إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في الليلة الماضية كان الحديثُ عن الحال أو الحين الذي يُقال فيه هذا الذكر والدُّعاء الذي يرويه ابنُ عباسٍ عن النبي ﷺ: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا[1]. الحديث.
وذكرنا أنَّه في هذه الرِّواية في "صحيح مسلم" أنَّه قاله لما آذنه بلالٌ بالصَّلاة: "فقام فصلَّى ولم يتوضّأ، وكان في دُعائه"، قلنا: هذا يحتمل أن يكون قال ذلك في صلاة الفجر، ويحتمل أنَّ ذلك كان في دُعائه في صلاته في الليل،
ويحتمل أنَّ ذلك كان في دُعائه حينما خرج إلى الصَّلاة، كلّ ذلك يحتمله ظاهرُ اللَّفظ.
وقلنا بأنَّ الإمام البُخاري -رحمه الله- بوَّب عليه بقوله: "باب الدُّعاء إذا انتبه من اللَّيل"[2]، فكأنَّه جعل ذلك حينما يستيقظ مع قراءة الآيات من أواخر سورة آل عمران؛ لأنَّه في نفس الحديث، وأنَّ النَّسائي قال: "باب الدُّعاء في السُّجود"[3]. وذكر هذا الحديث.
وذكرنا أنَّه جاء في روايةٍ عند مسلم: "ثم خرج إلى الصَّلاة، فصلَّى، فجعل يقول في صلاته، أو في سُجوده"[4]، يعني: الصُّبح، فهذه عند مسلم.
وفي روايةٍ أخرى ليست من رواية كُريب عن ابن عباسٍ، بل من رواية محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه أنَّه قال هذا الدُّعاء وهو ذاهبٌ إلى صلاة الصُّبح. قال: "فأذَّن المؤذِّن، فخرج إلى الصَّلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا"[5].
في هذه الرِّواية أنَّه قال ذلك في الطَّريق، لكن هذه الرِّواية من حيث الثُّبوت والقوة دون التي قبلها، التي قبلها أثبت وأقوى وأصحّ.
والإمام مسلم -رحمه الله- يُورد بعد الرِّواية التي هي أصلٌ في الباب، يُورد بعد ذلك من الطُّرق والرِّوايات ما قد يتقاصر عن شرطه.
وكذلك أيضًا ذكرنا روايةً أُخرى عند الترمذي أنَّه قال ذلك حين فرغ من صلاته[6]، وقلنا: هذا يحتمل أنَّه قاله قبل السَّلام بعدما فرغ من الصَّلاة على النبي ﷺ في آخر التَّشهد، ويحتمل أنَّه قاله بعد الصَّلاة، ولكن هذه الرِّواية عند الترمذي بهذا اللَّفظ لا تخلو من ضعفٍ.
وذكرنا أيضًا الرِّواية الأخرى من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ عند البخاري في "الأدب الـمُفرد": "كان رسولُ الله ﷺ إذا قام من الليل يُصلِّي فقضى صلاته يُثني على الله بما هو أهله"، قضى صلاته، يُصلِّي من الليل: "إذا قام من الليل يُصلِّي فقضى صلاته يُثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه: اللهم اجعل في قلبي نورًا"[7].
فقوله: "فقضى صلاته يُثني على الله" يحتمل أنَّه يقول ذلك في آخر صلاة الليل قبل السَّلام، في آخرها، ويحتمل أنَّه يجعل ذلك في قنوته.
والحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال: "ويُجْمَع بأنَّه كان يقول ذلك عند القُرْب من فراغه"[8]، فهذه احتمالات.
وعند أبي يعلى في "المسند": "ثم صلَّى الركعتين قبل الفجر"[9]، يعني: أنَّه جعل ذلك في الركعتين قبل الفجر، وهذا قال عنه مُحقق "مسند أبي يعلى": "إسناده صحيحٌ"[10].
والظَّاهر أنَّه يقصد بذلك أصل الحديث؛ لأنَّ أصله في "الصَّحيحين"، ولكن هذه اللَّفظة ليست في "الصَّحيحين"، والإسناد الذي عند أبي يعلى لا يخلو من مقالٍ، وإن كان أحسن حالاً من إسناد الطَّبراني في "الكبير، و"الأوسط"، وفي كتابه الآخر: "الدُّعاء"، وكذلك ما أخرجه أبو نُعيم في "الحلية".
فعند الطَّبراني في "الكبير"[11]، و"الأوسط"[12]، و"الدعاء"[13]، وعند أبي نُعيم في "الحلية"[14]، وكذلك عند البيهقي في "الدعاء"[15]: "فلمَّا صلَّى الركعتين قبل الفجر قال".
الآن هذه الرِّواية يحتمل أنَّه قال فيها، لكن الرِّواية التي عند أبي يعلى: "ثم صلَّى الركعتين بعد الفجر، فلمَّا فرغ من صلاته قال".
وأيضًا هنا فرغ يحتمل أنَّه سلَّم، ويحتمل أنَّه قاله قبل السَّلام، يحتمل، لكن الرِّواية لا تخلو من ضعفٍ.
وفي روايةٍ: "فلمَّا ركع الركعة الأخيرة -هذا في صلاة الليل، يعني: الوتر- فاعتدل قائمًا من ركوعه قنت فقال". وذكر الحديث. لكن إسنادها لا يصحّ، وعليه فإننا نبقى مع رواية مسلمٍ التي سبقت من رواية كُريب: "ثم خرج إلى الصَّلاة فصلَّى، فجعل يقول في صلاته، أو في سجوده"، هذه أقوى هذه الرِّوايات.
فيبقى أنَّه في المنتهى أنَّ ذلك ليس مما يُقال حال الخروج إلى المسجد، إنما يُقال هذا -والله أعلم- في الصَّلاة.
الجانب الثاني: وهو ما يتعلَّق بالألفاظ والرِّوايات:
هذا الحديث في بعض رواياته -كما عند الترمذي- جاء فيه دعاءٌ طويلٌ قبل هذا، مبدئه: اللهم إني أسألك رحمةً من عندك[16]، إلى آخر ما قال، ولكن هذا الدّعاء الطّويل لا يصحّ، لا يثبت، لكن قوله هنا: اللهم اجعل في قلبي نورًا إلى آخره، هذا كما ذكرنا في "الصَّحيحين"[17].
نأتي للرِّوايات الثابتة الصَّحيحة: فالأصل هو رواية مسلمٍ، وما بين الأقواس هي زيادات صحيحة، وهناك زيادات أُخرى غير صحيحةٍ أعرضتُ عنها.
فهنا في أصل الحديث في أوَّله: اللهم اجعل في قلبي نورًا، هذا هو الثابت، وأمَّا ما ورد من رواية: اللهم اجعل لي نورًا في قلبي، ونورًا في قبري، فإنَّها لا تصحّ، فنبقى مع هذه الجملة الأولى كما عند مسلمٍ وغيره: اللهم اجعل في قلبي نورًا، هذا أول ما يقول.
بعدها زيادة في بعض رواياته عند مسلمٍ: وفي لساني نورًا، وفي أصل الحديث: وفي بصري نورًا.
وفي روايةٍ عند مسلم: واجعل في بصري نورًا[18].
يعني: لو أنَّك قلتَ: وفي بصري نورًا، أو "فاجعل في بصري نورًا"، فالأمر يسيرٌ.
وفي سمعي نورًا، وفي لفظٍ عند مسلمٍ: واجعل في سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا.
وفي لفظٍ عند مسلمٍ: وعن شمالي نورًا، وفوقي نورًا.
وفي لفظٍ عند مسلمٍ: واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، وأمامي نورًا[19].
وفي لفظٍ: ومن بين يدي نورًا عند مسلمٍ، يعني: بدلاً من: وأمامي نورًا، ومن بين يدي[20]؛ لأنَّها بمعنى: أمامي.
وخلفي نورًا، وفي لفظٍ عند مسلمٍ: واجعل من خلفي نورًا.
بعدها هناك زيادات عند مسلمٍ في بعض الرِّوايات: واجعل لي في نفسي نورًا[21].
وفي أيضًا رواية عند مسلمٍ: اللهم أعطني نورًا[22].
وفي أصل حديث الباب: وعظِّم لي نورًا[23].
وفي روايةٍ عند مسلمٍ: واجعل لي نورًا، أو قال: واجعلني نورًا[24]، بالشَّك.
ولكنَّه في روايةٍ أخرى عند مسلمٍ أيضًا من غير شكٍّ: واجعلني نورًا.
وفي روايةٍ أيضًا عند مسلمٍ: وأعظم لي نورًا.
وفي زيادةٍ عند ابن جريرٍ في آخره: وزدني نورًا، وزدني نورًا، وزدني نورًا[25].
هنا في هذا الموضع روايات لا تصحّ، كما عند الترمذي في آخره: اللهم أعظم لي نورًا، وأعطني نورًا، واجعل لي نورًا[26]، هذه لا تصحّ.
وكذلك عند ابن أبي عاصم: وهبْ لي نورًا على نورٍ[27].
وعند الطَّبراني في آخره: واجعل لي يوم القيامة نورًا[28]، هذه الألفاظ في ثبوتها نظر.
هنا في آخره يقول: "فلقيتُ بعضَ ولد العباس فحدَّثني بهنَّ، فذكر عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين"، كل هذا سيأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله تعالى-، يعني: يكون اللفظُ هكذا: وفي عصبي نورًا، وفي لحمي نورًا، وفي دمي نورًا، وفي شعري نورًا، وفي بشري نورًا.
وأين يكون موضع هذا؟
يوجد في رواية الترمذي من طريق داود بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جدِّه، وذكر الحديثَ، وفيه أنَّه قال: اللهم اجعل لي نورًا في قبري، ثم ذكر القلبَ، ثم الجهات السّت والسَّمع والبصر، ثم الشّعر والبَشَر، ثم اللَّحم والدّم والعظام، أنها تكون الجهات السّت، لكن الرِّواية هذه ضعيفة لا تصحّ من طريق داود بن علي بن عبدالله بن عباس، ومن ثَمَّ فإنَّه لا يُبْنَى على ذلك حُكمٌ.
ولو قال قائلٌ: "إنَّ الاستئناس بهذه الرِّواية الضَّعيفة في ترتيب هذه المذكورات أولى من مجرد الاجتهاد" لكان له وجهٌ -والله أعلم-.
وعمومًا هذا الحديث في ألفاظه وروايته فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وإن شاء الله أنَّ هذا لا يضرّ؛ لأنَّ ذلك في الرِّوايات الثَّابتة الصَّحيحة في "الصَّحيحين" وغيرهما.
الحاصل: أنَّ السياق الذي مع الزيادات يمكن أن يُورد في هذا المقام: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي بصري نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، واجعل من تحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي في نفسي نورًا، الله أعطني نورًا، وعظّم لي نورًا، واجعل لي نورًا –أو: واجعلني نورًا- وأعظم لي نورًا، وزدني نورًا، وزدني نورًا، وزدني نورًا.
وإذا أدخلنا الزِّيادة بعد قوله: وفي سمعي نورًا يكون: وفي عصبي نورًا، وفي لحمي نورًا، وفي دمي نورًا، وفي شعري نورًا، وفي بشري نورًا، ثم: واجعل عن يميني نورًا، وعن يساري نورًا إلى آخر الحديث.
هذه الألفاظ الثَّابتة فيه، ولو أنَّ أحدًا حفظ روايةً من روايته كهذه الرِّواية التي عند مسلم التي هي أصل حديث الباب، يعني: لو حذفت ما بين القوسين؛ فإنَّ ذلك يكفيه -إن شاء الله-، والأمر في ذلك يسيرٌ، هذه الرِّوايات لو أنَّه اقتصر على روايةٍ مختصرةٍ منها أجزأه، لكن المجيء بالرِّواية الأكمل أولى وأفضل -والله أعلم.
كريب مولى ابن عباسٍ يقول: "ودعا رسولُ الله ﷺ ليلتئذ تسع عشرة كلمة"، قال سلمة: "حدَّثنيها كريب، فحفظتُ منها اثنتي عشرة كلمة، ونسيتُ ما بقي"، فذكر ما تقدَّم إلى قوله: "واجعل لي نورًا".
وزاد: في لساني نورًا بعد قوله: في قلبي إلى آخره، اثنتي عشرة كلمة، لو حسبنا الزِّيادات الصَّحيحة جميعًا فلربما تبلغ تسع عشرة كلمة، لكن لو حسبنا الرِّوايات الضَّعيفة فقد يصل ذلك إلى -الرِّوايات الضَّعيفة بمجموعها- خمسٍ أو يقرب من خمسٍ وعشرين، وقد لا يبلغ ذلك، مع أنَّ ابنَ العربي يقول بأنَّها تبلغ خمسًا وعشرين خصلة[29]. هكذا قال، لكن الذي أحصيتُه بمجموع الرِّوايات الصَّحيحة يبلغ تسع عشرة كلمة، وهو الموافق لما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.
هذا ما يتعلَّق بألفاظ الحديث، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء إذا انتبه بالليل، برقم (6316)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- "صحيح البخاري" (8/69).
- "سنن النسائي" (2/218)، برقم (1121).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصَّلاة، برقم (3419)، وضعَّفه الألباني في "السلسلة الضَّعيفة"، برقم (2916).
- "الأدب المفرد" (ص365)، برقم (696).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/117).
- مسند أبي يعلى الموصلي (4/419)، برقم (2545).
- مسند أبي يعلى الموصلي (4/419)، برقم (2545)، والمحقق هو: حسين سليم أسد.
- "المعجم الكبير" للطَّبراني (10/283)، برقم (10668).
- "المعجم الأوسط" (4/95)، برقم (3696).
- "الدعاء" للطبراني (ص165)، برقم (482).
- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (3/209).
- "الدَّعوات الكبير" للبيهقي (1/132)، برقم (69).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصَّلاة، برقم (3419)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (1194).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، برقم (6316)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (763).
- أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، برقم (696)، والطبراني في "المعجم الكبير"، برقم (12380).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل إلى الصَّلاة، برقم (3419)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (1194).
- ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/118)، وعزاه إلى ابن أبي عاصم في كتاب: "الدعاء".
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم (10648)، وفي "الدعاء"، برقم (759).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/118).