الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف - في قيام الليل ما جاء عن طلق بن حبيب -رحمه الله- أنه كان لا يركع إذا افتتح سورة البقرة حتى يبلغ العنكبوت، وكان يقول: "أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي"[1].
وكان سعيد بن عبد العزيز يحيي الليل، فإذا طلع الفجر جدد وضوءه، وخرج إلى المسجد[2].
وكما سبق بأنه لا يشرع إحياء الليل أجمع إلا في العشر الأواخر من رمضان، ولكن مثل هذه الأشياء إنما تذكر لبيان ما كانوا فيه من الاجتهاد في العبادة، وليس المراد أن نحيي الليل كله.
ولو أن الإنسان يكون له ورد من الليل في أوله، أو في وسطه، أو في آخره، هذا هو المراد، وكان المفضل بن فضالة قاضيًا، وكان مجاب الدعوة، وكان مع ضعف بدنه يطيل القيام[3].
وهكذا ضيغم بن مالك البصري كان ينام ثلث الليل، ويقوم ثلثيه[4].
وقال رجل لابن المبارك -رحمه الله-: قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلاً لم يزل البارحة يكرر: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] إلى الصبح، ما قدر أن يجاوزها[5]، يعني نفسه.
وذكر بعض أصحاب وكيع بن الجراح ممن كانوا يلازمونه أنه كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر[6].
ودخل علي بن المديني على امرأة عبد الرحمن بن مهدي يقول: "فرأيت سوادًا في القبلة، فقلت: ما هذا؟ -هؤلاء أئمة السنة أئمة الدنيا في زمانهم- فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة عبد الرحمن كان يصلي بالليل فإذا غلبه النوم وضع جبهته عليه[7].
ويقول عاصم بن علي: كنت أنا ويزيد بن هارون عند قيس بن الربيع، فأما يزيد فكان إذا صلى العتمة -يعني العشاء- لا يزال قائمًا حتى يصلي الغداة بذلك الوضوء، نيفًا وأربعين سنة[8].
وجاء عن إسماعيل الصائغ قال رجل ليزيد بن هارون: كم حزبك؟ قال: وأنام من الليل شيئًا؟ إذن لا أنام الله عيني![9].
وذكرت في بعض المناسبات أن مثل هذه الأشياء من الناس من لا يوفق في النظر إليها، فلا ينتفع، بمعنى أنه ينظر إليها نظرًا سلبيًا، والنظر السلبي إما أنه ينظر إلى شيء من المخالفة كالذي يقول مثلاً: هذا إحياء لجميع الليل، هذا خلاف السنة، ويذهب عليه يفوته موطن العبرة، وهذا خلاف الصواب.
ومن الناس من ينظر بنظر سلبي آخر فيقول: إذا كان الأمر كذلك هؤلاء يصلون هذه الصلاة الطويلة، وبهذه الطريقة أين نحن من هؤلاء؟!
إذن لا فائدة، فيصاب بشيء من الإحباط، فيترك مجاهدة النفس والعمل، يقول: لا يمكن أن ندرك هؤلاء، وهذا خطأ أيضًا، الإنسان حينما يرى مثل هذه النماذج يكون ذلك محفزًا له للجد والاجتهاد، ولا يغتر بعمله القليل؛ لأن من الناس من يظن أنه إذا صلى في المسجد جماعة أن ذلك قد حقق به عبادة العابدين من الأولين والآخرين، وأنه لم يأتِ أحد بمثل عمله، لا، هذه نماذج أخرى وجدت، واجتهدوا وجاهدوا أنفسهم ثم هؤلاء لهم شهوات، فهم بشر كحالنا، ولكن ما الذي جعلهم يتغلبون عليها؟
فهذا كله من النظر السلبي في مثل هذه الآثار.
وهناك من يقول: هذه مبالغات، ونحن لا ننكر أنه يوجد في بعض المرويّات وبعض المنقولات بعض المبالغات، ولذلك لا أذكر كل شيء، فهناك أشياء أتجاوزها لسبب أو لآخر ولكن ليس كل ما يذكر مبالغات، ولعلي ذكرت في مناسبة في أحد المجالس لما ذكر حال بعض السلف عثمان قرأ القرآن كاملاً في ركعة[10]، قال بعض من حضر: هذه مبالغة، هذا لا يمكن على ساعات الليل هذا لا يمكن تقسيمه فكان أحد العلماء جالسًا فغضب فمع الكلام قال: هذا ممكن ثم قال: أنا صليت القرآن في ركعة واحدة في ليلة فكيف تنكر هذا أن هذا مستحيل، وأن هذه مبالغة، وأن هذا كذب قال: أنا بنفسي صليت في ركعة واحدة فليست مبالغة، فالله المستعان.
المقصود أن الإنسان بحاجة إلى جد واجتهاد، وعمل، يعني ما خلقنا من أجل التسارع في طلب الدنيا مع أننا أمرنا بعمارتها، ولكن لا تتحول إلى هدف يشغلنا عما نحن بصدده من العمل للآخرة، فيكون الناس في حال من التشمير والجد، واشتغال القلب أيضًا بالدنيا، وطرق تحصيلها حتى في الصلاة، لربما كيف يحصل مع أنه ليس له إلا ما قدر له منها، فتجد تسارع وتهافت حتى صار ذلك يشغل الناس في ليلهم ونهارهم، فهم إما يفكرون بها، وإما يشتغلون في جمعها، وليست هذه دعوة إلى القعود عن طلب الكسب والرزق الحلال أبدًا ليس ذلك، وإنما ألا تكون هذه الدنيا شاغلة لنا ومنسية للمقصود الأعظم وهو الآخرة، الحياة الحقيقية في الدار الآخرة، والدار الآخرة تحتاج إلى عمل.
وهذه جارية لعلي بن بكار -رحمه الله- فكانت تضع له الفراش فيلمس بيده، ويقول: "والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، وكان يصلي الفجر بوضوء العتمة"[11].
وهذا الحسين الكرابيسي يقول: "بت مع الشافعي ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية"[12]، فإذا كثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعًا.
بعضهم كان يقتصر على آية واحدة يرددها حتى يصبح.
وبعضهم سورة قصيرة.
وبعضهم يقرأ نحوًا من ذلك يعني خمسين آية، أو نحو هذا.
وبعضهم يقرأ أجزاء كثيرة ثلث القرآن، أو أقل، أو أكثر، وهذا أبو سليمان الداراني كان يقول: "لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا"[13]، ولربما رأيتُ القلب يضحك ضحكًا، فهو لا يحب البقاء في الدنيا من أجل الاستمتاع بالجلوس مع أصحابه في استراحة كل ليلة، أو نحو ذلك، أو بمعافسة الزوجات، ونحو ذلك، لا، هو يحب الليل من أجل القيام، ولهذا كان بعضهم يقول: بأنه يفرح بالظلام إذا أقبل الليل لخلوته بربه -تبارك وتعالى- يعني في صلاة الليل يفرحون بذلك، فيقارن الإنسان حاله بهؤلاء، ومن ثم يعرف نقصه، وتقصيره.
وهذا أبو عبيدة القاسم بن سلام -رحمه الله-: كان يقسم الليل أثلاثًا، فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف الكتب ثلثه[14].
وجاء بعض أصحاب وكيع إليه فخرج بعد ساعة، وعليه ثياب مغسولة، فلما نظروا إليه أصابهم شيء من الهيبة والذهول لما رأوا عليه وجهه من النور، كأن وجهه يتلألأ، فقال رجل لرجل آخر بجانبه: أهذا ملك؟ هذا الإضاءة وهذا الإشراق في الوجه من أين؟ من العبادة من قيام الليل، ولهذا قال شريك بن عبد الله -رحمه الله-: "من طال قيامه بالليل حسن وجهه بالنهار"[15]، وهذا معنى قول الله -تبارك وتعالى-: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، إشراق الوجه، أثر العبادة على الوجه أثر الصلاح، أثر الاستقامة على وجه الإنسان يكون فيه من البهاء ما فيه بسبب العبادة.
ومر أحمد بن حرب بصبيان يلعبون، فقال أحدهم: "أمسكوا فإن هذا أحمد بن حرب الذي لا ينام الليل"، علمًا بأنه لم يكن كذلك، يعني ما كان يحيي الليل أجمع، لكن هكذا كانوا يظنون به، فقبض على لحيته وقال: "الصبيان يهابونك وأنت تنام؟، فأحيا الليل بعد ذلك حتى مات"[16].
وجاء أيضًا عن داود بن رشيد قال: "قمت ليلة أصلي فأخذني البرد لما أنا فيه من العري، فأخذني النوم فرأيت كأن قائلاً يقول: يا داود أنمناهم وأقمناك فتبكي علينا؟ قال الحربي: فأظن داود ما نام بعدها"[17]، يعني ما ترك تهجد الليل.
ويقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: "كان أبي يقرأ كل ليلة أو كل يوم سبعًا، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو"[18].
وجاء عن المروذي قال: "رأيت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقوم لورده قريبًا من نصف الليل حتى يقارب السحر، ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء[19]، يعني كانوا يعتقدون يعني يرون أن مثل هذا الوقت بين المغرب والعشاء وقت غفلة الناس، يغفلون فيه عن العبادة، فكانوا يصلون في مثل هذا الوقت.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وعلى ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/64)، والزهد لأحمد بن حنبل (ص: 143)، وسير أعلام النبلاء (4/602).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/35).
- سير أعلام النبلاء (8/172).
- سير أعلام النبلاء (8/421).
- سير أعلام النبلاء (8/397).
- انظر: صفة الصفوة (2/99)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (30/481)، وسير أعلام النبلاء (9/148).
- سير أعلام النبلاء (9/199).
- صفة الصفوة (2/11)، وسير أعلام النبلاء (9/361).
- صفة الصفوة (2/11).
- انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (29/436).
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/318)، وصفة الصفوة (2/411)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (20/331)، وسير أعلام النبلاء (9/585).
- تهذيب الكمال في أسماء الرجال (24/367)، وسير أعلام النبلاء (10/35).
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/275)، وصفة الصفوة (2/380)، وسير أعلام النبلاء (10/184).
- انظر: صفة الصفوة (2/321)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (23/366)، وسير أعلام النبلاء (10/497).
- رُوي مرفوعا كما في فضل قيام الليل والتهجد للآجري (ص: 89)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (4/378).
- سير أعلام النبلاء (11/33).
- انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (8/391)، وسير أعلام النبلاء (11/134).
- سير أعلام النبلاء (11/214-215).
- سير أعلام النبلاء (11/223).