الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي باب فضل الصلوات، أورد المصنف -رحمه الله- حديث ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: لجميع أمتى كلهم[1]، متفق عليه.
هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ، ويدل على فضل هذه الصلوات من جهة تفسير قوله -تبارك وتعالى-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هود:114] بالفرائض الخمس، فهذا رجل أصاب من امرأة قبلة، وجاء في بعض الروايات مزيد من التفصيل في هذا، على كل حال هذا الرجل قبلها، ثم ندم، وأتى النبي ﷺ وأخبره، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ظاهر الخطاب أنه موجه للنبي ﷺ، ولكن الأمة تخاطب في شخصه -عليه الصلاة والسلام- لأنه المقدم فيها، وهو قدوتها وأسوتها -عليه الصلاة والسلام-، فالخطاب له خطاب لأمته، إلا بدليل يدل على التخصيص.
قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ما المراد بهذه الصلاة؟ من أهل العلم من يقول: أقم الصلاة طرفي النهار الطرف الأول هو صلاة الفجر، الطرف الثاني: العصر، وقد يدخل معه الظهر؛ لأنهما في العشي، يعني المساء؛ وذلك أن المساء يكون بعد الزوال، فهذا هو الشق الثاني، وإن لم تكن صلاة الظهر في طرف، فالذي يدخل فيه بصورة أوضح على هذا القول هو صلاة العصر، فتكون الفجر في طرف، والعصر في الطرف الثاني من النهار وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ باعتبار: أن المراد به صلاتي المغرب والعشاء، فتكون الآية تناولت الفروض الخمس.
ومن هنا وضعها المؤلف -رحمه الله- في هذا الباب، باب فضل الصلوات، و(أل) عهدية، يعني: فضل الصلوات المعهودة، الفرائض الخمس، وهو إنما عقد الباب من أجل هذا، ولم يعقد هذا الباب من أجل الحديث عن النوافل والتطوع، وسيأتي أبواب أخرى تتحدث عن مثل هذه الصلوات، فهو يريد الفرائض الخمس، لكن ما وجه إدخال هذا الحديث في الفرائض الخمس؟ أن الآية في الفروض الخمسة، يعني: من هذا الوجه تكون الآية دالة على هذا المعنى، وهذا ليس محل اتفاق، ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية نازلة حينما فرضت الصلاة بصلاتين فقط، في أول النهار، وفي آخره، صلاة في أول النهار، وصلاة في آخر النهار، وهذا بعيد؛ لأن هذه الآية نازلة في المدينة، وتفاصيل روايات أسباب النزول تدل على هذا قطعًا، والصلوات الخمس إنما فرضت بمكة، في ليلة المعراج، وكانوا يصلون قبل ذلك صلاتين: صلاة في أول النهار، وصلاة في آخر النهار، هكذا كانت الصلاة في أولها، فهذه إذًا لا يقال: أقم الصلاة طرفي النهار، يعني: قبل أن تفرض الصلوات الخمس، والمقصود بها الفرائض التي كانت في أول النهار، وآخر النهار؛ لأنه في البداية كان يجب عليهم أن يصلوا صلاتين، فهذا بعيد.
ومن أهل العلم من لا يجعل ذلك أصلاً في الفريضة، وإنما المقصود مطلق الصلاة، يعني: صل في أول النهار، وصل في آخر النهار، وصل في الليل، فإن الحسنات يذهبن السيئات، فهذه الصلوات تكون كفارة.
وقد جاء عن النبي ﷺ في الأحاديث التي سمعتم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر[2]، فهذا في الفروض الخمس، فهي تكفر ما بينها، هذا لا إشكال فيه، كما أن النبي ﷺ قال: ما من رجل يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له[3]، فمثل هذا يدل على أن صلاة النافلة أيضًا إذا كانت بهذه المثابة فإنها تكون كفارة؛ ولهذا عقب الآية بقوله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ولا يبعد أن يقال -والله تعالى أعلم-: لما كانت الآية تحتمل معنيين: الفرائض، والنوافل، وقد جاءت الأدلة الصحيحة أن الفرائض تكون كفارة لما بينها، كما أن صلاة النافلة بهذه الصفة التي ذكرها النبي ﷺ تكون كفارة، بدليل قرينة في الآية: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] جنس الحسنات تذهب السيئات، والنبي ﷺ يقول: واتبع السيئة الحسنة تمحها[4]، فلذلك يمكن أن يقال -والله أعلم-: بأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر، ودل على كل منها دليل صحيح من القرآن، أو من السنة، فيمكن أن تحمل الآية على هذه المهام، فتكون جامعة لها، والله تعالى أعلم.
ومن هنا يقال -والله تعالى أعلم-: إن ذلك يدخل فيه الفروض الخمسة، كما يشمل أيضًا صلاة التطوع إذا صلاها الإنسان على الوجه المطلوب، فإنها تكون كفارة، وكما ذكرت في مناسبة سابقة: أن من الناس من يأخذ هذا العلم مأخذًا غير صحيح -يعني: المأخذ السلبي- فيقول: إذًا ما دام الأمر كذلك إذًا نفعل السيئات، ونصلي ركعتين، ونفعل السيئات والفرائض الخمسة تكون كفارة، والحمد لله!
نقول: لا، هذا الكلام غير صحيح؛ لأن هذا أولاً جرأة على الله ، ثم ما يدريك لعل الإنسان يختم له بهذا الذنب والمعصية، ثم ما يدريك هل قبلت منك هذه الصلاة أم لم تقبل؟ وهل كانت كفارة أم لا؟ لأن الإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها؟ فهذا الذي يدخل في الصلاة، ويخرج لو قيل له: ماذا قرأ الإمام؟ قال: هاه، ما أدري! هذه الركعة الأولى أم الثانية أم الثالثة أم الرابعة؟ قال: والله ما أدري، يقول: أنا أنظر الذي بجانبي، إذا جلس للتشهد جلستُ، وإذا قام قمتُ، ولا أدري، فمثل هذا صلاته فقط تسقط المطالبة، يعني ليس عليه الإعادة، ولكن مسألة القبول والأجر وتكفير الذنوب والسيئات بهذه الصلاة هذا شيء آخر.
فالمقصود -أيها الأحبة- أن الصلاة تفعل هذا، لكن ينبغي للعبد أن يكون تقيًا حتى يقبل الله؛ لأن الله إنما يتقبل من المتقين، ما يدري الإنسان هل قبلت؟ فهذا الذي يجترئ على الله فيقول: أعمل الذنوب وأصلي، والحمد لله! هذا لم يكن تقيًا إطلاقًا، لكن إنسان غلبته نفسه النفس الأمارة بالسوء، وإنسان وقع في ذنب، وكل أحد يقع في ذنب يبادر ويصلي ويستغفر الله، ويتوب، ولا يصر.
فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: لجميع أمتى كلهم متفق عليه.
ولاحظ لفظة جميع من أقوى صيغ العموم، ولفظة (كل) هي أقوى صيغة في العموم، كل الأمة لا يستثنى من ذلك أحد، لكن ذلك إنما يقصد به الصغائر، وهي التي تكفرها الصلاة والصيام، وما أشبه ذلك، لكن الكبائر تحتاج إلى توبة، ثم لو لم يسأل الرجل هذا السؤال فإنه محمول على العموم؛ لأن خطاب الشارع لواحد هو خطاب لعموم الأمة، إلا لدليل يدل على تخصيصه، وهذا أصل عند أهل العلم.
- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة برقم (526) ومسلم في التوبة، باب قوله تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ} برقم (2763).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر برقم (233).
- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة عند التوبة برقم (406) وحسنه الألباني.
- أخرجه الترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس برقم (1987) وحسنه الألباني.