الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي كتاب آداب السفر، باب: ما يقول إذا ركب الدابة، قال المصنف -رحمه الله-:
"وعن عبد الله بن سرجس قال: كان رسول الله ﷺ إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال[1]. رواه مسلم.
هكذا هو في صحيح مسلم: الحور بعد الكون، بالنون، وكذا رواه الترمذي[2]، والنسائي[3]، قال الترمذي: ويروى "الكور" بالراء، وكلاهما له وجه".
قوله: "كان رسول الله ﷺ إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون..." إلى آخره.
هذا على سبيل الحكاية، وقد جاء ذلك بلفظه أو بلفظ بعضه، عنه ﷺ في الحديث الذي مضى، وهو حديث "ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلي سفر، كبر ثلاثًا، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون[4]، رواه مسلم".
فهنا كان رسول الله ﷺ إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وقلنا: المقصود به التعب والمشقة، وكآبة المنظر: قلنا: بأن المراد المناظر التي تسوء الناظر، وتورثه حزنًا مستديمًا.
والحور بعد الكون: هذا لم يرد في الحديث السابق، فهو زيادة صحيحة في صحيح مسلم، بهذا اللفظ "الحور بعد الكون" يعني: النقص بعد الزيادة، والخلل والاضطراب بعد الثبوت والاستقرار.
والراوية الأخرى: "والحور بعد الكور" والكور كأنه مأخوذ من تكوير العمامة على الرأس مثلاً، فإذا صار الحور معناها: أنه فلت وفك طياتها، وحلت، يعني بعد ما يكون الحال على الإبرام والتمام والاستقرار يصير إلى النقض والنكث والتراجع والنقص، نسأل الله العافية، فهذا يحصل إذا كان الإنسان على حال من الاستقامة، وعلى طريقة مرضية بطاعة الله ، ثم بعد ذلك يحصل له تراجع، فهذا حور بعد الكور، بعد ما كانت أموره مستقيمة ومستقرة على ثبات، وعلى حالة مرضية، صار إلى نكث وتراجع ونقص، فالذي يقابل الكون هو النقص والتراجع، والذي يقابل الكور هو الحور، يعني نقض وفك، كأنك تفك طيات العمامة وتحلها، فهذا الحور بعد الكور، نسأل الله العافية؛ ولهذا يقول الإنسان: اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، والإنسان يسأل ربه أن يجعله على أحسن الأحوال في دينه ودنياه، يعني كون الإنسان تنتقض أموره الدنيوية، بتفرق جمع الأسرة وشملها، إما بموت، أو طلاق، أو أمراض، أو عاهات، أو نحو ذلك، فكل هذا لا شك أنه حور بعد الكون، بعد ما كان في حال من الغنى والسعة أصبح في حال من الضيق والشدة، لا يجد ما يقيم به صلبه.
يقول: "قال العلماء: ومعناه: بالنون والراء جميعًا كور والكون: الرجوع من الاستقامة، أو الزيادة إلى النقص، قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة، وهو لفها وجمعها، ورواية: النون من الكون مصدر كان يكون كونًا، إذا وجد واستقر".
قال: "ودعوة المظلوم" فما وجه ذكر هذا في السفر مع أن الإنسان يستعيذ منها دائمًا؟ لأن السفر مظنة للظلم، فقد يظلم الدابة، وقد يظلم الرفقاء؛ لأن الإنسان في السفر تعتوره أحوال، وتظهر منه -ربما بسبب المشقة- تصرفات ومزاولات ما كان يفعلها بحال الإقامة، وربما ظلم الرفقة، وربما حصل منه ظلم لمن يكون مستخدمًا عنده من العمال الذين معه، والخدم والسائقين، وما أشبه ذلك، يظلمهم إما بتحمليهم ما لا يطيقون، أو بعدم الوفاء بأجورهم وحقوقهم، وهذا يحصل لا سيما في الأسفار التي يتكسب الإنسان فيها، ويتجر، كحملة في الحج مثلاً، فهؤلاء الحجاج أحيانًا يرجعون كلهم يدعون عليه؛ لأنه ضيع حقوقهم، وضيع ما وعدهم به، ولم يف بشيء من الشروط التي كان يذكرها، ولم يروا شيئًا منها، والعمال الذين يأتي بهم ليعملون، لا يعطيهم أجورهم، والذين يستأجرهم لنقل الحجاج، ونحو ذلك، لا يوفيهم أجورهم، هذا كله من الظلم؛ ولهذا قال: "ودعوة المظلوم" لأنه ليس بينها وبين الله حجاب.
"وسوء المنظر في الأهل والمال" أن يرى ما يكره، وهذا مثل "كآبة المنظر" وهو يفسره؛ لأن سوء المنظر يورثه الكآبة، يعني: إذا جاء وجدهم في حال من المرض، أو العاهة، أو في حال المعصية، وتغيرت أحوالهم وهيأتهم، فإن ذلك يحزن الإنسان ويكتئب، أو يأتي ويجد ماله قد ضاع، ويرى ماله قد احترق، أو يرى دوابه قد أهلكت، أو يرى زروعه قد أُهملت وضيعت، والله المستعان.
ثم قال المصنف:
"وعن علي بن ربيعة قال: شهدت علي بن أبي طالب أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف:13-14] ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي ﷺ فعل كما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري رواه أبو داود[5]، والترمذي[6]، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح، وهذا لفظ أبي داود".
هذا الحديث لم يذكر فيه السفر، فيؤخذ منه أنه دعاء لركوب الدابة، لكن حديث عبد الله بن سرجس: كان إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، والحور بعد الكون... إلى آخره، هذا في السفر، وكذلك حديث ابن عمر: يكبر ثلاثًا، ثم يقول: سبحان الذي... إلى أن قال: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر هذا كله في السفر، لكن حديث علي بن ربيعة عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ هذا ليس فيه ذكر السفر، فيقوله الإنسان إذا ركب الدابة مطلقًا.
"أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب، قال: بسم الله" نأخذ منه أننا إذا ركبنا في السيارة ووضعنا رجلاً، نقول: بسم الله.
ثم قال: "الحمد لله ثلاث مرات" استحضارًا للنعمة، وتحقيقًا للحمد "ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات" فلا يحصل منه رؤية للنفس، وتعاظم وعجب بمركبه، أو بنفسه، أو بقدراته وإمكاناته، ونحو ذلك.
"ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي، فاغفر لي" ظلم النفس، حيث لا نستطيع أن نؤدي شكر هذه النعم، فالإنسان لا يزال ظالمًا لنفسه.
فنسأل الله أن يغفر لنا، وأن يرحمنا، ويتجاوز عنا، وأن يلطف بنا، إنه لا يغفر الذنوب إلا هو.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره برقم (1343).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج مسافراً برقم (3439) وصححه الألباني.
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من الحور بعد الكون برقم (7882).
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا أراد سفرا أو رجع برقم (6385) ومسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره برقم (1342) واللفظ لمسلم.
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا ركب برقم (2602) وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا ركب دابة (3446) وصححه الألباني.