الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي (باب فضل الصف الأول والأمر بإتمام الصفوف الأول وتسويتها والتراص فيها) أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: تقدموا، فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله[1]، رواه مسلم.
قوله: "رأى في أصحابه تأخرًا" هذا التأخر يحتمل: أن يكون المراد به التأخر في الصف، بمعنى: أنهم تركوا مسافة بين الإمام وبين المأموم أكثر مما ينبغي، وأهل العلم تكلموا في المسافة التي تكون بين الإمام والمأموم، فقدروا ذلك بنحو ثلاثة أذرع، بحيث إن المأموم يكون مباشرة في الصف الذي يلي الإمام بمقدار صف، يكون موضع قدمي الإمام موضع السجود بالنسبة للمأموم، يعني: مثل هذه الصفوف الآن، هذا الصف الأول، ثم يليه صف، كما ترون في هذا السجاد، فالإمام إذا كان يقف هنا، يعني: بداية الصف، فالمأموم مباشرة في الصف الذي يليه، هذا هو المشروع.
فقول أبي سعيد الخدري : "رأى في أصحابه تأخرًا" يحتمل: أن يكون المقصود هذا، أنهم تركوا مسافة أكثر مما ينبغي، وهذا قد يقع، فالناس قد يصلون أحيانًا بينهم وبين الإمام نحو صف كامل، فيكون هناك مسافة وبعد، ومن ثم فإنهم لا يتيسر لهم متابعة حركاته وأفعاله كما ينبغي.
ويحتمل: أن يكون المراد بـ"رأى فيهم تأخرًا" يعني: في الاستجابة والقبول والإقبال على العبادة وعلى الطاعة، وعلى الصلاة والمسجد مبكرًا، أو تأخرًا في طلب العلم الشرعي يعني: يزهدون فيه بعض الشيء، وكأن السياق -والله تعالى أعلم- يدل على الأول؛ لأنه قال: تقدموا فأتموا بي بمعنى: أنهم يقتربون، وبدليل أنه قال: وليأتم بكم من بعدكم فالصف الأول يقتدون بقيام الإمام وقعوده وأفعاله، ربما يسجد الإمام للسهو، فالمسبوق لا يدري ماذا يفعل؟ يظن أنه قام، أو نحو ذلك؛ لأنه يدري عن الركعة التي يصليها الإمام هل هي الرابعة أو الثالثة مثلاً؟ فهذا دخل والإمام في سجود السهو، فهو لا يدري هل هذا السجود الذي هو الركن في الصلاة، أو أنه سجود سهو؟ فإذا قال: الله أكبر لربما قام، فعلى كل حال الصف الثاني يأتمون بالصف الأول، والصف الثالث يأتمون بالصف الثاني؛ ولهذا في مسألة الركوع مثلاً متى تدرك الركعة؟ بإدراك الركوع، طيب متى يدرك الركوع؟ هل هو بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، أو بحال الإمام؟ بمعنى: أن المأموم حينما يدرك الإمام وهو راكع، فإنه يكون قد أدرك الركوع؛ لأن من الأئمة من يخطأ، فيقول: سمع الله لمن حمده، وهو لا يزال راكع، وهذا خطأ، وبعض الأئمة يخطئ بعكس الأول، فيقول: سمع الله لمن حمده حينما ينتقل، وهذا أيضًا خطأ، والمفروض أن تكبيرات الانتقال وسمع الله لمن حمده تكون في نفس الانتقال، فإذا قالها بعده يكون قد فات المحل، يعني: مثل الذي يقول: سبحان ربي العظيم بعد ما يرفع من الركوع، أو يقول: ربنا لك الحمد مثلاً وهو راكع، أو وهو ساجد، فهذا خطأ فكل شيء في الصلاة له محل، وكل قول يقوله له محله، فهذه التكبيرات: الله أكبر للركوع مثلاً، تكون في حال الحركة، في حال الركوع، قبل أن يصل إلى الركوع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فهي في حال الرفع، ولا يقول: سمع الله لمن حمده إذا انتصب قائمًا، كما يفعل بعض الأئمة، إما جهلاً محضًا، أو غفلة، أو لربما هو يفعل ذلك عمدًا، ويقول: من أجل أن لا يسبقني أحد، وهذا خطأ، يكون قد فات المحل، بل بعض أهل العلم قال: تبطل الصلاة، وقد لا يصل إلى هذا، لكنه خطأ.
فالآن إذا كان الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، إذا انتصب قائمًا، إذا كيف يدركه المأموم؟ وكيف يتابع من جاء ليركع مع الإمام؟ يقال: قد فاته الركوع؛ لأن العبرة هو بحال الإمام، وليس بقوله، فمن أدركه وهو راكع؟! وربما قال: سمع الله لمن حمده، لكن المأموم جاء، فأدرك الإمام في هيئة أقرب إلى الركوع، فيكون قد أدرك الركوع، فإذا أدرك الإمام وهو في حال أقرب إلى القيام يكون قد فاته الركوع، هذه كيف تدرك؟ إلا أن يرى الإمام، فأهل الصف الأول يقتدون بالإمام، وأهل الصف الثاني يقتدون بالصف الأول، فنقول: من الذي يدرك الركوع في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع؟ كل صف يقتدي بالذي قبله، فإذا جاء الإنسان وهو في الصف الثالث، نظر إلى الصف الثاني، فإذا جاء وهم ركوع، ولم ير الإمام، فإنه يكون قد أدرك، وإذا كانوا قد رفعوا، أو في حال أقرب إلى الرفع، فإنه يكون قد فاته الركوع، إذا حُمل قوله: "رأى في أصحابه تأخرًا" على هذا المعنى.
فقال: تقدموا، فأتموا بي فيقال: إن ذلك يدل دلالة صريحة على أنه لا تترك مسافة بين الإمام والمأموم، إنما يكون الإمام مباشرة بعد هذا المقدار تقريبًا من موقف المأموم، قدر ثلاثة أذرع تقريبًا، ثم يأتي موقف الإمام.
قال: وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يأخرهم الله إذا حمل على التأخر في العلم، وحضور مجالس الذكر والخير والتفقه في الدين فهذا يكون حتى يتأخرون عن ذلك.
وإذا حمل حتى يؤخرهم الله على المعنى الأول، وهو أنهم يتأخرون في اصطفافهم، فيدخل فيه أيضًا من يعتمد المكث في الخلف، وهو يستطيع أن يأتي إلى الصفوف المتقدمة، أو يصطفون بعيدًا، كما هو في بعض المساجد، ربما يصطفون بعيدًا، وبينهم وبين الصفوف التي تلي الإمام مسافة، وهذا يحصل ربما في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي، فالمسجد من الداخل فيه فراغات شاسعة وهؤلاء يصلون في الساحة، وهم بضعة صفوف في غير أوقات المواسم والزحام، لكنهم يتكاسلون، فهؤلاء تأخروا جدًا، وصلوا أيضًا خارج المسجد، فالإنسان يقترب قدر المستطاع، والله تعالى أعلم.
وقوله: حتى يؤخرهم الله لأن الجزاء من جنس العمل، وفي حديث الثلاثة الذين دخلوا أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه[2]، هذا في مجلس ذكر وعلم، فهنا قال: يتأخرون حتى يؤخرهم الله.
وذكر حديث أبي مسعود قال: "كان رسول الله ﷺ يمسح مناكبنا في الصلاة" المنكب: هو مجمع ما بين العضد والكتف، هذا يقال له: منكب "يمسح مناكبنا في الصلاة" بمعنى: يسويها، بحيث يستوي منكب المصلي مع من بجواره.
ويقول: استووا والاستواء هنا يعني تسوية الصف، بحيث يكون بحذوه تمامًا، ويدخل فيه أيضًا سد الفرج، فهذا من كمال الاستواء، وإن كان يصدق ذلك بصورة أولية -تسبق إلى الذهن- بتسوية المنكب بالمنكب.
قال: "ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم" لاحظ ربط هذا بهذا، ورتب اختلاف القلوب بالفاء على ما قبله من اختلاف الناس في الصف، فدل ذلك على أصل كبير، وهو أن اختلاف الظاهر يُؤثر في اختلاف الباطن؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية، إنما ذلكم من الشيطان[3]؛ لما كانوا إذا نزلوا في وادٍ، أو في شعب في السفر، كل واحد يذهب إلى تحت شجرة هنا، وهذا تحت شجرة هناك، وهذا تحت صخرة، فقال: إن تفرقكم هذا من الشيطان فكانوا يجتمعون حتى يسعهم البساط الواحد، يتقاربون، وهذا التقارب يؤثر في تقارب القلوب، والناس عادة يحبون أن يكون هناك مسافة بينهم وبين الآخرين، وإن كانت هذه القضية نسبية، يعني: في الصف تجد كثير من الناس -بل هو الأغلب للأسف- يحب أن يكون بينه وبين الذي بجواره مسافة، هذه المسافة في الصف نسبية محدودة، لكن حينما يذهب إلى نزهة، أو نحو ذلك، يحب أن يكون بينه وبين الآخرين مسافة، لكن ليست كالمسافة في الصف بينه وبين الذي بجانبه، مسافة أبعد تصل إلى مئات الأمتار ربما، وهكذا حينما يكون الإنسان جالسًا في مجلس، أو نحو ذلك، يجب أن يكون بينه وبين الذي بجواره مسافة، يتوسع، فهذه طبيعة في الإنسان، لكن ذلك قد يُؤثر في القلوب بالنسبة للصلاة، فيجتمع الناس، ويتراصون في الصف، والظاهر يُؤثر في الباطن، فإذا كانت شخوصهم حينما تتفرق يحصل التفرق في القلوب، فكيف إذا كان ذلك التباعد والتنافر لقطيعة وكراهية، أو لكبر وترفع، أو أنفة، أو نحو ذلك؟
فهذا لا شك أن القلوب ستكون متباعدة؛ ولذلك تجد أحيانًا المصلين يصلون والواحد لربما لا يريد أن يرى الذي بجانبه، ولا يسلم عليه، ولربما يحاول أن ينصرف من المصلى وينسل دون أن يراه أحد، ولا يسلم على أحد، ولربما إذا رأى في الصف وهو متأخر من يعرفه، لربما ذهب إلى الناحية الأخرى، هذا كله من أين؟
هذا كله -أيها الأحبة- من تفرق القلوب، ولو كان الناس يفعلون ما أمرهم الله به ما حصل هذا، ولهذا تجد بين المصلين أحيانًا وحشة، يصلون في حي واحد، وفي مسجد الحي، وتجد ربما لا يكون بينهم لا السؤال ولا الوئام ولا السلام، ولا العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهم أبدًا، كل إنسان يصلي ويذهب، حتى ما يقول: السلام عليكم إذا أراد أن ينصرف، والله المستعان، فهذا خطأ وتقصير.
هنا قال: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى[4]، والأحلام بعضهم يقول: جمع حلم، وهو بمعنى: الأناة، وعدم العجلة، وعدم الغضب، ونحو ذلك، هذا هو الحلم.
وبعضهم يقول: الأحلام هي العقول، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وأولئك الذين فسروه بالحلم، قالوا: لأنه شعار العقل، وجد إنسان راكد، في أناة، ما فيه عجلة، وليس هو بخفيف ولا بسريع الطيش، هذا يدل على كمال العقل، فإذا رأيت به خفة، هذا يدل على خفة العقل.
فالأحلام هي العقول، والنهى أيضًا هي العقول، جمع نهية، وهي العقل، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى بحيث أن هؤلاء أولاً يتفقهون بفعله، ثم أيضًا يستطيع الواحد منهم أن يقوم مقامه لو نابه شيء، ولو ناب الإمام شيء؛ ولهذا فإن من الأخطاء التي تقع أنك تجد الطفل أحيانًا يقفز ويجلس، حتى في مكان المؤذن، وهو يقيم، ويرجع المؤذن يلتفت، وإذا هو في مكانه بكل بساطة، وتجد الرجل أحيانًا معه طفل غير مميز، ويقف خلف الإمام، ولربما معه أكثر من طفل، يضع هذا عن يمينه وشماله، والذي وراء الإمام هو الطفل، هذا خطأ، هل يحق للإمام أو لغير الإمام من الناس أن يقول له: تراجع برفق ولطف؟ أو اذهب للصف الثاني، إذا كان في صف واحد فقط، يقول: له ارجع آخر الصف، هذا مكانك، بلطف، بحيث لا ينفر، ويحصل عنده ردة فعل، ويكره المسجد، أو يخاف ونحو ذلك، يقال له بلطف، فالمشروع -والله تعالى أعلم- أن لا يترك خلف الإمام.
وبعض أهل العلم من المعاصرين يقول: النبي ﷺ قال: ليليني منكم هذا أمر للمكلفين، فإذا قصروا فيه، وجاء الصغير، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، ما يقال له: اذهب، وهذا -والله تعالى أعلم- فيه نظر من الناحية الفقهية، ولهو وجه، ولكن يرد ذلك ما جاء عن قيس قال: بينما أنا أصلي في مسجد المدينة في الصف المقدّم إذ جاء رجل من خلفي فجذبني جذبة، فنحَّاني، وقام مقامي، فلّما سلّم التفت إليَّ فإذا هو أُبيُّ بن كعب، فقال: يا فتى لا يسؤْك الله، إن هذا عهد من النبي ﷺ إلينا[5]، أو كما قال وهو من علماء الصحابة، فأبعده، وقوله: هذا الذي عهد إلينا، عهد إلينا، يعني: أن نتقدم، وأن يتراجع هؤلاء الصبيان؛ ولهذا لا يحسن أن الإنسان يأتي بالصبي وإن كان لا بدّ يصلي بجانبه يصلي طرف الصف، ما يجي وراء الإمام، حتى لا يوقع نفسه بحرج، ويوقع الولد أيضًا بحرج.
فهنا قال: ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم هذا الصف الآن، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، يعني: الذين يكونون خلف الإمام، طيب والذين بعدهم؟ ينبغي أن يكونوا كذلك، الأمثل فالأمثل، هكذا ينبغي، وفهم من قوله: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم بعض أهل العلم، يعني: في الصفوف الأخرى، يعني: الصف الأول للرجال، والصف الثاني للصبيان، والصف الثالث للنساء؛ لا لأن عقلها أقل من عقل الصغير، ليس هذا المراد، وإنما لأن المرأة عورة، فتبعد عن مخالطة الرجال، فيكون بينهم وبينها الصبيان، ولو كانت امرأة واحدة تقف وحدها في الصف، هذا هو المشروع، والله تعالى أعلم، ولعل هذا يكفي.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (438)
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها برقم (66) ومسلم في السلام، باب من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها برقم (2176).
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته برقم (2628) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (432).
- حياة الصحابة (4/ 168).