إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عمَّا يقوله المسلمُ عند دخوله المسجد، فكما ذكرنا -أيّها الإخوان- بأنَّ المسلمَ مُتعبَّدٌ لربِّه وخالقه ، فله في حالاته المتنوعة أورادٌ، وأذكارٌ، وعباداتٌ يتعبَّد بها.
فهنا إذا أراد أن يدخل المسجدَ يبدأ برِجله اليمنى أولاً باعتبار ما جاء من الأثر في ذلك؛ وهو حديث أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-: "من السُّنة إذا دخلتَ المسجد أن تبدأ برِجلك اليُمنى، وإذا خرجتَ أن تبدأ برِجلك اليُسرى"[1].
وقول الصَّحابي: "من السُّنة" له حكم الرَّفع، فذلك مما تلقوه عن رسول الله ﷺ، فكأنَّه يقول: قال رسولُ الله ﷺ.
وتقديم الرِّجْل اليُمنى عند الدُّخول تكريمًا لها، وذلك أنها تُقدَّم فيما يحسُن ويجْمُل، فيما هو من قبيل الكمالات، فإذا أراد أن يدخل المسجدَ قدَّم رِجله اليمنى.
ويمين النبي -ﷺ، أعني: يده اليمين- كانت للأمور التي هي من قبيل الكمالات، كما في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-؛ ولهذا اختلف الفقهاءُ في السِّواك: هل يكون باليمين، أو يكون بالشِّمال؟ باعتبار هل أنَّ ذلك من قبيل التَّعبد والاتِّباع فيكون باليمين، أو من قبيل التَّنزه والتَّنظف فيكون بالشِّمال؟
وليس هذا الموضعُ للحديث عن هذه القضية، وإن كانت لها فروعٌ وذيولٌ، فمن ذلك: مَن الذي يدخل أولاً إلى المسجد؟ هل مَن كان على اليمين يُقدَّم فيُقال له: ادخل أولاً؟
قد لا يكون الأمرُ كذلك؛ لأنَّه من قبيل الإيثار في القُرَب، ولا إيثارَ في القُرَب، وأمَّا في الخروج فهذا أوضح؛ حيث إنَّك إن أردتَ أن تُكرمه بحيث يكون هو الخارج قبلك، فما هذا بإكرامٍ له، هو في صورته صورة إكرامٍ، لكن في حقيقته أنَّك أخرجتَه قبلك من المسجد، وكلّما كان بقاءُ الإنسان في المسجد أكثر كان ذلك أفضل وأكمل، ولكن مثل هذه التَّصرفات يُقصَد بها الإكرامُ عادةً، ولكن لا سيّما في الجمعة، فإنَّ الملائكة يكتبون الأول فالأول، فلا مجالَ هنا للإيثار للدّخول؛ لكون هذا على اليمين مثلاً.
وأيضًا بعد أن يُقدِّم رجلَه اليمنى يقول إذا دخل المسجد كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما-: كان رسولُ الله ﷺ يقول إذا دخل المسجد. يعني: أراد الدُّخول، عندما يبلغ بابَ المسجد، فيقول: أعوذ بالله العظيم[2]، "أعوذ" بمعنى: ألتجئ وأعتصم بالله العظيم، العظيم ذاتًا، وشأنًا، وصفةً، له العظمة الكاملة.
وهنا في مقام الاستعاذة يُناسِب ذكر العظمة من صفاته -تبارك وتعالى-، والعظمة من الأوصاف الجامعة، وتكلمنا عن ذلك في الكلام على الأسماء الحسنى، وأنَّ من الصِّفات ما هو من قبيل الصِّفات الجامعة؛ يعني: الذي لا يتحقق إلا إذا وُجِدَتْ مجموعةٌ من الصِّفات، لا تكون العظمةُ إلا بالملك، والسُّلطان، والغنى الـمُطلق، والقوّة، والقُدرة، وما أشبه ذلك.
فهنا يقول: أعوذ يعني: أعتصم وألتجئ بالله العظيم، وبوجهه الكريم هنا الوجه صفةٌ من صفات الله -تبارك وتعالى-، ولا يُفسَّر بالذات، ومما يدل على بطلان تفسيره بالذَّات: أنَّه ذكر قبله الاستعاذة بالله، قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، فلو كان المقصودُ بالوجه الذَّات باعتبار أنَّه عُبِّر بالبعض عن الكلِّ -كما يقوله بعضُهم، أعني: أصحابَ الكلام- لكان ذلك تكرارًا لا معنَى له، فدلَّ قوله قبله: أعوذ بالله العظيم دلَّ على أنَّ قوله: وبوجهه الكريم أنَّ الوجهَ هو الصِّفة على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا أبلغ في الاستعاذة، حينما تقول: "أعوذ بوجهك" فهذا أبلغ، وأقوى، وأوضح.
فهنا وجهه الكريم -تبارك وتعالى- الجواد، الـمُعطي، الـمُحسِن، المتفضّل، الذي لا ينفذ عطاؤه، وله الكرم الـمُطلق، وهو الجامع لأنواع الخير، والشَّرف، والفضائل، الكرم الذي يكون مُتعديًا، بمعنى: ما يكون له من الفيوض على عباده بألوان النِّعَم، والكريم يُقال أيضًا للشَّيء الشَّريف، يُقال: هذا نسبٌ كريمٌ، ومقامٌ كريمٌ، وحجرٌ كريمٌ، وجوهرٌ كريمٌ، ونحو ذلك، فهذا كلّه داخلٌ فيه.
فنحن نُثبت لله -تبارك وتعالى- ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ من الأسماء والأوصاف الكاملة على ما يليق بجلاله وعظمته.
يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم السُّلطان القديم سلطانه -تبارك وتعالى-، يعني: تدبيره، وقُدرته، وقهره لخلقه، فهو المتصرِّف فيهم التَّصرف المطلق، القادر على هؤلاء الخلق، فنواصيهم بيده، وهو المدبر لأحوالهم وشؤونهم، فهذا كلّه داخلٌ فيه: "سلطانه القديم"، ومعنى القديم هنا، أي: الأزلي، فالقديم يُطلَق بمعنى الأزلي، أي: الأول الذي لا ابتداء له.
والله -تبارك وتعالى- في أوصافه وأسمائه: اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء[3]، فهذا ثابتٌ: "أنت الأول، فليس قبلك شيء"، ولكن هل القديم يُقال في أسماء الله ؟
الجواب: لا، لم يثبت ذلك: لا في الكتاب، ولا في السُّنة، ولكن باب الخبر أوسع من باب الأسماء، ولكن هل ثبت ذلك في الصِّفات؟
هذا الحديث أخذ منه بعضُ أهل العلم: أنَّ القديمَ ثابتٌ من صفات الله ، وبعض أهل العلم ضعَّف الحديث، ولم يجعل ذلك من صفاته، وبعضُهم قال: إنَّ القدمَ هنا أثبت للسُّلطان، ولم يُضف إلى الله مُباشرةً.
والواقع أنَّه أُضيف إلى الصِّفة، والصِّفة لها حكم الموصوف، ولا شكَّ أنَّ الأول أبلغ من القديم؛ لأنَّ القِدَم نسبي، فتارةً يُطلَق بمعنى: القِدَم الذي لا ابتداء له، بمعنى: الأزلي، يعني: الأول الذي ليس قبله شيء، فهذا لا يحتمل. وتارةً يُطلَق القِدَم ويُقصَد به ما كان قد تقادم عهده، وإن وُجِدَ شيءٌ قبله، تقول: هذا ثوبٌ قديمٌ، وهذا كلامٌ قديمٌ، وهذا بناءٌ قديمٌ. ويوجد قبله أشياء سابقة له.
فعلى كل حالٍ: وسلطانه القديم، بمعنى: الأزلي هنا.
من الشَّيطان الرَّجيم "الشَّيطان" بعض أهل العلم يقول: مأخوذٌ من شطن. وهذا الذي عليه الأكثر، وهو مذهب البصريين؛ يعني: أنَّه من شطن، أي: بَعُدَ، فهو بعيدٌ عن الخير، بعيدٌ عن رحمة الله ، فهذا معنًى مشهورٌ، صحيحٌ، لا إشكالَ فيه[4].
وبعضهم -وهو مذهب الكوفيين- يقولون: إنَّه مأخوذٌ من شاط؛ يعني: هلك[5].
فالشَّيطان على الأول شيطان يعني: البعيد عن رحمة الله ، البعيد عن الخير. وعلى أنَّه من "شاط" يكون الشَّيطان يعني: الهالك. وكل ذلك مُتحقِّقٌ فيه، فهو هالكٌ، وبعيدٌ عن الخير، وبعيدٌ عن رحمة الله ، إذ إنَّ الله لعنه وطرده.
والرَّجيم؟
رجيم: فعيل، بمعنى "مفعول" على المشهور، يعني: أنَّه مرجومٌ، أنه مُبْعَدٌ، مطرودٌ من رحمة الله -تبارك وتعالى-، أو المشتوم بلعنة الله ، يعني: مرجومٌ باللعنة.
وبعضُهم يقول -وهذا أيضًا يدخل فيما سبق- أنَّه مرجومٌ بالسَّب، والشَّتم، واللَّعن، وما إلى ذلك من قبل الخلق أيضًا، فهو رجيمٌ، إذا ذُكِرَ أُتْبِعَ باللَّعن، والذَّم، والشَّتم، ومما ذُكِرَ أنَّه يُرجَم أيضًا بالشُّهُب.
فكل ذلك يرجع إلى أنَّ "رجيم" بمعنى مرجوم.
المعنى الثاني: أنَّ "رجيم" بمعنى: راجم، ففعيل يأتي بمعنى مفعول، وبمعنى فاعل: راجم، يعني: أنَّه يرجم الناسَ بالشُّبهات، والأفكار الرَّديئة، والخواطر السَّيئة، ونحو ذلك، راجم. لكن هذا المعنى خلاف المشهور عند أهل العلم.
الآن: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسُلطانه القديم من الشَّيطان الرَّجيم، وهذا حينما تقول: الشَّيطان الرَّجيم، وتستعيذ بالله منه تقول: "أعوذ بالله العظيم من الشَّيطان الرَّجيم"، فأنت يُحتمل أنَّك مُخبِر، تُخبِر عن استعاذتك، أو أنَّك طالبٌ للإعاذة، طالبٌ من الله أن يحفظك، وأن يُنجِيك، وأن يُخلّصك، وأن يُسلمك من وساوسه وخواطره.
ولو قيل بأنَّه خبرٌ في صيغته: "أعوذ بالله.." إلى آخره، بمعنى: الطَّلب، والسُّؤال، والدُّعاء؛ لأنَّه مُخبرٌ بالصيغة، ولكن في مضمونها السّؤال، والدّعاء؛ لأنَّه إنما يقول ذلك طلبًا من الله أن يُعِيذه، وأن يُخلّصه، وأن يُنجِيه، فكأنَّك تقول: اللهم احفظني، واعصمني من وسوسته، وإغوائه، وخطواته، وخواطره السَّيئة، وتسويله، وإضلاله. كل هذا لأنَّ الشيطانَ هو الذي يُلقِي في قلوب الناس الوساوس والخواطر، ويُغريهم بالشَّر والفاحشة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، فهو الذي يُزيّن للناس هذه الأمور.
إذا قال هذا يقول النبيُّ ﷺ يُخبِر عن حال الشَّيطان ماذا يقول بعد ذلك، يقول: إذا قال المؤمنُ ذلك قال الشَّيطانُ: حُفِظَ مني سائر اليوم[6]، "سائر" تأتي بمعنى: "باقي"، تقول: ذهب عليَّ سائر اليوم، يعني: أكثر، أو باقي ساعات اليوم، أو مثلاً: خذ سائر هذا الطَّعام، يعني: الباقي، إذ إنَّ أصلَ المادة تدلّ على البقية، ومن ثَمَّ فإنَّ ذلك يُقال لمعنى: باقي، "حُفِظَ مني سائر اليوم" يعني: منذ قاله، "سائر اليوم" يعني: باقي اليوم.
واليوم شرعًا يُقال لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس، هذا اليوم شرعًا؛ يعني: إذا أراد أن يدخل المسجد لصلاة الفجر وقال هذا الكلام، يكون قد حُفِظ إلى غروب الشَّمس، فإذا قاله في الظّهر والعصر فذلك آكد، فإذا قاله في المغرب، الليل لا يُقال له: "يوم" إلا باعتبار أنَّ ذلك يكون بالمعنى الأعمّ في الإطلاق، يعني: العرب تُطلِق "اليوم" وتقصد: وليلة اليوم، وتُطلِق "الليلة" وتقصد معها: اليوم، وتارةً العرب تُطلِق "الليلة" وتقصد: الليلة فقط، وقد مضى الكلام على هذا في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، والكلام على الاعتكاف: أقلّ مدّة الاعتكاف، وقول عمر : "نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام"[7]، ما المقصود به؟
فعلى كل حالٍ، هنا يقول: حُفِظَ منِّي سائر اليوم[8]، طيب، إذا قاله في المغرب، قاله العشاء، الليلة كذلك، لا فرقَ، فإنَّ الحكمَ في ذلك واحدٌ، وقد يكون التَّعبيرُ باليوم باعتبار أنَّه الأشهر، والأغلب، والأكثر في الاستعمال، وإلا فالليلة داخلةٌ في ذلك.
وعليه، لو أنَّ أحدًا ما قاله صلاة الفجر، أو ما ذهب إلى المسجد لصلاة الفجر، فاتته مثلاً، وقاله صلاة الظهر، فيكون "سائر" بمعنى: باقي، لو قاله العصر؛ فيكون إلى المغرب، سائر اليوم، إذا قلنا بأنَّ اليوم هنا يُراد به ما بين طلوع الفجر إلى المغرب، وإذا أردنا به ما هو أوسع من ذلك؛ فإنَّ الليلةَ تكون سابقةً لليوم، يعني: لا يسري ذلك في الليلة الآتية؛ لأنَّ غروبَ الشمس يكون انتهى، يعني: اليوم الآن لا يصحّ أن نقول: الآن يوم الأحد بعد صلاة العشاء؛ لأنَّ يوم الأحد انتهى بغروب الشَّمس، نحن الآن في ليلة الاثنين، فهذه الليلة لها أحكام اليوم الذي بعدها، فمن الخطأ أن يُقال: الأحد بعد العشاء، ويقصد به الآن، لا، نحن الآن ليلة الاثنين، فينتهي إذًا هذا -والله أعلم- بغروب الشَّمس.
إذا قاله بعد الغروب، جاء لصلاة المغرب؛ حُفِظَ إلى اليوم الذي بعده، فإذا قلنا: "اليوم" يُطلَق بمعناه الأعمّ؛ فيُحفظ اليوم والليلة؛ يعني: إلى غروب الشمس من الغد، يومٌ بليلته، وإذا كان المسلمُ يتردد على المسجد خمس مرات، ويقول مثل هذا الكلام؛ فهو محفوظٌ: "حُفِظَ مني"، حُفِظَ من ماذا؟
حُفِظ من إزاغته، وإضلاله، وإغوائه، لكن على قدر الاستحضار يكون الأثرُ.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
- أخرجه الحاكم في "مستدركه": كتاب الطَّهارة، ومن كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، برقم (791)، وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة المختصرة"، برقم (2478).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (466)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (749).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2713).
- انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/867).
- انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (11/214).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (466)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (749).
- أخرجه البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلًا، برقم (2032)، ومسلم: كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، برقم (1656).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب فيما يقوله الرجلُ عند دخوله المسجد، برقم (466)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (749).