مستشرفة للرجال، فهذا لا يليق، إحراج، لكن تبقى المرأة مصونة، بعيدة محفوظة، ويأتي الخاطب إلى وليها، فيتقدم إليه، ثم وليها بعد ذلك بطريقة، أو بأخرى يعرف رأيها، فالبكر تصمت، والثيب تبين عن رأيها([34])، حفظاً لكرامتها، وماء وجهها، هذه التحسينيات.
نحتاج إلى معرفة هذه الأشياء في صد عادية هؤلاء الأعداء لشرائع الدين، الذين ما فتئوا يشككون فيه، ويلبسون على الناس، تارة تشكيك في العقائد، تارة بالطعن بالحجاب، تارة بالدعوة إلى الاختلاط، وتارة بالدعوة إلى الانحلال من الفضيلة، تارة بأشياء كثيرة جدًّا يدعون إليها، هذا يدعو إلى العري، وهذا يدعو إلى الحرية الكاملة، أن الإنسان يمارس ما شاء، إلى آخره، فهؤلاء نعرف أين يضربون، فالذي يتكلم على الدين، وأنه يجب أن نقرأ القرآن الآن بقراءة جديدة، هذا أين يضرب الآن؟
في رأس القمة، رأس الهرم، أعلى الضروريات الدين.
الذي يقول: إن نصف القرآن -وهو ينتسب إلى الإسلام- في هذا العصر يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأنه لا يتلاءم مع معطيات العصر والحضارة المعاصرة، هذا يطعن في الدين.
الذي يصور على غلاف مجلة العباءة على أنها خيمة، ويصور المرأة قاعدة في القبر عليها عباءة سوداء على غلاف مجلة، هذا أين يضرب؟
هذا يضرب في الضروريات، في الدين، وفي العرض، فنعرف أين يلعب هؤلاء.
فما نأتي نتجادل مع إنسان على أساس أننا اختلفنا معه في عبارة أو في قضية اجتهادية، ونترك هذا الذي يقصف ثوابت الشريعة وأصولها الكبار العظام، فيعرف الإنسان أين يشتغل.
فهذا كله مما نحتاج إليه عند دراسة هذه القاعدة: الدين مبني على المصالح ودفع المفاسد، جلب المصالح ودفع المفاسد، المصالح هذه إما خالصة وإما راجحة، والمفاسد إما خالصة وإما راجحة، على خلاف هل يوجد في الدنيا مفسدة خالصة متمحضة من كل وجه؟ ومصلحة متمحضة؟.
العلماء بعضهم يقول: نعم.
وبعضهم يقول: لا.
لكن أنا أذكر لك الملحظ فقط؛ لأنك قد تقرأ هذا الخلاف في أي كتاب.
لاحظ أننا عبرنا عن المصالح قلنا: بعض العلماء يقولون: هي المنافع واللذات، والمفسدة هي: المضار والآلام، فإذا اعتبرنا قضية اللذات في المصالح فيمكن أن نقول: لا توجد مصلحة خالصة تماماً مائة بالمائة، لا توجد إلا في الجنة، نعيم الجنة.
والإيمان بالله -التوحيد- على هذا الاعتبار -اللذات-، التوحيد يحتاج إلى مجاهدة: "ما جاهدت شيئًا أشد علي من نيتي" كما قال بعض السلف([35])، يحتاج إلى مفارقة الأهل والعشيرة إذا كانوا على غير التوحيد، لماذا لم يسلم الكثير ممن رأوا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وقامت عليهم الحجج؟
لا شك أن هناك مشقة، والعبادات هي مصالح، لكن هل هي مصالح خالصة، الصلاة، الوضوء، هي مصالح لكن فيها مشقة، وإلا كان كل الناس يصلون، لماذا لا يصلي كثير من الناس؟
فإذا تأملنا أن الشريعة كما قال الشاطبي -رحمه الله-: ركبت على خلاف وِزار الهوى([36]).
ولذلك إذا التبس عليك أمر انظر إلى الهوى، أين هواك؟
فكن على خلاف الهوى، تعرف الحق غالباً.
ولهذا تجد الأمور الكثيرة التي يحث عليها الشارع مثل إقامة الصلاة، كم مرة أمر بها؟
الصبر مُر كم مرة أمر به الشارع في القرآن؟
أكثر من سبعين مرة؛ لأنه يحتاج إلى مقاساة ومعاناة للمرارة.
لكن الوطء أين الحث على الوطء في القرآن، مع أنه حق للزوجة؟، هل هناك حث على الوطء؟
لا يوجد حث، بعض العلماء قال في قوله -تبارك وتعالى-: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْالبقرة:187 هو الولد الذي يأتي بالوطء، هذا قاله على سبيل الإباحة لهم والإرشاد بعدما كان يحرم عليهم ليلة الصيام الوطء.
فهذه الأشياء التي تدعو إليها النفس مثل الأكل، الشرب، النوم، هذا حق للإنسان، لو إنسان ما يأكل ولا يشرب يأثم، لكن هل نجد أمرًا بالأكل والشرب في القرآن على سبيل التشريع؟
لا.
والأوامر: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْالأعراف:31 على سبيل الإرشاد أو الامتنان فقط، لا أنه أمر على سبيل التشريع بالأكل والشرب نفسه.
فالأشياء التي نفس الإنسان تتطلبها وتميل إليها لا تجد في الشريعة حثًّا عليها، عنده ما يحثه من الداخل، الدوافع الغريزية موجودة، لا يحتاج إلى كثير حث، لا تحتاج أن توصيه على هذا.
لكن الصلاة: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاطـه: 132، وأشياء كثيرة مما أمر الله بها، كالإنفاق، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأشياء النفس لربما تحجم عنها.
فالحاصل: المنافع إذا نظرنا إليها بهذا الاعتبار -باعتبار ما يصاحبها من المشقة- نقول: لا توجد مصلحة خالصة، وإذا نظرنا إليها باعتبار أن الله شرعها؛ لأنها حقيقةً مصلحة خالصة لا مفسدة فيها، فنقول: التوحيد مصلحة خالصة، والصلاة مصلحة خالصة، والصيام مصلحة خالصة، وأداء الزكاة مصلحة خالصة.
فبهذا الاعتبار نعرف نفرق متى نقول: مصلحة خالصة، ومتى نقول: مصلحة غالبة، وهل نقول: في الدنيا مصالح خالصة.
بناءً على هذا الملحظ فقط، وبهذا نخرج من إشكالات وخلافات بين العلماء في هذه القضايا، ونستطيع أن نجمع الأقوال.
فهذا بالنسبة للمصالح الخالصة أو الراجحة، والمفاسد أيضاً هل هناك مفاسد خالصة؟ الشرك إذا نظرنا إلى قضية الآلام نقول: لماذا يشرك هذا الإنسان يرائي؟ لأنه يلتذ بهذا، يحصل له زهو، ويحصل له انتفاش، وما إلى ذلك، فهذه ليست إذًا مفسدة خالصة، بمعنى أنه يحصل له لذة معه، الغيبة يلتذ بها، فاكهة المجالس، وإلا لماذا الناس يغتابون؟ ينبسط، تقول لإنسان: ماذا فعل فلان؟ يقول: إذا جئت -إن شاء الله- أتينا بالشاهي، عجيب! تريد أن تفري لحمه!
فالحاصل: أن هذه الأشياء مفسدة، الغيبة مفسدة، لكن الإنسان يجد فيها لذة، فمن نظر إلى هذه اللذة -وإن كانت باطلة- قال: لا توجد مفسدة خالصة، ومن نظر إلى أن الفعل من حيث هو أنه مفسدة، وشر وضرر، قال: هذه مفسدة خالصة.
وبالتالي لا ندقق كثيراً هل توجد مصالح خالصة أو مفاسد خالصة.
الشريعة جاءت لمنع المفاسد الخالصة، والمفاسد الراجحة، مثال على المفسدة الراجحة في نص القرآن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَاالبقرة: 219 لماذا الخمر؟ ماذا فيها من المنافع؟
فيها الجبان يصبح شجاعًا، كانوا يشربونها في حروبهم، فيربط الرجل على رأسه خرقة حمراء، ثم لا يقف في وجهه أحد، وهو أجبن الناس، لكن إذا شربها شعر أنه يحلق فوق العالم، وأنه لا يقف في وجهه أحد، ويكون الرجل بخيلاً فإذا شربها صار يفري الجزور، ويجعلها للناس في الطريق، وينفق الأموال الطائلة بعد أن كان لا يخرج الزكاة، فهذه مصلحة، ما يحصل له من الفرح والنشوة والسرور يغيب عن مشكلاته، وما إلى ذلك، هذه مصلحة له، لكن المفسدة التي تحصل أعظم، فالعبرة بما غلب.
لكن المفسدة القليلة أخبر النبي ﷺ عن البقر: أن ألبانها شفاء، وأن لحومها داء([37])،هذا الحديث صحيح، لكن هذا الداء قليل بالنسبة لمنافع البقر.
وانظر تدلِّي دوالِي العنبِ *** في كل مشرقٍ وكلِّ مغربِ
العنب يعصر منها الخمر، لكن هذه المفسدة كم نسبتها بالنسبة إلى الانتفاع بالعنب؟.
١٥٪، فتبقى مصلحة العنب أكثر وأعظم، ولهذا لا تحرم زراعة العنب، وغيره من الفواكه التي تعصر منها الخمر كالمشمش، ونحوه.
اختلاط النساء والرجال في البلد الواحد مظنّة، هذا يواعد هذه، وهذا يلتقي بهذه، وهذا يتعرف على هذه، ولكن المصلحة من اجتماعهم في التعاون على عمارة الدنيا، هذه في بيتها، وهذا يعمل في الخارج، يتعاونون ويتقاسمون العمل، هذه مصلحة عظيمة، ولهذا ما جاء أحد من العلماء يقول: النساء يوضعنَ في جزيرة في البحر، عليها حصن بابه من حديد، لا تخرج ولا واحدة، ولا يراهن رجل، والرجال في جزيرة بمفردهم، ما أحد قال بهذا، مع أن الاجتماع وتقارب البيوت، وسكنى الناس في حي واحد، أو في العمائر، المتجاورة في الشقق، والنوافذ فيه مفسدة لكنها مفسدة مهدرة، قليلة.
فهذا ميزان وضابط في كثير مما يعرض لنا مما قد لا نجد فيه دليلا خاصًّا في الكتاب والسنة.
إنسان يقول: أنا أريد أن أعمل العمل الفلاني.
نقول: انتظر، ما هي المفاسد المتوقعة بناء على عملك هذا والإجراء الذي ستتخذه؟ وما هي المصالح التي ستحصل من ورائه؟
فإذا غلبت المصلحة أقدمنا على الفعل، وإذا غلبت المفسدة كان هذا الفعل لا يحبه الله ولا يرضاه، فنتركه.
وهذا ميزان يحتاج إلى شيئين لابد منهما: يحتاج إلى عقل معتدل؛ لأن الإنسان المتهور مثلاً لا يلتفت للمفاسد، يقول: أنتم تدققون في أشياء وتتخوفون من أشياء ما لها قيمة.
والإنسان الجبان يضع لك ألفًا من العراقيل، والتوقعات الموهومة، فمثل هذا لا يلتفت إليه، وإنما العبرة باعتدال الطبع، واتزان العقل، فيحتاج الإنسان إلى عقل راجح، ويحتاج معه إلى علم بالشرع بنصوص الكتاب والسنة، فإذا اجتمع هذا مع هذا فهو كنور الشمس مع العين، فالعين لا تبصر في الظلام، ونور الشمس لا ينتفع به الأعمى من جهة الإبصار، فإذا وجد نور الشمس مع العين الصحيحة السليمة انكشفت أشياء أمام الإنسان، وعرف خير الخيرين، وشر الشرين، هذا إذا غَلب أحد الأمرين على الآخر.
وعند التساوي: هذا محل نظر واجتهاد، وهذا يحتاج إلى معرفة المراتب، يحتاج إلى معرفة المرتبة، فحينما نقول مثلاً: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، هذا ليس على إطلاقه، إطلاقاً، كيف ما هو على إطلاقه مع أن هذه من أشهر القواعد؟، هذا له استثناء.
الآن: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، الآن عندنا الضروريات في أعلى السلم، وأعلاها الدين ثم النفس مثلاً.
عندنا: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" عندنا مصلحة تتعلق بالدين، نشر الدين، والدعوة إلى الله، وعندنا مفسدة تتعلق بالنفوس: الجهاد في سبيل الله فيه إزهاق للنفوس، وهذه مفسدة، لكن هذا الجهاد إذا كان لرفع راية الدين فإنه يغتفر فيه إهدار النفوس، وصار ذلك شهادة ينال بها الإنسان أعلى المراتب، لماذا؟
لأنه كان لتحصيل مصلحة أعظم.
لماذا هنا ما قلنا: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"؟
لأن المصلحة في درجة أعلى.
إذن ما نقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، بالإطلاق، وإنما نقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح في حال التساوي".
هنا النبي ﷺ لماذا لم يقتل المنافقين؟
لئلا: (يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه)([38])، وهذه مفسدة تعود للدين، فقدم دفع المفسدة.
بذل الأموال، وإتلاف الأموال في سبيل فداء أسارى المسلمين، بذل المال للكفار مفسدة؛ لكن فيه مصلحة حفظ نفوس هؤلاء، المال بعد النفس، فحفظ نفوس هؤلاء الأسرى واستبقاؤهم، وأخذهم إلى بلاد المسلمين مصلحة أعظم من إهدار المال.
قاعدة أخرى: "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة"، هذا ليس على إطلاقه وإنما في حال التساوي في المرتبة، أو إذا كانت المصلحة الخاصة في مرتبة أنزل، فأموال الغانمين، أو أموال بيت المال المشتركة لجميع المسلمين ندفعها من أجل أن نفك أسيرًا، فهنا قدمنا المصلحة الخاصة وهو هذا الأسير، ودفعنا أموالا من بيت المال، أو أموال الغانمين في الجهاد، فما لاحظنا بأن المصلحة العامة أولى من المصلحة الخاصة، ليس على إطلاقه إذا كانت المصلحة الخاصة في سبيل قضية أعلى، وهذا في أشياء كثيرة جدًّا، في الدعوة إلى الله، أنا لا أريد أن أدخل في كثير من التفاصيل لكن حتى تعرف القاعدة حتى تطبقها في حياتك اليومية، في الدعوة إلى الله، إنسان تريد أن تتألفه، وهذا الإنسان يمكن أن يسبب لك إشكالات كثيرة جدًّا في عملك، لخبطة أوراق، ويسبب لك تعطيلا في العمل، لكن لو أبعدته قد ينتكس، فهنا هل نقول: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة؟.
إنسان مثلاً فوضوي، يحضر الدروس، وكل مدة قصيرة يقاطع، ويسأل، لا يحضر؟
لو قلنا له: لا تحضر انتكس، فهنا هل المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة؟
أقول: لا؛ لأن هذا حفظ لدينه، فمصلحته الخاصة مقدمة على مصلحتكم العامة.
ليس هذا على إطلاقه "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة"، فهذه القواعد لها استثناءات، وكل هذا يتعلق بقاعدة المصالح والمفاسد، وهي من أجلّ القواعد، وتدخل في جميع الأبواب.
ومما يدل على تفاضل الأعمال: حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)([39]).
الحديث الآخر: الرجل الذي سأل النبي ﷺ: أي العمل أفضل؟ قال: (الإيمان بالله)، قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)([40])، فجعله على هذه المراتب، فصار بر الوالدين أعظم من الجهاد، فما بالك بالأعمال الأخرى؟
إنسان يريد أن يعتمر تطوعاً أو يحج تطوعاً، أو يجاهد تطوعاً، وأبوه يمنعه من ذلك؛ فهذا يدل على تفاوت هذه الأمور.
وكذلك المفاسد متفاوتة؛ حديث ابن مسعود في الصحيحين: "أي الذنب أعظم عندالله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)، قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك)([41])، فالزنا بالمرأة البعيدة غير الزنا بالمحارم، غير الزنا بزوجة الجار، أو بنت الجار الذي يُطلب حفظه ورعايته، وما إلى ذلك، وهكذا في أمور كثيرة.
هنا المؤلف بعد ذلك ذكر قاعدتين تتعلقان بهذه القاعدة أذكرهما فيما بعد، وقد لا نحتاج إلى كثير من التفاصيل في الكثير من القواعد الآتية، لكن قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، وهذه القاعدة "الشريعة مبنية على تحصيل المصالح"، من أجلّ وأنفع القواعد.
[1]- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).
[2]- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل بيت النبي ﷺ، برقم (2424).
[3]- جاء مرفوعا في مسند إسحاق بن راهويه (1/377)، والسنة لابن أبي عاصم (1/22)، والطبراني في الأوسط، برقم (4202) بلفظ: (إِنَّ اللَّهَ حَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ كُلِّ بِدْعَةٍ)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (54).
[4]- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
[5]- انظر: منهاج السنة (1/118).
[6]- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، برقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
[7]- أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم (2747).
[8]- انظر: جامع البيان في تأويل القرآن (19/144).
[9]- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُالبقرة: 284، برقم (126).
[10]- سبق تخريجه.
[11]- أخرجه البخاري، كتاب فضل الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (1904).
[12]- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، برقم (2118), ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، برقم (2884).
[13]- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم (1905)، بلفظ: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه...).
[14]- زهر الآداب وثمر الألباب، لأبي إسحاق القيرواني (4/1046).
[15]- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول: فلان شهيد، برقم (2898)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وفي القدر باب كيفية خلق الآدمي، برقم (112).
[16]- أخرجه أبو داود، كناب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا، برقم (4401)، والترمذي، كتاب أبواب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، برقم (1423)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041)، وأحمد في المسند، برقم (24694)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3287).
[17]- أخرجه ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2043)، وقال الألباني: "صحيح لطرقه"، كما في مشكاة المصابيح، برقم (6293).
[18]- سبق تخريجه.
[19]- السيرة النبوية لابن هشام، (1/496)، والروض الأنف، برقم (4/160).
[20]- أخرجه الترمذي، كتاب أبواب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، برقم (2910)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6469)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (3327).
[21]- سبق تخريجه.
[22]- أخرجه البخاري، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2630)، عن عائشة: أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله ﷺ، فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار).
[23]- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِالكهف:9، برقم (3467)، ومسلم كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2245).
[24]- أخرجه الطبراني في الصغير برقم (940)، والأوسط، برقم (6835)، والكبير، برقم (282)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (8337)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1428).
[25]- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، برقم (660)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم (1031).
[26]- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، برقم (5973)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (90).
[27]- أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب من لم يَرقِ، برقم (5752)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (220)، وهذا لفظ لمسلم.
[28]- أخرجه البزار في البحر الزخار، برقم (8949)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (45).
[29]- أخرجه أحمد في المسند، برقم (8952)، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (273)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم (273).
[30]- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
[31]- أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، برقم (6922).
[32]- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺ: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؛ لأنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟، برقم (5065)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم (1400).
[33]- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1817)، وفي صحيح الجامع، برقم (2709).
[34]- انظر: حديثًا في ذلك أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، برقم (1421).
[35]- انظر: بستان العارفين، ص: (30)
[36]- انظر: الموافقات (2/ 94)، و(2/ 209)، و(2/ 291).
[37]- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (8232)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (19572)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4060)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (1943).
[38]- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَالمنافقون: 6، برقم (4905)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
[39]- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، برقم (9)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، برقم (35).
[40]- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527)، ومسلم كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله -تعالى- أفضل الأعمال، برقم (85).
[41]- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَالبقرة:22، برقم (4477)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، برقم (86).