الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء في باب فضل السواك، وخصال الفطرة: ما أورده المصنف -رحمه الله- من حديث أبي موسى الأشعري قال: "دخلت على النبي ﷺ وطرف السواك على لسانه" [1] متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
دخلت على النبي ﷺ وطرف السواك على لسانه، على كل حال ورد عن النبي ﷺ أن السواك على طرف لسانه، وضع السواك، وكان يتهوع، بمعنى أنه وضعه على طرف لسانه، أي على آخر لسانه.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب[2] رواه النسائي، وابن خزيمة في صحيحه بأسانيد صحيحة.
السواك مطهرة للفم مرضاة للرب عرفنا أن السواك يقال للعمل الذي هو الاستياك، ويقال للآلة التي هي العود ونحوه، فالسواك مطهرة للفم، إن أريد بذلك أنه مطهر يعني التطهير؛ فهو مطهرة، سبب للتطهير، سبيل إلى تطهير الفم، ومرضاة للرب، يعني أنه سبب لجلبها، أنه سبيل إلى مرضاة الله -تبارك وتعالى- لأن الله يحب الطهارة والنظافة، ويكون الذي يحقق هذه السّنة ممتثلاً لأمر الله -تبارك وتعالى- ولشرعه، فالله -جل جلاله- يرضى هذا الفعل ويحبه.
وأيضًا يمكن أن يكون ضبط قوله: مطهرة للفم بالكسر مِطهرة للفم، باعتبار الآلة، أنها آلة للتطهير كما تقول: هذه مطهرة للوعاء الذي يوضع فيه الماء الذي يتطهر به.
وذكر بعد ذلك حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب متفق عليه.
الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة عرفنا المراد بالفطرة، وقلنا: إن هذا من سنن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
قوله الفطرة خمس: هذا يشعر بالحصر، وهذا الحصر غير مراد، ويحتمل أن يكون النبي ﷺ قال: خمس من الفطرة، كما جاء الشك في هذه الرواية، خمس من الفطرة، فذلك ليس من أساليب الحصر، ولو كان النبي ﷺ قاله بصيغة من صيغ الحصر؛ فإن ذلك يمكن أن يحمل على أنه في ابتداء الأمر، ثم أطلعه الله -تبارك وتعالى- على خصال أخرى؛ كما سيأتي في حديث آخر حيث ذكر النبي ﷺ: عشر من الفطرة[3].
فهنا خمس من الفطرة: الختان، وهو معروف، وذلك يكون للذكر والأنثى، إلا أنه بالنسبة للذكر آكد كما هو معلوم، بل هو واجب في حق الذكر، وحسن بالنسبة للأنثى، قال: والاستحداد والمقصود به استعمال الموس، يعني الحديد، وذلك بحلق العانة، وهو الشعر النابت حول القبل، بالنسبة للذكر والأنثى، هذا يقال له: استحداد، وقد تكلم أهل العلم على الاستحداد بالنسبة للمرأة، يعني هل تزيل ذلك بالموس، أو بأمور أخرى من الأمور المزيلة، أو يكون ذلك بالنتف؟
والعلة في هذا هي أمور ترجع إلى مصلحة المرأة والزوج من حيث المظهر والصورة، وفرق بعضهم بين المرأة المترهلة الكبيرة والشابة الصغيرة، على كل حال لا بأس أن المرأة تستعمل الموس، ولكن من أهل العلم من قال: إن شواب النساء الأفضل أن يكون ذلك بطريق النتف؛ من أجل أن لا يكثر الشعر، ولا يكون فيه زيادة في الغلظة؛ فذلك أحسن بلا شك، وذكروا أمورًا أخرى لا حاجة لذكرها، وأما بالنسبة للمترهلة قالوا: فإنه يكون عن طريق مزيلات أخرى، أو عن طريق الموس إن احتاجت إلى ذلك؛ لئلا يزداد المحل ترهلاً، طبعًا هذا بالنسبة للمتزوجة.
وتقليم الأظفار: تقليم الأظفار معروف، قصها، ونتف الإبط: وذكر هنا النتف، وذلك لأنه أصلح من جهة أنه يبطئ ظهور الشعر الجديد، ثم إنه أيضًا يكون أصلح من جهة أن الحلق يغلظ معه الشعر ويكثر؛ فيكون معه رائحة العرق، ونحو ذلك أكثر، فإذا نتف؛ كان ذلك أنفع، لكن إذا كان الإنسان لا يطيقه، لا يطيق النتف، يتألم به جدًا؛ فإنه يمكن أن يزول ذلك بأنواع المزيلات، ويمكن أن يزيله أيضًا بالحلق، لا مانع من هذا، لكن الأفضل هو النتف.
قال: وقص الشارب: والشارب معروف، وقصه بحفه على الأرجح، بحيث إنه لا ينزل منه شيء في الطعام، أو في الشراب، فذلك من النظافة، وهو من سنن الفطرة، واختلفوا فيما يتصل بالسبالين، هل يقصهما، أو لا، وكان عمر إذا غضب؛ يفتل ذلك منه [4] يدل على أنه ما كان يقصها من هذه الناحية، أما الحلق فإن الإمام مالك -رحمه الله- رأى أنه مُثْلة [5] يعني تشوية لخلق الله -تبارك وتعالى- والمسألة فيها خلاف معروف.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: عشر من الفطرة[6] هذا يدل على أن السابق ليس على سبيل الحصر، قص الشارب، وإعفاء اللحية يخرج به حلقها، ويخرج به أيضًا قصها، بحيث إنها تكون دون القبضة، والأحاديث، والروايات الواردة بالنسبة للحية قال النبي ﷺ هنا إعفاء، قال: أعفوا[7] وقال: أرخوا[8] وقال: وفروا[9] وقال: أوفوا[10] وقال: أرجوا كل هذه الروايات نحو خمس في الصحيحين، فذلك جميعًا يدل على أنه لا يتعرض للحيته بقص.
وهدي النبي ﷺ من أراد أن يمتثل قول الله -تبارك وتعالى-: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ما كان يأخذ من لحيته ﷺ شيئًا لا من طولها، ولا من عرضها.
وكان ابن عمر في النسك يأخذ ما زاد عن القبضة[11] يرى أن ذلك من النسك، أن يأخذ من رأسه، ولحيته يعني ما زاد عن القبضة، في النسك فقط، يرى أن ذلك من النسك، فإذا قيل: إن ذلك ليس من النسك، وإنما المتعلق بالنسك هو شعر الرأس، وأنه لم ينقل عن النبي ﷺ لا في النسك، وفي غيره أنه أخذ من شعر لحيته، كانت له لحية كثة تغطي صدره[12] كانوا يعرفون قراءته في السرية باضطراب لحيته[13] إلى غير ذلك من الأمور، وهذه الأوامر واضحة، وهي للوجوب، فإني أعجب من قوم يتركون هذا، ويتعلقون بروايات عن غيره -عليه الصلاة والسلام- وإنما الأسوة به ﷺ.
وهذا لا شك أنه خلاف أمر الله -جل جلاله- وهو طريق أيضًا إلى مزيد من التساهل، فإذا بدأ المقص باللحية؛ فإنه ما يلبث أن تنكمش، وتضمر يومًا بعد يوم حتى لا يبقى منها شيء، هكذا يزين الشيطان للإنسان عمله، فهدي النبي ﷺ هو الهدي الكامل.
قال: إعفاء اللحية، واللحية معروفة على كل حال هي تبدأ من هذا العظم إلى هذا العظم، والشعر النابت على اللحيين، والذقن، والعنفقة منها، وليس له أن يقص عنفقته، أو أن يأخذ من جوانبها، أو من طولها، أو نحو ذلك، فهي من اللحية التي هي هذه، بل لبعض أهل العلم من فقهاء المالكية كلام فيمن فعل ذلك شديد، لا أجرأ على ذكره في هذا المحل.
قال: والسواك وسبق الكلام عليه، واستنشاق الماء نعرف أن المضمضة، والاستنشاق أنها من الواجبات في الوضوء والغسل.
قال: وقص الأظفار، وغسل البراجم البراجم هذه عقد الأصابع؛ لأنه قد ينبو عنها الماء، ومثل ذلك يقال في المواضع التي قد ينبو عنها الماء، فالمرأة تغسل ما تحت الثدي مثلاً، إذا كانت مترهلة، وكذلك الرجل، أو المرأة إذا كان فيه عكن، يعني مصافط في البطن، أو نحو ذلك؛ فإنه يتعاهد هذا في الغسل، وما إلى ذلك، هذه العقد التي في الأصابع يقال لها: البراجم، وما كان في داخل الكف يقال له: الرواجب، فيتعاهد هذه المواضع.
قال: ونتف الإبط، وحلق العانة لاحظ هنا صرح به، وهناك قال الاستحداد وانتقاص الماء والمقصود بانتقاص الماء: فسره بعضهم بالاستنجاء، وفسره بعضهم بالنضح، قالوا: بأن الإنسان إذا توضأ، ونحو ذلك فإنه يمكن أن ينضح على فرجه قليلاً من الماء؛ لقطع الوسوسة، وكان يفعله ابن عمر -رضي الله عنهما- من أجل أن لا يحصل له وسوسة، بأنه يشعره الشيطان بشيء من الرطوبة[14] وبعضهم فسره بالاستنجاء كما سبق، وبعضهم فسره بغير هذا، قالوا: استعمال الماء بنحو المضمضة، فهناك ذكر الاستنشاق، وهنا المضمضة، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- هو استعمال الماء في الطهارة بالاستنجاء.
قال الراوي، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، إذا فسر الانتقاص بالمضمضة؛ كفى، ولكن الأقرب أنه الاستنجاء، قال: إلا أن تكون المضمضة، ويمكن أن تكون باعتبار الحديث الذي قبله في الخمس من الفطرة أن تكون الختان؛ لأنها لم تذكر في هذه العشر، قال: وكيع، وهو أحد رواته: انتقاص الماء يعني الاستنجاء[15] رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: وإعفاء اللحية معناه لا يقص منها شيئًا[16] وتكلم الإمام النووي -رحمه الله- وغيره على ما يجمل، ويحسن في اللحية، وما يكره، أو يحرم.
فمن ذلك مثلاً يسن فيها الخضاب، ويمكن أن يكون معه شيء من الكتم، لكنه لا يكون بالسواد الخالص، وكذلك قالوا: لا يحسن أن يضع عليها الكبريت؛ من أجل أن يستعجل الشيب، في السابق كانوا يضعون الكبريت؛ من أجل استعجال الوقار، أو لأمور أخرى يريد أن يتوصل إليها، واليوم توجد بعض الأصباغ التي توضع على اللحية، وعلى الرأس؛ تجعل شعرة بيضاء، وعشرة سوداء، إلى غير ذلك من الصور، والأشكال التي يضعونها، فمثل هذا لا يحسن.
وكذلك أيضًا مما ذكروه فيها أن الإنسان يأخذ منها، أو أنه لربما صبغها بالصفرة، ونحو ذلك، قالوا: تشبهًا بأهل الصلاح، إذا كان قصده ذلك، قالوا: يصلح النية، قال النووي: معناه لا يقص منها شيئًا[17].
ثم ذكر الحديث الأخير، وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ: أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى[18] متفق عليه.
أحفوا الشوارب يعني ما زاد على الشفة، فإنه يقص، هذا معنى الإحفاء، وفهم منه بعض أهل العلم الإنهاك، يعني مزيد من القص، لا يقف عند حد، ما نزل عن الشفة، وفهم بعضهم منه الحلق، كما هو معروف عند الشافعية، والأقرب -والله أعلم- أنه يأخذ ما زاد على الشفة، ولا بأس أن يخفف منه؛ لأن ذلك -والله أعلم- مقصود، أن يخفف منه، لكنه لا يحلق شاربه بالكلية، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، برقم (254).
- أخرجه النسائي في سننه، كتاب الطهارة، باب الترغيب في السواك، برقم (5)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (381).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (261).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (54)، وصححه انظر: آداب الزفاف في السنة المطهرة، للألباني (137).
- انظر: المقدمات الممهدات، لابن رشد (3/447).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (261).
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى، برقم (5893)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (259).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (260).
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار، برقم (5892).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (259).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصوم، باب القول عند الإفطار، برقم (2357)، وقال محققه: حسن.
- انظر: لشفا بتعريف حقوق المصطفى، لليحصبي (1/60).
- خرجه البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، برقم (746).
- انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/143).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (261).
- انظر: رياض الصالحين، للنووي (338).
- انظر: المصدر السابق (338).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (259).