الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قال المصنف:
"كتاب: آداب السفر.
باب: ما يقول إذا ركب الدابة للسفر.
قال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 12- 14]".
قوله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ الفلك: المراد بها المراكب البحرية (السفن)، والأنعام هي الدواب التي تركب، كالإبل، ويدخل في ذلك أيضًا من جهة المعنى: جميع أنواع المراكب البرية، والجوية، والبحرية، فكما أن السفن تطفو على الماء، والله جعلها آية في ذلك، فهكذا أيضًا ما وجد من المراكب العجيبة في هذا العصر التي تغوص في قعر البحار؛ وذلك ربما يكون من بعض وجوهه أعظم آية من السفن التي تطفو على سطحه، وقل مثل ذلك فيما يكون بين السماء والأرض.
يقول: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يذكر الإنسان نعمة الله عليه، بقلبه ولسانه وجوارحه، فلا يستعمل هذه المراكب في معصية الله، ولا يواقع معصيته، ولا يغفل قلبه عن هذه النعمة العظيمة، التي بها تحمل الأثقال إلى بلاد بعيدة، لم نكن لنبلغها إلا بشق الأنفس.
وهذه الآية والنعمة في هذا الزمان -أيها الأحبة- أكثر، فإذا كانت القافلة في زمن مضى على الإبل ربما تبلغ المائة، أو المائتين، بما فيها من الأحمال، ومن الراكبين، وما إلى ذلك، فإن الطائرة الواحدة اليوم تحمل أضعاف ذلك، وتنقلهم في زمن يسير، فالمرحلة الواحدة كانوا يقطعونها قديمًا على الإبل في ساعات، وهي قريبة جدًا، يعني قد تكون المرحلة أحيانًا قد لا تزيد على سبعة كيلو مترات، أو عشرة كيلو مترات، يمشون بعد صلاة الفجر، وفي الضحى ينزلون، هذه المسافة التي يقطعونها من الفجر إلى الضحى، هي ربما لا تجاوز سبعة كيلو مترات أو عشرة كيلو مترات.
فالشاهد: أن الأماكن التي كانوا يصلون إليها في شهر بهذه الوسائل القديمة، يصلون إليها بالطائرة في نحو ساعة، أو ساعتين.
يقول الله -تبارك وتعالى-: وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ يعني: وما كنا له مطيقين، فيذكر ذلك بلسانه على وجه الخصوص.
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ فإن الناس يتفرقون في أسفارهم، وينطلقون في الأرض، ولكن المرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، فذكر هذا مع هذا.
كما قال الله -تبارك وتعالى- في الحج، حينما ينفر الحاج من منى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] فهؤلاء الحجيج يتفرقون من كل ناحية، وهؤلاء قد لا يجتمعون إلا في يوم الدين، هؤلاء يذهبون إلى المشرق، وهؤلاء إلى المغرب، من كل ناحية، قد اجتمعوا في منى، أو في المشاعر، ثم ينطلقون، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وهنا المسافر يذهب، ولكن المنقلب والمرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، إليه يصير الناس ويرجعون، فيتذكر المؤمن هذا المعنى دائمًا، ويحدوه ذلك، ويحمله على حفظ الله في سفره؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يترخص إذا سافر؛ ولهذا شرع أن يقال للمسافر: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك[1]؛ لأن الإنسان إذا صار إلى بلاد لا يعرفه الناس فيها ربما تخفف من كثير من المروءات، وقارف ما لا يليق، ولم يراع ما كان يراعيه في بلده.
وهذه الآية ظاهرها أن ذلك يقال كلما استوى الإنسان على الدابة، وما في معناها، وما في حكمها، كالسيارة، والقطار، والطائرة، والسفينة، والدباب، والدراجة النارية، والدراجة الهوائية، بل حتى المصعد الكهربائي -السلم الكهربائي- الذي ينتقل به من مكان إلى مكان، فكل هذه مما ينتقل به الإنسان، ويكفيه كثيرًا من التعب والعناء هي وسائل في الواقع، يحصل بها الانتقال، فيذكر ذلك، والله تعالى أعلم.
وفي الباب أحاديث لا أطيل الآن، لكن أذكرها في ليلة أخرى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا ودع إنسانًا برقم (3443) وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في الدعاء عند الوداع برقم (2600) وابن ماجه في كتاب الجهاد، باب تشييع الغزاة ووداعهم برقم (2826) وصححه الألباني.