الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب ركعتين بعد الوضوء، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يديّ في الجنة قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي"[1] متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
قوله ﷺ لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام أرجى عمل، يعني: أكثر الأعمال التي عملتها ترجو ثواب الله الجزيل فيها، ما هو العمل الذي عملته، وفي نظرك أن الله يجزيك عليه الجزاء العظيم، ما أرجى عمل؟ ما هي أحسن الأعمال التي عملتها -يعني: بعد الإسلام-؟ فقال ﷺ له مبينًا لعلة السؤال؛ فإني الفاء هنا تدل على التعليل فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، ومعنى دف نعليك، الدف هو صوت النعل على الأرض حينما تكون في مكان، وتسمع إنسانًا يمشي؛ تسمع صوت نعليه، فهذا دف النعلين، سمع دف نعليك صوت نعليك في الجنة، وهذا أمر من أمور الغيب، وأمر الغيب لا مجال للعقل فيه، وبلال حينها -كما هو معلوم- حي يرزق لم يمت، وسأله النبي ﷺ عن ذلك، فالله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير.
وهذا يدل على أن الجنة موجودة، مخلوقة، والأدلة على أنها مخلوقة كثيرة جدًّا، ومن ذلك الحديث: "إذا دخل رمضان؛ فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار"، وكذلك أيضًا ما رأى النبي ﷺ من قصر عمر في الجنة[2] ورأى قصره ﷺ في الجنة، والحديث الآخر: "لما خلق الله الجنة، فأرسل جبريل، فنظر إليها، وقال، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فأرسله، وقال: وعزك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد"[3] إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة، فهي موجودة، وهي في السماء كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ.
وكون النبي ﷺ سمع دف نعليه بين يديه في الجنة لا يقال هذا تقدم على النبي ﷺ فإن ذلك من قبيل تقدم الخادم على المخدوم بين يديه، فلا يقال إنه تقدم، بل هو تقديم للمخدوم -عليه الصلاة والسلام- وهذا الذي حصل لبلال ما حصل إلا لأنه من أهل الجنة، فيفهم من هذا منقبة لبلال فقد تأتي البشارة لأحد من الصحابة صراحة، كما قال النبي ﷺ: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة... [4]إلى آخره.
وقد يكون ذلك بطريق آخر، كذكر بعض النعيم الذي يكون له، كما ذكر النبي ﷺ قال: لمناديل سعد يعني: ابن معاذ في الجنة خير من هذا [5] وكذلك أيضًا هنا سمعت دف نعليك في الجنة فنفهم من هذا أن بلال من أهل الجنة، وهو كذلك، فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ صحبوه، وآمنوا به، فلهم من الجزاء، والدرجات ما لا يصل إليه غيرهم ممن جاء بعدهم، أعني بذلك: شرف الصحبة للرسول ﷺ فقال: "ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" وهذا يدل على أن بلال كان قد احتسب هذا العمل، فمباشرة أجاب بهذا الجواب، وهذا العمل في بادي الرأي من الأعمال اليسيرة لم ينفق المليارات، ولم يحصل له القتل في سبيل الله مثلاً، إنما هو شيء يسير يستطيعه كل واحد منا، يستطيعه آحاد الناس إذا أحدث توضأ وصلى ركعتين، وهذا يدل على أن رحمة الله وجنته قريبة؛ كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فالجنة أقرب إلى أحدنا من عنق راحته، أو من شراك نعله، والنار مثل ذلك.
فهنا يقول: "لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي" طبعًا الطهور إما أن يكون لحدث، فيتطهر بعد أن يحدث، وإما أن يكون هذا الطهور لصلاة قد حضرت؛ إما فريضة وإما نافلة، فالذي يتطهر مثلاً لصلاة الضحى، أو يتطهر لصلاة الظهر، أو نحو ذلك، لكن هذا الحديث يدل على أن بلال كان يلازم الوضوء "ما تطهرتُ طهورًا إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" فإذا أحدث صلى، ويصدق ذلك على ركعتين فأكثر، هذا العمل الآن الذي عمله بلال الظاهر أنه ما تلقاه من النبي ﷺ فهل ذلك يدل على جواز الإحداث في الدين، والتعبد لله -تبارك وتعالى- بما لم يؤخذ من الشارع؟
الجواب: لا، فهذا فعله بلال في زمن التشريع، فأقره النبي ﷺ فصار سنة، لكن بعد النبي ﷺ ليس عندنا ما يقرر أفعال الناس مما أحدثوه، ومن ثم فإن ذلك المحدث يصدق عليه عموم قوله ﷺ: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة[6] وفي الحديث الآخر، حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا إلى النبي ﷺ: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[7] هذه قاعدة، فليس لأحد أن يأتي بعبادة يتقرب بها إلى الله لم يشرعها الله -تبارك وتعالى- وقد عرفنا أن من شروط قبول العمل الموافقة للشرع، اتباع النبي ﷺ.
بقيت مسألة، وهي أن قوله: "لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور" ما تطهرت من طهور في ساعة من ليل أو نهار فهذا يشمل أيضًا أوقات النهي بهذا العموم، فأوقات النهي معروفة: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وإذا طلعت حتى ترتفع قدر رمح، ثم كذلك أيضًا في وقت انتصاب قائم الظهيرة كون الشمس في كبد السماء، وكذلك أيضًا بعد العصر بعد الاصفرار على الأرجح إلى غروب الشمس، هذه أوقات نهي، فبلال في قوله هذا يدل على أنه كان يصلي هذه الصلاة صلاة الوضوء، حتى في أوقات النهي، فأخذ منه بعض أهل العلم أن صلاة الوضوء هذه من جملة ذوات الأسباب، فبعض الناس يسأل، يقول: هل لي، إذا توضأت مثلاً في وقت النهي أن أصلي ركعتين؟
الجواب: نعم، حديث آخر ساعة في يوم الجمعة، وفيه: لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي، يسأل الله شيئًا إلا أعطاه [8] قائم يصلي العلماء استشكلوا قوله: قائم يصلي مع أنه وقت نهي، على أساس أنها في آخر ساعة من الجمعة، فبعضهم قال: متحقق، ومتلبس ببعض ما يطلب لها من الطهارة، واستقبال القبلة، وإن لم يكن يصلي حقيقة، قائم يصلي، والصلاة تقال للدعاء، يعني: يدعو، ومن أهل العلم من قال: يصلي تحية المسجد، كأن يأتي بعد العصر، أو في آخر ساعة من العصر، فيصلي، نقول: نعم، لكن بشرط أن لا يتقصد هذا، يعني: لا يكون مجيئه إلى المسجد من أجل أن يصلي في وقت النهي، وكذلك أيضًا كون الإنسان يتوضأ، يقول: أنا أريد أن أصلي ركعتين، إن كان ذلك من عادته؛ فلا بأس أما أن يفعل ذلك فقط في آخر ساعة من الجمعة من أجل أن يحقق قائم يصلي، وهو يتوضأ دائمًا، ولا يصلي ركعتين مثلاً، ولا يصليها إلا في وقت النهي من أجل أن يدعو في تلك الصلاة، فيقال: هذا لا، هذا تقصد وتعمد من أجل الصلاة في وقت النهي، فليس له ذلك، لكن إن كان ذلك من عادته، فأراد أن يتهيأ للدعاء مثلاً، فتوضأ بعد العصر، أو بعد اصفرار الشمس، أو نحو ذلك، وقال: سأصلي ركعتين، وأدعو فيهما، هذه صلاة الوضوء التي هي من ذوات الأسباب، وهو معتاد على هذا، فهذا لا إشكال فيه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار، برقم (1149)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل بلال -رضي الله عنه-، برقم (2458).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3242).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار، برقم (4744)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5696).
- أخرجه أبو داود في سننه، أبواب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري -رضي الله عنه-، برقم (3747)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (6118).
- أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، برقم (2615)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، برقم (2468).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (165).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: "لا يجوز ذلك البيع"، برقم (2141)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (935)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (852).