الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وطلب القرآن من حسن الصوت، والاستماع لها.
عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "سمعت النبي ﷺ قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه" متفق عليه[1].
قوله: "سمعتُ النبي ﷺ قرأ في العشاء بالتين والزيتون" يعني: في إحدى الركعتين، كما جاء ذلك في بعض الروايات، وأن ذلك كان في سفر.
ويقول: "فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه" يعني: أن النبي ﷺ أعطي من حسن الصوت بالقرآن ما لم يعطه غيره -عليه الصلاة والسلام-، حسن الصوت هذه موهبة من الله -تبارك وتعالى-، لا يد للإنسان فيها، ولكن من لم يعطه الله من ذلك، فإنه يجمل ويحسن أن يجتهد في تحسين صوته بالقرآن؛ لأن ذلك من تعظيم القرآن.
وهو من جهة أخرى أيضًا أفضل في القراءة، وأدعى للتدبر والخشوع للقارئ والمستمع، في آن واحد.
وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر أن النبي ﷺ قال: من لم يتغن بالقرآن فليس منا رواه أبو داود، بإسناد جيد[2].
يقول النووي -رحمه الله-: "يتغنى يعني يحسن صوته بالقرآن" وقد مضى الكلام على هذا المعنى.
من لم يتغن بالقرآن فليس منا أي: ليس على طريقتنا وهدينا ومنهاجنا وسنتنا، وليس معنى ذلك: أنه ليس من المسلمين.
ومضى الكلام على الحديث الأول، وهو: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به[3]، وما قيل في ذلك من أن المقصود عند بعض أهل العلم: الاستغناء بالقرآن، ومن المعاني التي حمل عليها ذلك الحديث تحسين الصوت.
والحديث الأخير هو حديث ابن مسعود قال: "قال لي النبي ﷺ: اقرأ علي القرآن فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان" متفق عليه[4].
قوله ﷺ لابن مسعود : اقرأ علي القرآن في هذا تواضع النبي ﷺ لأصحابه.
وفيه أيضًا: فضل ابن مسعود ، وهو ممن قال فيه النبي ﷺ: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد[5]، وقال عن نفسه : "أخذت من في رسول الله ﷺ سبعين سورة، ولا ينازعني فيها أحد[6].
يقول: اقرأ عليّ القرآن وفي هذا أيضًا سنة، وهي استماع القراءة، وبعض أهل العلم فضله على القراءة، وهذا فيه نظر، فالقراءة هي عمل القارئ، وهو أفضل، ولكن لا يخلو الإنسان من أن يكون قلبه أكبر حضورًا حال القراءة، أو حال الاستماع، فإن كان حال الاستماع يحصل له من الخشوع والتدبر، وحضور القلب، فإن ذلك يكون في حقه أفضل، ولكنه لا يترك قراءة القرآن.
"يقول: فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟" يعني: أن ذلك يؤخذ من رسول الله ﷺ، والأمة تتلقى منه.
قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فالإنسان قد يحصل له عند السماع ما لا يحصل له عند القراءة من التدبر والتفكر.
"يقول: فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان".
وبكاء النبي ﷺ ربما يكون لعظم تلك المقامات والمسئولية، وسؤال النبي ﷺ عن أمته، وشهادة النبي على الأمة.
ومن أهل العلم من يقول: بأنه يشهد عليهم بالكمالات والنقائص؛ وذلك يشق عليه -عليه الصلاة والسلام-، فبكى لذلك.
على كل حال نأخذ من هذا الحديث: أن الاستماع للقرآن سنة، وأن الناس إذا اجتمعوا ووجد من يحسن القراءة، أنه يسوغ أن يطلب منه في المجلس بحضرتهم أن يقرأ، وهم يستمعون لقراءته، وهي سنة تكاد أن تكون مهجورة.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] برقم (4952) ومسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء برقم (464).
- أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة برقم (1471) بلفظ: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقال الألباني: "حسن صحيح".
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الماهر بالقرآن مع الكرام البررة)) برقم (7544) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم (792).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ حسبك برقم (5050) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر برقم (800).
- أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، فضل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- برقم (138) وصححه الألباني.
- أخرجه أحمد برقم (4330) وابن حبان برقم (6504) وقال الألباني: "حسن صحيح" انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (9/ 232).