الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل قيام الليل" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن مسعود قال: "صليت مع النبي ﷺ ليلة فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه"[1]. متفق عليه.
قوله: "صليت مع النبي ﷺ ليلة" أي: في صلاة الليل، وهذا يدل على أنه يجوز أن تصلى النافلة سواء كان ذلك قيام الليل، أو غير قيام الليل يجوز أن تصلى جماعة في غير رمضان، فهذا الحديث يدل على هذا القدر، فهذه صلاة غير فريضة صلاها مع النبي ﷺ جماعة، لكن لا يكون ذلك على سبيل القصد للاجتماع والاعتياد والمداومة، بمعنى أنهم لا يقصدون ذلك يجتمعون من أجل أن يصلوا جماعة، لكن لو أنه وقع اتفاقًا، سافر مع إنسان فوجده يصلي، أو أراد أن يصلي فقال: نصلي سويًا مثلاً، أو أنه دخل المسجد فوجد من يصلي فصلى معه، فهذا لا إشكال فيه، ولكن لا يتواطؤون على ذلك ويجتمعون من أجل إقامة جماعة لصلاة الليل في غير قيام رمضان مثلاً، وذلك لأن هذا الاجتماع المقصود لاسيما إن صار على سبيل الاعتياد يكون من قبيل ذرائع البدع فإن الأصل في هذه الصلاة الانفراد فإذا جاءت بهذه الصفة صارت جماعة فإن ذلك قد يصيرها إلى نوع من البدعة، وذلك من جهة الاجتماع لها، وهذا بعض أوصافها، وقد ذكر هذا المعنى الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات"[2]، وذكر ذلك أيضًا في كتابه "الاعتصام"[3].
قال: "صليت مع النبي ﷺ ليلة فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه"، يعني بمعنى أنه أطال جدًا في القيام بحيث إن ابن مسعود مع أنه من علماء الصحابة، وهو من علماء القرآن في التفسير، ومن أهل الاجتهاد في العبادة، ومع ذلك شق ذلك عليه مشقة كبيرة حتى هم أن يجلس ويدع رسول الله ﷺ يصلي وحده، فهذا هو الأمر السيئ الذي هم به، والمقصود بالهمّ يعني قصد القلب وإرادة القلب التي لم تتحول بحيث تصير إلى عزيمة مصممة، فأول هذه الإرادة يكون خاطرة ثم يقوى حتى يصير همًا، ثم بعد ذلك يصير عزمًا.
وقوله: "هممت أن أجلس أن أدعه"، حمله بعض أهل العلم على أن مراده نيته الانفصال لا أنه يقطع الصلاة، وهذا يحتمل، أنه أراد أن يتخفف فيصلي صلاة خفيفة يطيقها ثم يسلم.
ثم ذكر حديث حذيفة قال: "صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام قيامًا قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه"[4]، رواه مسلم
هذا الحديث يشرح ما أجمل في حديث ابن مسعود ، حديث ابن مسعود: "فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء"، يعني أطال إطالة ما هذه الإطالة؟ حديث حذيفة يبين ذلك قال: "صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة"، وهذا أيضًا يقال فيه كما سبق من صلاة الجماعة في غير رمضان، "فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها"، يركع بها يعني في الأول هو ظن، قال: "فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها"، يركع بها يعني أنه يصلي الركعتين بسورة البقرة، يعني في البداية قال: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، الآن قرأ البقرة ثم قرأ النساء، ثم قرأ آل عمران"، يعني لم يقرأ على الترتيب المعروف في المصحف، وهذا يستدل به على أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن ترتيب السور في المصحف غير توقيفي، يعني أن ذلك لم يتلق من رسول الله ﷺ هكذا فهم جماعة من أهل العلم، والمسألة فيها خلاف معروف.
الأمر الثاني: أنه يجوز أن يقرأ في الركعة الواحدة السور المتتابعة من غير مراعاة لترتيب المصحف، قد يقرأ في الركعة كما قرأ النبي ﷺ، وهو من باب أولى يدل على أنه يجوز أن يقرأ في الركعتين في كل ركعة سورة يقرأ سورة من غير مراعاة للترتيب كأن يقرأ في الركعة الأولى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، وفي الركعة الثانية: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، لا يراعي ترتيب المصحف.
وما جاء عن ابن مسعود لما سئل عمن يقرأ القرآن منكوسًا؟، قال: "ذلك منكوس القلب"[5]، ما المراد به؟
المراد به أن يقلب السورة، تفننًا وتمهرًا في الحفظ فيقرأ السورة ابتداء من الآية الأخيرة حتى يصل إلى الآية الأولى، فهذا يفسد نظم القرآن، ومعانيه، ولا يجوز، فهو عبث محرم، وجرأة على الله -تبارك وتعالى-، أما أن يقدم سورة ويؤخر سورة فهذا لا إشكال فيه، وهكذا -والله أعلم- لو أنه قرأ في الركعة الأولى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243] مثلاً، قرأ هذه وقرأ في الركعة الثانية: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، مثلاً، أو قصة البقرة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فهنا لا يوجد ارتباط بين القضيتين، ولا أثر له في المعنى بين القضيتين ولا أثر له في المعنى فهذا يجوز، والله تعالى أعلم.
قال: ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً؛ مترسلاً: يعني يقرأ على مهل، يقرأ من غير إسراع يلاحظ مخارج الحروف، ويلاحظ في ذلك أيضًا الأداء، فيرتل القراءة ترتيلاً، وهذا يحتاج إلى وقت طويل يعني حينما يقرأ هذه السور في ركعة واحدة هذا يحتاج إلى قراءة مرتلة ولا يقرأ حدرًا فكم يحتاج لقراءة هذه السور الثلاث في ركعة؟
قراءة مرتلة ليست سريعة كم يحتاج؟ لربما هذه القراءة مع الدعاء المذكور لربما يحتاج لربما ما لا يقل عن ساعتين في ركعة واحدة، يقول: "إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"، فيها تسبيح كأن يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، فيقول: سبحان ربي الأعلى، إذا مر بسؤال واسألوا الله من فضله، قال: اللهم أسألك من فضلك مثلاً، "إذا مر بتعوذ فاستعذ بالله، فيستعيذ، وهكذا إذا مر بمقام يقتضي شيئًا من هذه الأمور، مر بذكر الجنّة، يسأل ربه من فضله، مر بذكر النار وعذابها يستعيذ، مر بذكر أوصاف الكمالات لله -تبارك وتعالى- فيسبح وينزه.
"ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوًا من قيامه"، نحو من قيامه هذا يحتمل أنه ركع ركوعًا بقدر ما قرأ في القيام البقرة والنساء وآل عمران بترسل ودعاء وسؤال يحتمل هذا، فيكون الركوع بهذا الطول، ويحتمل أن يكون هذا الركوع ليس بقدر القيام في المدة ولكنه بحيث إنه يتناسب معه وهذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم-، ركع ركوعًا طويلاً يتناسب مع هذا القيام الطويل.
"ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه"، وهذا يدل على أن للمصلي في الركوع والسجود الطويل أن يكتفي بالتسبيح يردد سبحان ربي العظيم، ويقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، فلما كان حاله في السجود أكمل في الخضوع وأعلق بالأرض ناسب أن يقول: سبحان ربي الأعلى.
وأما الركوع فهو مظهر من مظاهر التعظيم ناسبه أن يقول: سبحان ربي العظيم، فإنه قد جرت عادة الذين يعظمون الملوك ونحو ذلك من غير المسلمين أنهم ينحنون عند مقابلتهم، ينحنون لهم وهذا ركوع وفي قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، يعني راكعين فهذا يقول: "سبحان ربي العظيم"، فهذه صلاته ﷺ في الليل، فهذا لا شك أنه هو الأكمل، لكن ذلك يكون لمن يصلي لنفسه أو صلى بمن يوافقه على ذلك، أما إنسان يصلي بالناس في المسجد ويأتي أخلاط الناس ثم يصلي بهم هذه الصلاة فإن ذلك لا شك يشق عليهم وينفرهم من هذه الصلاة فيراعى حال الناس، أما إذا صلى لنفسه فإنه يصلي ما شاء.
وهذا يدل أيضًا على أن القيام الطويل أفضل في صلاة الليل، ويدل على ذلك حديث جابر قال: سئل رسول الله ﷺ أي: الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت[6]، رواه مسلم.
والمقصود بالقنوت القيام.فهذا دليل واضح في هذه المسألة خلافًا لمن قال: بأن الأفضل كثرة الركوع والسجود فذلك عمل في الصلاة كثير، والنبي ﷺ قال لمن سأله أن يرافقه في الجنة، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود[7]، فقالوا: كثرة السجود أفضل، والواقع أن المزية لا تقتضي الأفضلية فهذه قاعدة فكثرة السجود هذه مزية ولكن لا يعني ذلك أنه أفضل مطلقًا ممن صلى بصلاة طويلة في القيام؛ لأن النبي ﷺ صرح بذلك، أفضل لما سئل عن أفضل الصلاة؟ قال: طول القنوت، فإطالة القيام أفضل، -والله تعالى أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل، برقم (1135)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (773).
- الموافقات (3/265).
- الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/321).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772).
- أخرجه الطبراني في الكبير، برقم (8846)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (2109).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم (756).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، برقم (489).