الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب قيام الليل (1-3)
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء عن السلف في "باب قيام الليل" ما جاء عن أبي عثمان النهدي -رحمه الله- قال: "تضيفني أبو هريرة سبعًا فكان هو وامرأته يعتقبون الليل أثلاثًا" هي في الأصل: "تضيفت أبا هريرة سبعًا"، يعني نزلت ضيفًا عنده، "فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ويوقظ هذا، قلت: يا أبا هريرة كيف تصوم؟ قال: "أصوم من كل شهر ثلاثة أيام"[1].

فهنا أن أبا هريرة أوصاه النبي ﷺ بجملة ما أوصاه به أن يوتر قبل أن ينام[2]؛ لأنه مشتغل بالحديث ودراسته، وأوصاه أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فالحسنة بعشر أمثالها، وكل أحد بحسب حاله فقد يفتح على الإنسان في باب، ولا يفتح له في الباب الآخر، لكنه لا ينقطع من الخير فيه، ولكن المشكلة في الذي يظهر من حاله أنه لم يفتح له في شيء، نسأل الله العافية.

فهنا أبو هريرة لم يبق على هذا بل ازداد، يعني يوتر قبل أن ينام هنا في هذا كان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا ثم يوقظ هذا، إلى آخره، ربما كان يصلي قبل أن ينام، ثم يوتر، يقوم ثلث الليل الأول ثم يوتر أخذًا بوصية النبي ﷺ حيث أمره أن يوتر قبل أن ينام، لكن انظر كيف كانوا يحيون الليلة لا يترك منها ساعة إلا في صلاة هو وخادمه وامرأته، فنسأل الله أن يرحمنا وأن يلطف بنا.

وكان أبو رفاعة العدوي يقول: "ما عزبت عني سورة البقرة منذ علمنيها رسول الله ﷺ، أخذت معها ما أخذت من القرآن"[3]، ثم يذكر أنه ما أصابه وجع في ظهره من قيام الليل، كان يطيل القيام ومع ذلك كان لا يشعر بذلك، ولا يظهر عليه أثره من تعب وألم في الظهر من طول القيام.

وكان أبو برزة الأسلمي يقوم إلى صلاة الليل فيتوضأ ويوقظ أهله وكان يقرأ بالستين إلى المائة"[4]، يعني في الركعة.

وكان لابن عمر مهراس فيه ماء يعني مثل: الحوض فيه ماء فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاء الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات، أو خمسة[5]، يعني كلما شعر بالنوم والنعاس استراح، ثم يقوم.

 وجاء عن نافع مولاه: "أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ - يعني دخلنا في السحر - فأقول: لا، فيعاود الصلاة إلى أن أقول: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح"[6]، يعني في السحر، وذلك أن النبي ﷺ قال له تلك الكلمة التي سبق التعليق عليها: نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، قال نافع: "فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً"[7]، يعني بعدما سمعها.

ويقول ابن أبي مليكة: "صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان إذا نزل قام شطر الليل"[8]، هذا في السفر على بعير، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟ قال: قرأ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، فجعل يرتل يكثر من ذلك النشيج"، يعني يبكي بصوت ينشج فيه، هذا في السفر على بعير.

وجاء عن أنس : "أنه كان يصلي حتى تتفطر قدماه دمًا مما يطيل القيام"[9].

ومما يبين أهمية قيام الليل، وأنه يعين الإنسان على أعباء الدعوة، وعلى أعباء القضاء والأعمال التي يزاولها إن كان قاضيًا أو غير ذلك، أن حفص بن غياث ولي القضاء من غير مشورة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة -رحمه الله- فاشتد عليه، يعني كأن أبا يوسف وجد في نفسه كيف يعين هذا قاضي وأبو يوسف -رحمه الله- كان بمثابة رئيس القضاة، أو نحو ذلك، لا يعين أحد إلا تحت مشورته ونظره، فاشتد عليه، فقال لبشر وللحسن اللؤلؤي: "تتبعا قضاياه، شوفوا هذا الرجل جيد، عليه ملاحظات في القضايا التي يقضي بها؟، فتتبعنا قضاياه فلما نظر فيها قال: هذا من قضاء ابن أبي ليلى"، وابن أبي ليلى من فقهاء التابعين، ثم قال: "تتبعوا الشروط والسجلات، ففعلنا فلما نظر فيها قال: حفص ونظراؤه يعانون بقيام الليل"[10].

يعني: أن الله يعينهم ويقويهم بسبب قيام الليل، يعني نحن نتوهم ربما أننا إذا صلينا من الليل أن الواحد يأتي في اليوم الثاني في غاية الإنهاك والتعب وتفرق النشاط والقوة، بينما الواقع خلاف ذلك، يكفي أن الله قال لنبيه ﷺ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً[المزمل:5]، لما أمره بقيام الليل بين العلة في ذلك أن هذا القيام هو السبب بإذن الله بالإعانة والقوة على تحمل الأعباء الثقال، الناس الذين يعانون من مصاعب في الحياة من هموم ومشاكل ومصاعب جمة، هؤلاء ممكن أن يستعينوا عليها بقيام الليل، يستعينوا عليها بالصلاة، يستعينوا عليها بالصبر، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:45]، فهذا المعنى نحن نغفل عنه كثيرًا.

وجاء عن ليث بن عاصم يقول: "رأيت أبا شجاع إذا أصبح عصب ساقه بمشاقة وبِزر كتان من طول التهجد"[11]، يعني يلف ساقه من طول القيام.

ويقول بقية: "قال لنا رجل في قرية أبي بكر بن أبي مريم وهي كثيرة الزيتون: ما في هذه القرية من شجرة إلا وقد قام أبو بكر، -يعني ابن أبي مريم- إليها ليلته جمعاء"[12].

ويقول الأوزاعي: "من أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة"[13].

وهذا الأوزاعي ما رئي باكيًا قط، ولا ضاحكًا حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يبتسم أحيانًا، وكان يحيي الليل صلاة وقرآنًا وبكاءً[14].

وذكر بعض أصحابه من أهل بيروت: "أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع صلاته فتجد موضع سجوده رطبًا من دموعه في الليل"[15].

ويقول أبو عبد الرحمن المقري: "ما رأيت أحدًا أصبر على طول القيام من عبد العزيز بن أبي رواد"[16].

فهؤلاء أئمة علماء كبار ما شغلهم بث العلم عن صلاة الليل.

ويقول الإمام عبد الرزاق الصنعاني وهو من أهل اليمن: "لما قدم سفيان الثوري علينا طبخت له قدر سكباج فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق أعلف الحمار وكده، ثم قام يصلي حتى الصبح"[17]، بمعنى أنه لما أكل وشبع قال: هذه لها تبعة، لها ضريبة لا بدّ لها من شكر، وقام يصلي حتى أصبح.

وكان الربيع بن صبيح من عباد أهل البصرة وزهادهم، ويشبه بيته بالليل بالنحل[18]، ليس أصوات قنوات ومعازف ولهو، لا، بأصوات أهل البيت، بقراءة القرآن يحيون الليل بالقيام فيسمع لذلك كصوت دوي النحل.

وكان الحسن بن صالح وأخوه وأمهما قد جزأوا الليل ثلاثة أجزاء فكل واحد يقوم ثلث، فماتت أمهما فاقتسما الليل، كرهوا أن يبقى جزء من الليل لا يصلى فيه في هذا البيت، ثم مات علي يعني ابن صالح، فقام الحسن بن صالح الليل كله[19]، كره أن يخلو البيت من صلاة في جزء من أجزاء الليل.

وهذه امرأة كانت جارية لداود الطائي يقال لها: أم سعيد، داود الطائي هذا من العباد ومنذ صغره كانت تظهر عليه أمارات ذلك، يعني يكفيك أنه عمره خمس سنوات يوم الجمعة واقف مستقبلاً الجدار ويحرك يديه، ويتكلم كأنه يكلم الناس، فلما رأته أمه صاحت، وقالت: وابنياه -ظنت أن عقله أصابه شيء، ولد صغيره عمره خمس سنوات ومقابل الجدار ويكلم نفسه-، قالت: ما هذا؟ فقال: مالكِ يا أماه، قالت: ما بك؟ ما تفعل؟ قال لها: مع عباد الرحمن، فقالت: وما يفعلون؟ قال: على سرر على الأرائك متكئون، ثم قال: يا أماه، ما عملهم، ما سعيهم في سورة الدهر: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22]، فهو يتأمل الآيات التي فيها: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ۝ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ۝ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:19-22]، قال: يا أماه، ما سعيهم؟ فما عرفت كيف تجيب! تريد جواب يفهمه، ثم قال: يا أماه قومي عني كي أبقى معهم، ثم ذهبت عنه وأخبرت والده، فقال له: يا بني كان سعيهم أن قالوا: لا إله إلا الله[20]، يعني أجابه أبوه بجواب يفهمه، هذا عمره خمس سنوات الظاهر أنه سمع الإمام يقرأ فجر يوم الجمعة فكان يعيش مع هذه الآيات.

وبعض الكتاب يقول لك: هؤلاء الصغار لا تحتمل عقولهم لماذا ندرسهم هذه السور؟ لماذا ندرسهم هذه السور؟! عقولهم تحتمل هذا.

فهكذا كانت تربية السلف لا أنهم يربون على اللهو والغفلة والشر والفساد، فهذه أم سعيد كانت جارة لداود قالت: "كان بينا وبين داود الطائي جدار قصير فكنت أسمع حنينه عامة الليل، لا يهدأ، وربما ترنم في السحر بالقرآن، فأرى أن جميع النعيم قد جمع في ترنمه، وكان لا يسرج عليه"[21]، يعني يقرأ في الظلام، -حافظ- فتقول: صوته بالقرآن يعني ليس بعده شيء.

وهذا أبو رجاء العطاردي -رحمه الله- كان يختم في قيام رمضان في كل عشرة أيام في التراويح[22].

وكان الناس يتعلمون من هدي همام بن الحارث وسمته يقول ابن الجوزي: "وكان طويل السهر"[23]، يعني في صلاة الليل.

وهذا سعيد بن جبير دخل الكعبة فقرأ القرآن في ركعة[24].

وتقول معاذة العدوية: "عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في ظلم القبور"[25]، هذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/383)، وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (2/609).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، برقم (1981)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (721).
  3. انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/15).
  4. انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/42-43).
  5. صفة الصفوة (1/220)، وسير أعلام النبلاء (3/215).
  6. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/303-304)، وصفة الصفوة (1/220)، وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/235)، والإصابة في تمييز الصحابة (4/160).
  7. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل، برقم (1122)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، برقم (2479).
  8. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/327)، وصفة الصفوة (1/298)، وسير أعلام النبلاء (3/342).
  9. سير أعلام النبلاء (3/400).
  10. سير أعلام النبلاء (6/313).
  11. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (11/119)، وسير أعلام النبلاء (6/411).
  12. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (33/110)، وسير أعلام النبلاء (7/65).
  13. صفة الصفوة (2/405)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (6/37)، وسير أعلام النبلاء (7/119).
  14. سير أعلام النبلاء (7/120).
  15. سير أعلام النبلاء (7/120).
  16. سير أعلام النبلاء (7/185)، وتاريخ الإسلام (4/135).
  17. سير أعلام النبلاء (7/277).
  18. انظر: سير أعلام النبلاء (7/288).
  19. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/328)، وصفة الصفوة (2/88).
  20. انظر: إكمال تهذيب الكمال (4/268).
  21. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/357)، وسير أعلام النبلاء (7/424).
  22. انظر: صفة الصفوة (2/130).
  23. سير أعلام النبلاء (4/284).
  24. انظر: حلية الأولياء (4/273)، وسير أعلام النبلاء (4/324)، وفضائل القرآن، لابن كثير (ص: 258).
  25. صفة الصفوة (2/240)، وسير أعلام النبلاء (4/509).

مواد ذات صلة