الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قال المصنف:
كتاب آداب السفر، باب ما يقول إذا نزل منزلاً:
عن خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك[1]، رواه مسلم".
خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- هي زوج عثمان بن مظعون، وهي سليمية؛ من بني سليم، قيل: هي الواهبة.
تقول: "سمعت النبي ﷺ يقول: من نزل منزلاً من نزل منزلاً ظاهره العموم، وأن ذلك لا يختص بالسفر، فإذا نزل منزلاً أيًا كان، كأن ذهب إلى حديقة، أو ذهب إلى نزهة في البرية، أو ذهب إلى البحر، أو نزل في بيت، إلى غير ذلك من أنواع المنازل التي يصير إليها الإنسان في الحضر، أو في السفر.
لكن المصنف -رحمه الله- ذكر هذا في كتاب السفر، وفي هذا الباب، باعتبار أن ذلك مما يحتاجه المسافر أكثر مما يحتاجه المقيم؛ لأن المسافر يرد على أماكن لا يعرفها، وربما تكون محلاً للمخاوف والآفات والهوام والسباع والشياطين، وما إلى ذلك، فهو عرضة، وكما قيل:
ومن يغترب يحسب عدوًا صديقه | ومن لا يكرم نفسه لا يكرم[2] |
فالذي يغترب من الناس في بلد ربما يختلط عليه الأمر، فلا يدري من يصاحب من الناس.
فمن نزل منزلاً أيًا كان، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات أعوذ بمعنى: التجأ، والعوذ يطلق على ما يكون من الالتجاء من المخاوف، وأما اللوذ: فإنه في ما يرجيه الإنسان، هكذا قال بعض أهل العلم في الفرق بينهما:
يا من ألوذ به فيما أؤمله | ومن أعوذ به مما أحاذره[3] |
ففي الأمور المحظورة يكون العوذ، وفي الأمور المؤملة يكون اللوذ، وإن لم يكن هذا محل اتفاق، لكن هذا هو الاستعمال الغالب.
من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات ما المقصود بها؟ هل المقصود بها الكلمات الشرعية التي هي آيات القرآن؟ فهذه يجوز للإنسان أن يستعيذ بها؛ لأنها من كلام الله ، لكن هل هي المقصودة هنا؟ الجواب: لا، هذا يحمل على الكلمات الكونية، التي بها يحصل التكوين إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40] فهذه هي التي قال فيها النبي ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر[4]، فالتي لا يجاوزها بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية، أما الكلمات الدينية الشرعية آيات القرآن، فإن الفاجر قد لا يلتزم بها، ولا يقف عندها.
والمناسب هنا في باب الاستعاذة أن يستعيذ بالكلمات الكونية؛ لأنه يريد العصمة والحفظ، وهذا يكون مما يتصل بالكلمات الكونية، فكل شيء ناصيته بيد الله -تبارك وتعالى-، ولا يخرج عن قضائه الكوني، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
من شر ما خلق ويدخل في هذا كل شر، شر الآدميين، وشر الجن، وشر الهوام، وشر السباع، وكل شر مما يتخوفه الإنسان.
لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك لم يضره شيء بمعنى: أنه لا يمكن أن يصل إليه المكروه، لا من البشر، ولا من الجن، ولا من غيرهم، وهو أمر مشاهد، نحن نؤمن بذلك، ونصدقه تمامًا، وقد رأى الناس من هذا أشياء كثيرة جدًا، أحد الذين قالوا مثل هذا يحدثني عما وقع له هو، حيث بات في دار، فلما قال مثل هذا الذكر ونام، وجد شيئًا يجري على رقبته، فلما رفع رأسه جلس في الليل، فإذا عقرب أسود كبيرة، مع أن العقرب لا تنتظر ولا تمهل أحدًا، هذا حدثني عما وقع له.
بل أعجب من هذا أن أحدهم ذكر هذا، وجعل يذكره لأصحابه، ويبين لهم أن هذا إنما يكون من يقين، وهو مستند على الأرض بيديه، فأخذ ما بيده من تراب، ونحوه، فألقاه، فإذا هي عقرب بيده تجري؛ فلما ألقاها تعجبوا من هذا، فما ضرته، وغير هذا من الأمثلة كثيرة، أحدهم دخلت في فراشه -الذي يسمونه: سليب باك- حية، ولم تدخل فقط، بل دخلت بين ثوبه وجسده، والظاهر: أنها كانت موجودة أصلاً في الفراش، فلما دخل فيه دخلت بين الثياب إلى صدره، وما ضرته، والأمثلة على هذا كثيرة جدًا، بل ذكرت إحدى النساء: أن أحد أهل الفضل من أهل العلم سافر له اثنان من أبنائه الصغار، فالأم عوذت أحدهما بهذا، والآخر صغير انطلق قبل أن تعوذه، وما أدركته، فوقع لهم حادث في الطريق قبل سنوات، أنا أعرفهم، وأعرف ذاك مات، وهذا ما أصيب بأي أذى، والأم تقول: عوذت هذا، وهذا انطلق قبل أن أعوذه.
فالشاهد أن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى للعبد الحفظ، ما يضره شيء؛ ولهذا تجد الناس في سيارة واحدة أسرة كاملة ثمانية تسعة، يقع لهم حادث، فبعضهم يصاب بإصابات يتمزق، وبعضهم ما يصيب بخدش، وهم في سيارة واحدة، فكل ذلك بيد الله ، وما يقع في هذا الكون من تحريكة ولا تسكينة إلا بتقديره وتدبيره، لو كان عندنا يقين بمثل هذا، كان مشى الإنسان في الأرض لا يبالي، ولا يخاف إلا من الله ، قل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وبعدين نم -مع اتخاذ الأسباب- قرير العين، ليس معنى ذلك ترك الأسباب، بل يفعل الأسباب، وينام قرير العين، ولا تقتله المخاوف، ولا القلق، ولا تتبعثر نفسه، وتتشتت، ولا يتعلق بالمخلوقين، وإنما يتعلق بربه .
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره برقم (2708).
- البيت لزهير ينظر: ديوان زهير بن أبي سلمى (ص:6) وشرح المعلقات التسع (ص:211).
- البيت للمتنبي ينظر: شرح ديوان المتنبي للواحدي (ص:34).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4385) وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (ص:191).