الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كتاب آداب السفر
باب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا وتسبيحه إذا هبط الأودية، والنهي عن المبالغة برفع الصوت بالتكبير، ونحوه: أورد المصنف -رحمه الله-:
مجيء الرجل إلى النبي ﷺ فقال: "إني أريد السفر فأوصني" يُؤخذ منه أن ذلك مما يحسن ويجمل ويطلب أن يأتي الإنسان للعالم ونحوه، فيطلب منه الوصية.
قال: عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف أوصاه بهاتين، فتقوى الله جامعة، وذلك يتضمن فعل المأمورات، واجتناب المنهيات، كما أنها متفاوتة، فيدخل في ضمنها فعل المستحبات، وترك المكروهات؛ وذلك في أكمل صورها وأحوالها.
قال: والتكبير على كل شرف الشرف هو المكان المرتفع، فذكر هذا مع التقوى مما يدل على أهمية التكبير، وقد مضى بعض ما جاء فيه من الأحاديث، مع أننا في كثير من الأحيان نغفل ذلك، ونغفل عنه.
"فلما ولّى الرجل قال النبي ﷺ: اللهم اطو له البعد يمكن أن يكون ذلك باعتبار ما يحصل من طي حقيقي، والله أعلم كيف يكون؟ وهذا كما سبق الكلام على قوله ﷺ: واطو عنا بعده[2]، ويمكن أن يكون ذلك بما يحصل من التيسير والتسهيل للمسافر من المركب المريح الذي لا يعطله في سفره، ويقطع المسافات الطويلة في الوقت اليسير، ولا يشعر بالتعب الذي يعرض للمسافر عادة، وما إلى ذلك، فينقضي سفره الطويل الذي قد يشق على غيره بأيسر ما يكون، وهذا يحصل للإنسان أحيانًا قد لا يشعر بطول السفر، فيهون عليه ذلك.
وهون عليه السفر وهذه الجملة تشعر أن طي البعد أنه على ظاهره، كما قال النبي ﷺ: عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل[3]، ظاهره أنها تطوى حقيقة، مع أن من أهل العلم من فسر ذلك وحمله على معنى آخر، وهو ما ذكرتُ هنا؛ وهو تهوين السفر، ويمكن إذا حملنا طي البعد باعتبار أنه يطوى حقيقة، فتهوين السفر بتذليل الصعاب والمشاق، فلا يشعر بشيء من ذلك، فيسلم من الآفات والمشقات، وإذا قيل: بأن طي البعد يحصل بما يكون من جودة المركب، وتيسير الأمور، وما إلى ذلك، فيكون هذا هو تهوين السفر، من عطف العام على الخاص؛ لأن طي البعد بهذا الاعتبار هو جزء من تهوين السفر، وتهوين السفر أوسع من ذلك، والله تعالى أعلم.
وذكر الحديث الأخير:
قوله: "كنا مع النبي ﷺ فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبرنا" هم فهموا ذلك من رسول الله ﷺ، كما جاء في الأحاديث السابقة.
والتهليل أن يقول: لا إله إلا الله، والتكبير أن يقول: الله أكبر.
يحتمل أنه أن قوله: "هللنا وكبرنا" أنهم عند الارتفاع، ولم يذكر الهبوط والنزول الذي يكون فيه التسبيح، فذلك جاء أيضًا في الأحاديث الأخرى.
الشاهد أنهم كانوا يفعلون هذا إذا أشرفوا.
قال: "وارتفعت أصواتنا" يعني يقولون: ذلك بصوت مرتفع، وهذا يدل على أن هذه القضية كانت عندهم حية وظاهرة، وأنها محل عناية عندهم، بخلاف حالنا اليوم غالبًا، لا تكاد تسمع من يكبر إذا ارتفع، ولا يسبح إذا هبط في السفر.
قال: "فقال النبي ﷺ: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم لاحظ هنا ما قال لهم مثلاً: كبروا فقط دون تهليل، فأقرهم على التهليل، فيدل على أنهم يكبرون ويهللون، يقولون: لا إله إلا لله، والله أكبر.
قال: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم يعني: ارفقوا بأنفسكم، لا داعي لمثل هذا الرفع، وهذه المشقة، وعلل ذلك بقوله: فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا يعني: لا تحتاج أن ترفع صوتك، فإن الله يسمعك، وإنما الذي يحتاج إلى رفع من كان به صمم، لا يسمع إلا برفع الصوت جدًا، أو من كان بعيدًا عنك، يحتاج إلى أن ترفع حتى يصل إليه الصوت، والله -تبارك وتعالى- ليس كذلك.
قال: إنه معكم والمعية المقصود بها هنا ليست المعية الذاتية، فإن الله فوق عرشه، عالٍ على خلقه، بائن منهم، وإنما هي معية تليق بجلاله وعظمته، فهو مع عموم الخلق بالعلم، والاطلاع، والإحاطة، ومع المؤمنين بالحفظ، والكلاءة، والرعاية، والنصر، والتأييد، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] هذه معيته لموسى وهارون -عليهما السلام-، وهكذا معيته مع المحسنين، ومعيته مع رسوله ﷺ، ومع أبي بكر في قصة الهجرة: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] فهذه معية خاصة.
وهكذا معيته -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، أو للذاكرين، فهي معية خاصة.
إنه سميع قريب سميع تقابل الأصم، فالله سميع، وهي صيغة مبالغة، يعني عظيم السمع.
إنكم لا تدعون أصم فهو سميع ولا غائبًا قال: قريب والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فالله يسمع من ذكره، ويسمع السر والنجوى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة:7].
ولما جاءت المرأة المجادلة، وهي خولة بنت ثعلبة، للنبي ﷺ تجادله في زوجها؛ لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت أنزل الله قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1].
وذات مرة كنت أتحدث عن معنى هذه الآية لطلابي، فلما انقضى الدرس، وخرجت، جاءني أحد الطلبة الذين أعرفهم، وأثق بهم، فقال: هذا الكلام الذي ذكرته آنفًا من سماع الله ، وقع عليه فيه شيء، ثم أخرج ذراعه، وأثر الخياطة فيها ظاهر، قال: كنت أقرأ ذات مرة هذه الآية، وقلت في نفسي: اللهم إن كنت تسمعني الآن، فاكسر ذراعي هذه، دعا على نفسه جهلاً منه، يقول: فسقطتُ فكُسرتْ ذراعي، وأُجريتْ لها عملية، ووضع لها سيخ، وهذا أثرها، والأخ أعرفه.
فالله -تبارك وتعالى- يسمع عباده، ونحن لما سمعنا المباهلة التي حصلت مع أحد الرافضة، وكيف يدعو على نفسه بهذا الدعاء العظيم، الذي ربما تتكسر وتتفتت منه الجبال، ويدعو بكل جرأة على الله بمثل هذا، شيء هائل، فالله يسمع ذلك كله، ونسأل الله أن ينزل عليه بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، وأن يهلكه، وأن يجعله عبرة لمن يعتبر، ولمن لا يعتبر، إنه سميع مجيب.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3445) وحسنه الألباني. بلفظ: " اللهم اطو له الأرض".
- أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره برقم (1342).
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الدلجة برقم (2571) وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير برقم (2992) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر برقم (2704).