الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
"كتاب الفضائل".
هذا كتاب الفضائل، والفضائل جمع فضيلة، والفضيلة: هي المنقبة والمزية والخلة المحمودة.
"باب: فضل قراءة القرآن".
ابتدأ هذه الفضائل بباب فضل قراءة القرآن.
"عن أبي أمامة قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه[1] رواه مسلم".
اقرأوا القرآن هذا أمر منه -عليه الصلاة والسلام- بالقراءة، وقد قال الله -تبارك وتعالى- فيما ذكر مما أمر به نبيه ﷺ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:92] فنحن مأمورون بتلاوة هذا الكتاب؛ لأن تلاوته هي الطريق إلى العمل به، والانتفاع بمضامينه، وما حاواه من ألوان الهدايات، هذا مع أن الإنسان يؤجر على قراءته، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ: من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[2]، فكل حرف عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وذكر علة ذلك أيضًا والشيء قد يكون له أكثر من تعليل.
قال: فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه فهذه علة للأمر بقراءته، ولكن قراءته لا تعلل بهذا فحسب، إنما يقرأ لأن الله أمر بقراءته، ويقرأ لأن الله أمر بتدبره، ولا يمكن التدبر إلا بالقراءة، ويقرأ لأننا متعبدون بقراءته، كما سبق، ويقرأ من أجل التحاكم إليه، ويقرأ من أجل الاتعاظ والاعتبار بما فيه من القصص، والأمثال، والمواعظ، والحكم، وما أشبه ذلك، يقرأ لكل هذا.
لكن حينما يذكر علة واحدة، فلا يعني أن الحصر فيها، والفاء هنا تدل على التعليل، كأنه يقول: لأنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، والإنسان حينما يكون منفردًا بحاجة إلى الشفيع، فإذا جاء معه من يقويه ويعضده كان ذلك من قبيل الشفع، ومن هنا جاءت الشفاعة، فكأنه يقترن به غيره من أجل أن يصل إلى مطلوبه، ويتقوى بغيره، بعد أن كان منفردًا بحاجته، فالقرآن يأتي شفيع، لكن لمن؟ لأصحابه، والصحبة تقتضي الملازمة، إذ لا يقال: هذا من أصحاب الصف الأول؛ لأنه صلى في الصف الأول مرة واحدة، أو مرتين، وهذا معروف في الاستعمال في بعض النواحي، إذا قيل: من أصحاب الصف الأول؟ وأهل مكة يقولون: فلان من أصحاب الصف، ويقصدون الصف الأول في الحرم، فهذا لا يحصل لمن صلى فيه مرة في عمره، أو صلى مرتين، أو ثلاث، أو أربع، وإنما يكون ذلك بالملازمة.
ولذلك قال الله في النار -أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها-: أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:39] لماذا نسبوا إليها بهذه النسبة والإضافة؟ لملازمتهم لها ولملازمتها لهم، ولا يقال: فلان صاحب فلان إذا كان لقيه مرة، أو وقف معه، أو زاره مرة، أو نحو ذلك؛ إلا أن يكون بينهم مرافقة، فالصحبة فيها هذا المعنى الذي نعرفه جميعًا.
يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه فمعنى ذلك أن هؤلاء هم الذين يكثرون من ملازمته وقراءته وتدبره، ومن النظر فيه، وهذا لا يكون -أيها الأحبة- للذي لا يعرف القرآن إلا إذا دخل المسجد قبيل الإقامة، فإذا دخل فتح المصحف، وقرأ آيات، ثم تركه، فلا يقال لهذا: إنه من أصحاب القرآن، وإنما يصدق ذلك على من أكثر من النظر فيه.
ولذلك تجد بعض الناس أثر كثرة القراءة ظاهر في مصحفه، فتعرف أن صاحب هذا المصحف يقرأه آناء الليل، وأطراف النهار، أما الذي لا يكاد يفتح المصحف إلا عرضًا، حينما يأتي إلى الصلاة قبيل الإقامة، فهذا لا يكون من أصحابه؛ ولهذا من أراد أن يشفع له القرآن، فإن عليه أن يكثر من ملازمته، وأن يكثر من قراءته، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أصحاب القرآن، هذه معاني ظاهرة، لكننا نغفل عنها، والإنسان أحيانًا ربما تمر به بعض الأشياء، لكنه لا يتفطن أحيانًا لما تحويه وما تتضمنه؛ لأنه لم يقف عندها أو غير ذلك.
ثم ذكر حديث النواس بن سمعان فقال:
"وعن النواس بن سمعان قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة، وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما[3]، رواه مسلم".
يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله كذلك أيضًا -كما سبق- حينما يقال: أهل القرآن، يعني هم الذين يلازمون قراءته، وتدبره، والعمل بما فيه، والذي يقرأ كثيرًا ولكنه لا يعمل بالقرآن لا يكون من أهل القرآن، والذي يقرأ ولا يتدبر، ولا يفقه لا يكون من أهل القرآن.
قال: يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا ذكر هذا القيد؛ لئلا يفهم أحد، أو يتوهم أن مجرد القراءة وحدها تكفي ليكون من أهل القرآن.
قال: قدمه يعني: تتقدمه.
سورة البقرة، وآل عمران وهما من أعظم سور القرآن، والنبي ﷺ قال: اقرأوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف[4]، غمامتان: كسحابتين أو كغيايتين، وهو كل ما غطاك فهو غياية، ويقال: غيابتان، يعني أيضًا كذلك؛ ولهذا يقال: غيابة الجب؛ لأن من كان في البئر فإنه يكون مستترًا عن الأنظار، فلا يراه الناس.
أو فرقان من طير صواف ومن أهل العلم من حمل هذا على ثواب القرآن، وأنه يأتي بهذه الهيئة، وهو منقول عن الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية عنه[5]، وفيها كلام، ومن شاء فليطالع كتاب الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
يقول النبي ﷺ: تحاجان عن صاحبهما تحاجان، فالقرآن يحاج، وهو حجة لك أو حجة عليك، وأخبر النبي ﷺ: إن سورة من القرآن ثلاثين آية، شفعت لرجل، حتى غفر له، وهي: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1][6]، فيأتي القرآن يشفع، والصيام يشفع، وسورة البقرة وآل عمران تشفعان وتحاجان، وسورة تبارك تحاج عن صاحبها، مثل هذا يجعل المؤمن يعيد النظر في حاله مع كتاب الله ، هل هو من أهل القرآن؟ وهل هو من العاملين به؟ وهل هو من أصحاب القرآن؟ أما أنه يصدق عليه قول الله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] إما بهجر تلاوته، أو بهجر تدبره، أو بهجر العمل بما فيه، أو بهجر التحاكم إليه، وما إلى ذلك.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة برقم (804).
- سنن الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر برقم (2910) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة برقم (805).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة برقم (804).
- الاستقامة (1/ 74).
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (8276) وقال محققو المسند: "حسن لغير".