الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله أما بعد:
ففي كتاب آداب السفر، وباب استحباب طلب الرفقة، وتأميرهم على أنفسهم واحدا يطيعونه، أورد المصنف -رحمه الله- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب[1] رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي حديث حسن.
قوله ﷺ الراكب شيطان، ذكر الراكب هنا غير مراد به التخصيص، أو الحصر بمعنى أنه لو سافر، وهو ماش على قدميه وحده، فإن ذلك ينطبق عليه، يعني: لا يلزم أن يكون راكبا لو كان ماشيا، لكن لما كان الغالب أن المسافر يكون راكبا، ذكر الركوب، الراكب شيطان، وما المراد بكونه شيطان؟
من أهل العلم من حمل ذلك باعتبار أن الشيطان يتبعه، ويصحبه، والشيطان يكون له ملابسة لابن آدم في حال نومه، وفي حال يقظته، ولهذا أخبر النبي ﷺ بأن الذي يخرج ويكون مصاحبا للشعر، أو نحو ذلك أن الذي يكون ردفه هو الشيطان، وأن الذي يخرج وهو يذكر الله -تبارك وتعالى- أن الذي يكون ردفه هو الملك.
فالشاهد أنه هنا قال: الراكب شيطان، يحتمل أن الشيطان يتبعه، ويصحبه، وإن كان هذا خلاف الظاهر؛ لأن النبي ﷺ قال عنه: شيطان ما قال: يكون مع الشيطان، أو مصاحب للشيطان.
وبعض أهل العلم قال: قيل له شيطان باعتبار أنه سلك مسالكهم، وفعل فعلهم من الانفراد، والوحدة، والانقطاع عن الناس، وما أشبه ذلك، فالشيطان لبعده لربما قيل له ذلك؛ لبعده عن رحمة الله .
الشياطين تنفرد، وتذهب في الأماكن البعيدة، وتذهب في الفيافي، وفي البحار، وفي القفار، وما إلى ذلك، وتسكن تلك النواحي، فهنا يمكن أن يكون باعتبار أنه فعل فعلهم، كما قال: الله : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ[الإسراء:27]، وفسرت الآية بوجوه معروفة؛ منها: أنهم إخوان الشياطين باعتبار العاقبة والمصير، فالمصير واحد، أو باعتبار أنهم فعلوا فعل الشياطين من التبذير والإسراف، كانوا إخوان الشياطين، أو باعتبار أنهم يسلكون مسلكهم، ويأتمرونهم بما يأمرونهم به، ويزينونه لهم، فكانوا إخوان الشياطين بهذا الاعتبار، فمن تشبه بهم كان من إخوانهم؛ ولهذا يقال: فلان من إخوان الشياطين، إخوان الشياطين يعني: أنه يفعل فعلهم، ويتصف بأوصافهم.
فهنا الراكب شيطان باعتبار أنه متصف بأوصاف الشيطان، هكذا قال: بعض أهل العلم، وقيل غير ذلك على كل حال.
قال: والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب، فلا شك أن الشيطان من الواحد أقرب، وهو إلى الاثنين أقرب منه إلى الجماعة، وأقل الجمع عند عامة أهل العلم كما هو المشهور هو ثلاثة.
والجماعة فيها من المنافع، والفوائد أمور كثيرة جدا، فكلما كان الإنسان في وسط أكثر من الناس المسافرين كان أبعد من الشيطان، فإن الشيطان قد ينفرد به إذا كان وحده، ويوسوس له، ويلقي في قلبه ألوان الخواطر، سواء كان ذلك من معصية الله ، يغريه بالمعصية إذا انفرد، أو كان ذلك باعتبار ما يوقع في قلبه من الوحشة، والأوهام، يخيل له أشياء، يخيل له أن أحدا مر، يخيل إليه أنه في أحد يطارده، يخيل له أن أحدا يتربص به، فيتخيل أشياء، والشياطين تتلاعب بالناس.
وإذا أرخى الإنسان لها سمعه، وبصره، وانقاد قلبه لهذه المخاوف؛ وجد الشيطان استجابة، وضعفا، وانكسارا من الإنسان لعبت به الشياطين، وصارت تريه أشياء، وخيالات، وتريه الأمور على غير حقيقتها، وتصور له الأشياء على غير صورتها، فتزداد مخاوفه، ثم بعد ذلك يحصل له ألوان العلل والأمراض التي قد يعجز عن علاجها الأطباء.
ومبدأ ذلك من الشيطان، يلقي في قلبه هذه الأمور، يخوفه من أشياء يوهمه بأشياء، فإن استجاب لها قاده إلى أمور أخر، حتى يصير إلى حال يرثى لها، لا يستطيع أن يتصرف بمنافعه ومصالحه، لا مصالح الدنيا، ولا مصالح الآخرة، وهذا موجود، وكثير، ومشاهد، وقد تكون البداية بسيطة، وهذا يحتاج إلى قوة، وإلى عقل، ويحتاج إلى فقه في الدين، ويحتاج أيضا إلى حزم، يقطع دابر الخواطر والوسواس، قد تكون هذه الخواطر هي من قبيل خواطر الأمراض أنه يوهم أنه مريض، أنه في المكان الفلاني غير المكان الفلاني، فيه آثار كذا المكان الفلاني، كأنه أضخم من المكان الفلاني، كأنه متورم، فإذا انقاد؛ ارتفعت درجة الحرارة، ثم بعد ذلك صار لا يجد للطعام ذوقا، ولا طعما، ثم بعد ذلك يسترخي، ثم إذا ازداد الأمر، وانقاد، وشعر ببرودة بالأطراف، ثم بعد ذلك بدأ يشعر بالموت، بدأ يسير في جسده، وينتزع روحه شيئا، فشيئا، فيعاف كل شيء، ويزهد، ويكتئب جدا، ولربما انهار، وبكى، وما به بأس، إنما هو تلاعب الشيطان.
وغالب ما يأتي الإنسان في أوقات الضعف مثل الوحدة والانفراد المرض والانكسار بسببه مرضه فانكسر، فصار قابل مستجيب لهذه الأوهام: الدنيا رايحة خلاص أنا رايح، وهو ما فيه شيء أحيانا شيء بسيط، فمثل هذه تحتاج إلى قطع دابر.
قطع الدابر تارة يكون بتقرير طبي، ما فيك شيء، سليم، وتارة يكون بأن يُحلِّق الإنسان، ويترك الشيطان خلف ظهره، وينطلق في الحياة، ويعلم أن الهم ثلاثة أنواع في أمور مضت يستجرّها، ويستدرّها، ولا يغني عنه ذلك شيئا، يعني: أمور مؤلمة هذا لا ينفع أمر فات، أو أمور مستقبلية، لا يدري ما يصنع الله بها، ما جاءت لحظتها وساعتها، قد تقع، وقد لا تقع، أو أمر حاضر يعايشه.
فلو أنه وفر الجهد في الجهتين، أو في الطرفين فيما مضى، وفيما يستقبل، ووضع ذلك جميعا فيما هو يعايش لخف عليه الحمل، وصارت القوة موفرة في اللحظة الحاضرة التي يعيشها، فيحمل همها، ويستعين بالله -تبارك وتعالى-، ويكون قويا، لكن كثير من الناس تتفرق نفسه في أمور مضت، وفي أمور مستقبلة، الذي مضى انتهى، والمستقبل علمه عند الله فوفر القلب، والقوة، والطاقة، والنظر، والذكاء، والجهد في الأمور التي تعايشها الآن، هي التي تستعين بالله على حملها، وما في المستقبل لا تدري ما يصنع الله به.
فالشاهد أنه قد يلقي في قلبه الخواطر في أمراض، في أمور، في مخاوف، في أعداء، في ناس يتربصون، ثم إذا استسلم لا تسأل كيف يلعب به، حتى إنه لربما يتوهم أن كل من ينظر إليه يتآمر عليه، وكلما رأى اثنين يتحدثان ظن أنهما يتحدثان عنه -والله المستعان-.
فالشاهد قال: والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب، فيكون ذلك أبعد من الشيطان.
ثم ذكر حديث أبي سعيد، وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا، قال: رسول الله ﷺ: إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم[2] حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن.
إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم، مفهوم العدد هنا المخالفة، أنه إذا خرج اثنان فإنهم لا يؤمرون أحدهم، هكذا فهم بعض أهل العلم، وبعضهم قال: إن مفهوم العدد ضعيف، ولكنه ذكر الثلاثة هنا؛ لأن هذا هو المشروع في السفر ألا يخرج وحده، ولا مع اثنين؛ لأنهما شيطانان، ولكنه يخرج جماعة، وأقل الجمع في المشهور الثلاثة، فليؤمروا أحدهم.
طيب لو خرج اثنان يمكن أن يقال: لما كانت المصلحة تقتضي ذلك، فإنهم يؤمرون واحدا لئلا يحصل بينهم التنازع، فالمصلحة تتحقق، وإن كان ذلك مذموما، أعني: أن يخرج اثنان في السفر، وتكلمت على الأسفار الحديثة اليوم بالطائرات، القطارات، السيارات في الطرق التي يجوبها المارة، وما أشبه ذلك، وهي آهلة بالناس، هذا يدخل فيه، أو لا يدخل؟
على كل حال الثلاثة يعني مثلا من الفوائد في خروج الثلاثة أنه لو حصل لواحد شيء، فإن اثنين يحملانه، لكن لو كان واحد كيف يستطيع أن يحمله، هذا مثال بسيط يعني.
وذكر حديث ابن عباس، وهو الحديث الأخير -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: خير الصحابة أربعة... يعني خير الأصحاب، أصحاب، يعني: الرفقة هذا هو الظاهر، وإن فهم منه بعض أهل العلم أن المقصود: الصحابة، أصحاب النبي ﷺ قالوا: المراد الخلفاء الأربعة، لكن هذا فيه بعد هنا في هذا الحديث؛ لأنه قال: خير الصحابة أربعة يعني خير الأصحاب الرفقاء في الأسفار، ولماذا أربعة؟
قالوا: لو أنه احتاج أحد إلى الخروج، يعني: منهم يذهب إلى حاجة، أو نحو ذلك، فإنه لا ينفرد وحده، يحسن أن يذهب معه آخر ليعينه، قد ينتابه شيء، طيب لو ذهب اثنان لبقي واحد، فيحتاج إلى آخر يؤانسه، فإذا كانوا أربعة يمكن أن يذهب اثنان، ويبقى اثنان، وما أشبه ذلك.
قال: وخير السرايا أربعمائة... السرية تكون بين الثلاثمائة إلى الأربعمائة، وهي قطعة من الجيش، قد تكون من خلاصته، وقد تكون من الخيل، من الفرسان، تنطلق في مهمة، أو في أمر، ثم تعود إلى الجيش، يعني تذهب لاستكشاف، تذهب إلى موقع معين، تكلف بالذهاب إليه لأمر من الأمور، قال: وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة[3] رواه أبو داود، والترمذي، وقال حديث حسن.
يعني قد يغلبون من جهة نقص الاستعداد العسكري، أو يغلبون من جهة أمور أخرى كالاعتماد على النفس، أو الفرح بالكثرة، كما حصل في يوم حنين، نعم، أو لربما بسبب خيانات، أو نحو هذا، لكن الحديث على كل حال حسنه الترمذي، وفيه ضعف في إسناده، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يسافر وحده، برقم (2607) والترمذي، أبواب الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، برقم (1674) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3910).
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، برقم (2608) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (497).
- أخرجه، كتاب الجهاد، باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا، برقم (2611) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3273).