الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا "باب استحباب الاجتماع على القراءة".
وقد أورد المصنف -رحمه الله- فيه حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده[1]، رواه مسلم.
باب استحباب الاجتماع على القراءة.
كأن المصنف -رحمه الله فهم- من قوله ﷺ: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم... أن الاجتماع يكون على القراءة، ولعل المعنى أوسع من ذلك، والله تعالى أعلم، إذ يدخل فيه الاجتماع على القراءة من باب التعليم، كما يدخل فيه أيضًا الاجتماع على المدارسة؛ لتفهم معانيه وتدبره وتعقله واستخراج هداياته وأحكامه وكنوزه ومعارفه، فإن هذا من مدارسة القرآن، بل هو من أجل مدارسته وأعظمها، والقرآن إنما أنزله الله لا لمجرد التلاوة، كما هو معلوم، وإنما من أجل لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] ، ومن ثم يكون العمل بذلك.
والإمام النووي -رحمه الله- له رأي معروف، في هذه المسألة، وهو أنه يرى أن هذا الحديث، يصدق على اجتماع قوم على تلاوة القرآن؛ وذلك يكون بصورة معروفة، وهو ما يعرف بالقراءة بالإدارة والقراءة بالإدارة: أن يجتمع قوم يتحلق مجموعة من الناس، فهذا مثلاً يقرأ وجهًا، وهذا يقرأ وجهًا... إلى آخره ، فهذه الطريقة إن كانت لمجرد القراءة، يعني: لا للتعليم، فمن أهل العلم من يرى أن هذا الحديث يدل عليها، وأن هذا العمل مشروع، وممن يقول بذلك الإمام النووي -رحمه الله- في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن[2]، وكذلك أيضًا ظاهر هذه الترجمة يدل على هذا الفهم من الحديث.
وممن يقول بهذا من المعاصرين: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-[3]، ومن أهل العلم من يرى أن ذلك غير مشروع، ولعل هذا -والله أعلم- هو الأقرب.
بمعنى أن يجتمع أناس لا للتعليم، لكن هذا يقرأ وجهًا، ثم الآخر يقرأ وجهًا آخر، والبقية يستمعون، ثم الثالث يقرأ وجهًا، والبقية يستمعون، والرابع يقرأ، لا ليصحح القراءة، وإنما فقط ليقرأ، فهؤلاء الذين يستعمون لو أنهم اشتغلوا بالقراءة، وكل واحد منهم ذهب في زاوية من المسجد، أو في ناحية منه، وجعل يقرأ لكان ذلك أفضل وأكمل وأعظم في الأجر، فيكون له بكل حرف عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف.
ثم أيضًا لم يُعهد عن أصحاب النبي ﷺ أنهم كانوا يقرؤون بهذه الطريقة، يجتمعون هذا يقرأ بعضًا، وهذا يقرأ بعضًا، لكن إن كان ذلك للتعليم، فيجتمعون بين يدي من يصحح لهم التلاوة، ومن يراجع لهم أحكام التجويد، فهذا لا إشكال فيه، فيكون لهذا نوبة، ولهذا نوبة، ولهذا نوبة، كما هو معمول بالحلق القرآنية، فهذا لا إشكال فيه إطلاقًا، ويدخلون -إن شاء الله- في قوله: يتدارسونه بينهم.
فلاحظ هنا أنه قال: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم فهل مجرد التلاوة وحدها من غير المدارسة تكفي في هذا؟ وهل هذا العمل هو الأفضل والأكمل؟ وهو أن يقرأ هذا، ثم يستمع لسبعة يقرؤون بعده، وهو جالس ما يقرأ؟
لا شك أن قراءته وحده سبعة أوجه أفضل من أن يقرأ وجهًا، ويستمع لستة، إلا إذا كان ذلك للتعليم، كما سبق، والمسألة فيها كلام معروف لأهل العلم، فمنهم من يشدد في ذلك، ويرى أنه من البدع، وقد لا يبلغ الأمر هذا، فهذا اجتماع على كتاب الله وتلاوة، فلا يقال: إن ذلك من البدع، لكن الكلام فيما يدل عليه هذا الحديث، وما هو الأفضل والأكمل، والعلم عند الله ، وقوله ﷺ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله... بيوت الله هي المساجد، فهل هذا مقصود؟ يعني: لو أنهم اجتمعوا في مكان آخر، في بيت من بيوتهم، أو في مجلس من مجالسهم، أو في نادٍ من نواديهم، وقرؤوا كتاب الله ، هل يحصل لهم ما ذكر أو لا؟
من أهل العلم من قال: إن ذلك ذكر؛ لأنه الأشرف والأكمل، ولا يعني: أن ذلك ينتفي عنه غيره، فيما لو جلس قوم يتلون كتاب الله بغير مسجد، هكذا فهم بعض أهل العلم.
وكذلك أيضًا في قوله ﷺ: ما اجتمع قوم... القوم يطلق في الأصل على جماعة الذكور خاصة، وقد دل على ذلك القرآن في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11] فعطف النساء على القوم، فدل على أن القوم هم جماعة الذكور، وكذلك في قول الشاعر:
وَما أدْرِي وَسَوْفَ إخالُ أدْرِي | أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ؟[4] |
عطف أيضًا النساء على القوم، فدل على أن إطلاق القوم في لغة العرب يراد به جماعة الذكور خاصة، وقد يدخل النساء فيه على سبيل التبع.
فالأنبياء حينما يقولون: يا قومي، أو يا قومنا، فهل هذا متوجه فقط للذكور دون الإناث؟ الواقع أن النساء يدخلن فيه على سبيل التبع، فهنا قال: ما اجتمع قوم هل هذا يختص بالرجال والنساء لا يصدق عليهن؟ حتى لو قلنا: إنه مقيد بالمسجد على ظاهره، فلو اجتمع نساء في المسجد، جئن في مصلى النساء، وجعلن يتعلمن القرآن، يصدق عليهن أو لا يصدق؟ الظاهر أنه يصدق، والخطاب في القرآن غالبًا ما يتوجه بصيغة الذكور، والنساء يكن تبع ؛ لأن الخطاب يكون للأشرف، وإن كنت في زمان قد تسود فيه النساء، لكن هذا هو منطلق الشرع، وهكذا كان الناس في الجاهلية، وفي الإسلام إنما يوجه الخطاب للرجال؛ ولهذا اشتكى النساء لما رأين الله -تبارك وتعالى- يخاطب الرجال، ويوجه الخطاب في القرآن للرجال، فنزل ثلاث آيات، تطييبًا لقلوبهن، كما هو معروف في أسباب النزول، وهي: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ[آل عمران:195] وما شابه ذلك مما هو معروف محله.
فالشاهد هنا: أن النساء داخلات على سبيل التبع؛ لأن النساء شقائق الرجال، فلا فرق بين النساء والرجال في هذه القضية، فهي قضية تعبدية، فلو اجتمع نساء يتلون كتاب الله ، فإن ذلك يكون لهن من الأجر مثل ما للرجال.
يتلون كتاب الله هذا في التلاوة ويتدارسونه بينهم إذًا ليست مجرد التلاوة، وإنما المدارسة، وهذه المدارسة قد تكون للمعاني بالتفهم والتدبر والتعقل، واستخراج الهدايات والأحكام، وقد تكون هذه المدارسة لإقامة حروفه وألفاظه، يعني تعليم التجويد، فقال هنا: ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة فهذا هو جواب الشرط، يعني: ما اجتمع قوم كذا وكذا إلا حصل لهم كذا، فهذا وعد من الله -تبارك وتعالى- نزلت عليهم السكينة والسكينة في معناها فيها كلام كثير، وقد سبق الإشارة إلى ذلك، والظاهر -والله تعالى أعلم-: أن معناها يدل عليه لفظها، فالسكينة من السكون، فيحصل لهم من السكون، وطمأنينة القلب، والخشوع، وهدوء النفس، وراحة البال، وما إلى ذلك من المعاني كل ذلك داخل في السكينة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:4] فهذا مبعث الطمأنينة، فيزول عنهم الخوف والاضطراب والقلق والتوتر، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا تجتمع مع السكينة بحال من الأحوال؛ ولذلك الناس الذين يبحثون عن راحة النفس، وطرد القلق والتوتر، وما أشبه ذلك، عليهم بمجالس الذكر، ومجالس القرآن، وأن يقبلوا على كتاب الله ، فيتعلمون ألفاظه ومعانيه، فيحصل لهم من الدواء ما الله به عليم.
وقد قال كثير من الإخوة حينما كانت تتوقف دروس التفسير: ولو لم يكن الخطاب موجهًا إلينا، لكن كان الدرس بحد ذاته -أو بمجرد حضور الدرس- نافعًا، وحينما كان الدرس كل يوم يقولون: كان يعالج كثيرًا من مشكلاتنا، حتى إن بعض النساء تقول: تركت أشياء كثيرة كنت أعملها في الماضي، ثم بعد ذلك لم حصل الانقطاع رجعت إلى بعضها، فلا شك أن حضور مجالس القرآن، وتعليمه وتدبره وتفهمه: أنه يحصل فيه من السكينة والطمأنينة بخلاف المجالس الأخرى، واليوم أقرأ خبرًا في بعض البلاد المجاورة مباراة كرة قدم حصل فيها إصابات نحو من مائتين وخمسين مصاب، هذه حرب، فتلك المجالس والمجامع تختلف عن مجالس الذكر، ومجالس القرآن تمامًا، فهذا نزلت عليهم السكينة هذا واحد، وأعلى منه: غشيتهم رحمة الله ليست فقط تنزل عليهم، وإنما تغشى السكينة، تنزل في القلوب، والرحمة تغشى الإنسان، ومن غشيته الرحمة، فلا تسأل عنه حالة بعد ذلك، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن غشيتهم الرحمة.
قال: وحفتهم الملائكة لأن الملائكة كما قال النبي ﷺ: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر[5]، يعني: يبقى هؤلاء نوبة من الفجر إلى العصر، وهؤلاء من العصر إلى الفجر، ويحضرون مجالس الذكر، ويتداعون لها، فإذا وجدوا مجلسًا من مجالس الذكر اجتمعوا عليه، فتحفهم الملائكة بأجنحتها، تصور هذا الفضل العظيم حينما يستشعره الإنسان، بينما من يحضرون مجالس اللهو والغفلة تحفهم الشياطين، نسأل الله العافية، وتستفزهم إلى المنكر، فلا ترى إلا أصواتًا صاخبة، وأفعالاً منكرة.
يقول: وذكرهم الله فيمن عنده هذا هو التدرج من الأدنى إلى الأعلى وذكرهم الله فيمن عنده هذه صلاته -تبارك وتعالى- على عباده هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[الأحزاب: 43] فصلاة الله على العبد، هو ذكره في الملأ الأعلى، فحينما نقول: "اللهم صلِّ على محمد" يعني: نسأل الله وندعو، فالصلاة منا دعاء، وصلاة الملائكة استغفار، وصلاة الله أن يذكر عبده في الملأ الأعلى.
وذكرهم الله فيمن عنده يعني: في الملأ الأعلى عند الملائكة، فحينما يقال للإنسان: ما شاء الله أنت ذُكرتَ في مجلس فلان من العظماء والكبراء والملوك والسلاطين، وما أشبه ذلك، وذكرت البارحة في المجلس، وأثنى عليك، قد لا يتمالكه السرور والفرح، ويعتبر هذا تاريخ مشرق له، والله -تبارك وتعالى- يذكر عبده فيمن عنده، وما هو العمل العظيم هذا الذي يحتاج إلى جهد كبير، هو مجرد أنه حضر مجلس لذكر الله ، فهذه أمور يسيرة، ولا تكلف الإنسان شيئًا، لكنها النفس تحتاج إلى جهاد، حتى على العمل القليل، فإذا استرسل العبد معها في باب الغفلة، فإنه يشق عليه اليسير من العمل؛ ولذلك بعض الناس قد تشق عليه ركعة واحدة في الوتر، وبعض الناس إذا لم يبق له إلا ساعة غلبته عيناه من الليل يصلي فيها، وقد اعتاد أن يصلي ثلاث ساعات بكى، وبقي آسفًا، وذلك اليوم حزن؛ لأنه ما قام إلا ساعة واحدة، وهذا موجود، وبعض المعاصرين من أهل العلم كان بهذه المثابة، فلاحظ الفرق بين من يتثاقل ركعة واحدة يوتر بها، وبين من يأسف على فوات مثل هذا، فالنفس كلما استرسل الإنسان معها استثقلت العمل اليسير؛ ولذلك يحتاج العبد إلى فقه في التعامل مع النفس، ورفعها، فإذا رفعها أقبلت؛ ونحن مقبلون على عاشوراء، وتجد الأسئلة الكثيرة هل يكفي أن يصوم عاشوراء وحدها؟ وهل يجب أن يصوم التاسع معها؟ وهل هو مؤكد يوم العاشر؟ وأسئلة كثيرة، كأنه حدث كبير في حياته أنه يصوم يوم؛ لأنه ما اعتاد الصوم، لكن الذي يصوم محرم بكامله؛ لأنه أفضل الصيام بعد رمضان، صيام عاشوراء ما عنده مشكلة فيه أصلاً، ومتى بالضبط هو الخميس وإلا الأربعاء وإلا الجمعة؟ أو هذا السؤال الذي يتكرر، ونجد إلحاحًا من معرفته في كل عام، نقول: هذا الذي اعتاد أن يصوم محرم بكامله ما يسأل عن مثل هذا، ويرى أن هذه قضية يسيرة صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده[6]، فالذي أصلاً يصوم عشر ذي الحجة، هو لا يسأل عن صيام يوم عرفة فقط، فالأمر بالنسبة إليه يسير، فالنفس كلما جاهدتها ارتقت وارتفعت، وإذا استرسل معها ضعفت وتلاشت، حتى يثقل عليه الفرض، ويثقل عليه التسبيح والتهليل، وبعض الناس لا يكاد يصلي، فيفر فرارًا من المسجد.
فأسأل الله أن يصلح هذه القلوب والأعمال، وأن يرزقنا وإياكم التقوى والهدى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، ويجعله حجة لنا لا حجة علينا.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).
- التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 103).
- مجموع فتاوى ابن باز (30) جزءًا (24/376).
- البيت لزهير في العمدة في محاسن الشعر وآدابه (2/66) وشرح ديوان المتنبي للعكبري (3/131).
- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر برقم (555) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم (632).
- أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس برقم (1162).