الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل الحج" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله عنها-، أن رسول الله ﷺ قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة[1]، رواه مسلم.
ما من يوم هذا نص صريح في العموم، يعني: أنه لا يكون ذلك لا في يوم النحر، ولا في يوم القر، وهي من أعظم الأيام عند الله ، ولا في غيره من الأيام، لا من رمضان ولا من غيره.
أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، فهذا يدل على أن الله يعتق من النار فيما شاء من الأيام، فنسأل الله أن يعتقنا وإياكم، ووالدينا وإخواننا المسلمين من النار.
ولكن هذا العتق من النار أكثر ما يكون في يوم عرفة.
والظاهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك يختص بأهل الموقف، ولأهل العلم كلام معروف في هذا، وذلك أن الله كما في هذا الحديث، وهذا صدر حديث.
وقد جاء في آخره بأن الله -تبارك وتعالى- يطّلع على أهل الموقف على أهل عرفة، وأنه يباهي بهم الملائكة، ويقول -تبارك وتعالى- وهو أعلم، يسأل ملائكته عن مجيء هؤلاء: لماذا جاءوا؟ ماذا يطلبون؟ ماذا يريدون؟
فظاهره -والله أعلم- أن ذلك يختص بأهل الموقف، لكن يبقى أن يوم عرفة يوم شريف وردت فيه الأحاديث أن صومه يكفر سنة ماضية وسنة آتية[2]، وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس[3].
وفضل الله -تبارك وتعالى- واسع، والتعرض لألطافه أمر مطلوب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال: عمرة في رمضان تعدل حجة[4]، وفي لفظ: أو حجة معي[5]، يعني: تعدل حجة معي. متفق عليه.
هنا لما بين فضل الحج، وما يكون للحاج، كما يحصل في يوم عرفة من العتق من النار، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
من لم يستطع الحج، من لم يتمكن من ذلك، امرأة لم يوجد معها المحرم مثلاً، أو إنسان لم يستطع النفقة، أو غير هذا، فقال النبي ﷺ: عمرة في رمضان تعدل حجة، أو تعدل حجة معي.
وهذا من لطف الله بالمكلفين أن أبلغهم بأعمال يسيرة المراتب العالية، التي إنما تحصل بالأعمال الجليلة، فصارت العمرة في رمضان بهذه المثابة: حجة مع النبي ﷺ، أو حجة.
وليس معنى ذلك إذا سمع هذا الحديث أنه يتساهل في الحج أو يفرط في الحج، ويقول: أعتمر في رمضان، أو اعتمرت في رمضان، لا، فذاك في الفضل، ولكن الفرض لا يسقط إلا بالحج إن كان من أهله، وإن لم يكن من أهله فإن سفر الحاج، وتنقله بين المشاعر، وما يحصل له من نفقات، وعبادات، وأذكار، ونحو هذا، هذا لا يحصله هذا الذي اعتمر في رمضان، فهذا في فضل الحجة، ولكن باقي الأعمال الزائدة هذا أمر يختلف.
ولهذا يقال فيمن حج عن غيره مثلاً، الحجة لمن؟ للمحجوج عنه. وما لهذا النائب؟
نقول: له، تكتب له الخطى في هذه المناسك، يكتب له ممشاه، تكتب له نفقاته، يكتب له ذكره صلاته، وما إلى ذلك، كل هذه الأشياء تكتب: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8].
أما الحجة فهي لذاك، فهنا يقال: تعدل حجة، ولكن باقي أعمال ذلك الإنسان الذي طاف المشاعر وذهب بنفسه، لاشك أنه أكثر.
قال: وعنه -أي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم[6]، متفق عليه.
سألت النبي ﷺ: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي".
طبعًا الكلام فيه توسع، لغة العرب واسعة، يعني الفريضة أدركت أبي، والأصل أن أباها أدرك الحج، أدرك الحج، لا أن الحج أدركه.
فالمقصود: "أدركت أبي شيخًا كبيرًا"، يعني: أدركته في هذه الحال من الضعف، وقالت: "لا يثبت على الراحلة"، وظاهره أنه لا يثبت بحال، سواء على الراحلة مباشرة، أو كان بمحمل، أو نحو ذلك، فهو لارتخاء أعضائه وترهله وضعفه، فإنه لا ثبت على الراحلة، فمثله هل يجب عليه الحج أو لا؟
"أفأحج عنه؟ قال: نعم"، متفق عليه، فدل ذلك على أن الحج عن الغير يجزئ، سواء كان النائب من جنسه أو من غير جنسه، يعني: رجل يحج عن رجل، أو امرأة تحج عن امرأة، أو رجل يحج عن امرأة، والعكس، كل ذلك يجزئ، وأن ذلك لا يشترط فيه بعض الشروط التي يذكرها بعضهم، لأن النبي ﷺ لم يذكر هذا.
إذا كان الحاج من خارج المواقيت، جاء من المشرق أو من المغرب، أو ميقاته أبعد ميقات كذي الحليفة هل يجب على النائب عنه أن يحج من ميقاته؟
الجواب: لا.
هل يجب عليه أن يحجج من بلده؟
الجواب: لا.
لو أنه ناب عنه أحد حج من مكة، أنشأ الحج من مكة، ومعلوم أن أهل مكة يحرمون في الحج من مكة، فهل يجزئ ذلك عنه؟
الجواب: نعم، مع أنه خارج المواقيت، يعني المحجوج عنه.
وهكذا لو أن الحاج عنه من خارج المواقيت، لكن أراد أن يخرج من حجته هذه بشيء، فقال: سأعتمر عن نفسي أولاً، أذهب عمرة، ثم إذا جاء يوم الثامن من ذي الحجة أحرمت عنه بحج، فهذا يصح ولا يكون تمتعًا، فالعمرة للأول، والحجة للثاني، فيكون قد أحرم عنه من مكة، وهذا لا إشكال فيه.
ودل أيضًا على صحة النيابة في الحج في الفريضة، لكن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- دل على أنه يحج عن نفسه أولاً، لما قال الرجل: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ ثم قال له: أحججت عن نفسك؟، قال: لا. قال: حُج عن نفسك ثم حُج عن شبرمة[7]، فيحج الإنسان عن نفسه أولاً.
فالعبادات المالية تصل بالاتفاق، والدعاء يصل بالاتفاق إلى الغير، وأما العبادات البدنية ففيها خلاف معروف، والمركب منهما كالحج أو العمرة فهو يصل، ولا يشترط أن يكون ذلك من الولد، ولا دليل على من اشترط، لدى من اشترطه.
ثم أيضًا: هل يقال: إنه يُحج تطوعًا عن القادر على الحج الذي قد حج عن نفسه، يعني يُحج عنه تطوعًا، إنسان قد حج، فأراد ولده أن يحج عنه تطوعًا، وهو يستطيع الحج برًا بأبيه أراد أن يحج.
كثير من أهل العلم يقول: لا يحج إلا عمن يكون عاجزًا، وأما القادر فإنه لا يُحج عنه، سواء كان ذلك حج الفريضة، وهذا لا إشكال في حج الفريضة، قالوا: أو حج النافلة، لأن النصوص الواردة إنما جاءت في الحج في العاجز مثل هذا، والمسألة ليست محل اتفاق.
وفتوى اللجنة الدائمة[8]، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[9] -رحمه الله- أنه لا يحج عن القادر تطوعًا.
والمسألة ليست محل اتفاق، ولو قيل: إن إهداء ثواب الأعمال، أو القيام بالأعمال التطوعية غير الفريضة عن القادر، أن ذلك يصل إليه، وأنه يصح، ولا إشكال في هذا، فأظن أن ذلك -والله أعلم- له وجه.
وحديث لقيط بن عامر ، أنه أتى النبي ﷺ فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، يعني لا يستطيع السفر. قال: حُج عن أبيك واعتمر[10].
ففي هذا الحديث والذي قبله، ذاك امرأة تحج عن أبيها، وهذا رجل يحج عن أبيه، لكنه لا يقيد بالابن.
وقوله: انقطع عمله إلا من ثلاث[11]، وذكر الولد الصالح، دلت الأدلة على وجود أعمال أيضًا أخرى؛ لأن الولد الصالح الذي يدعو له هو من جملة عمله.
ولكن غيره كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذا أهدى إليه ذلك العمل فإن ذلك يصل إليه، لكنه لا يكون من عمله"[12].
فكما أن الإنسان كما قال النبي ﷺ: أنت ومالك لأبيك[13]، لكن الإنسان لا يستحوذ على أموال الناس، ولو أعطوه من طواعية فإن ذلك يكون له، فكذلك لو أهدى إليه أحد عمله أو ثوابه فلا إشكال.
ولهذا فالأقرب أنه يصل ثواب قراءة القرآن للميت، والأعمال الأخرى البدنية تصل إذا تطوع بها الإنسان، كأن يطوف عن غيره مثلاً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[14] -رحمه الله-، خلافًا لابن القيم[15].
والمسألة فيها خلاف مشهور، ولكنه لا يشرع، بمعنى أن النبي ﷺ ما أرشد إليه، وما دعا إليه، وما عمله، وما علمه أصحابه، الأعمال البدنية، والأولى أن الإنسان يعمل لنفسه فهو بحاجة إلى العمل.
وقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى[النجم:39]، يعني أنه لا يستحوذ على عمل غيره، لكن لو وهبه غيره عمله فهذا لا إشكال فيه.
فالشاهد أن هذا يسأل عن أبيه لا يستطيع.
وقوله: حُج عن أبيك واعتمر استدل به من قال بوجوب العمرة، أنها واجبة في العمر مرة، وهذا من أوضح الأدلة التي يستدلون بها، وهذا هو الأقرب أن العمرة واجبة مرة واحدة في العمر، ولو أن أحدًا حج تمتعًا أو قارنًا، فإنه يكون قد سقط عنه فرضه في الحج والعمرة، -والله تعالى أعلم-.
- خرجه مسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة برقم (1348).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فضل العمرة في رمضان، ويوم عرفة برقم (1162).
- لم أقف على ما يدل على أن يوم عرفة خير يوم طلعت عليه الشمس، وإنما ثبت هذا في يوم الجمعة كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها))، أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة، برقم (854).
- أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب عمرة في رمضان، برقم (1783)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل العمرة في رمضان، ويوم عرفة، برقم (1256).
- أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء، برقم (1763)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل العمرة في رمضان، ويوم عرفة برقم (1256).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، برقم (1513)، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، برقم (1334).
- أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، برقم (1811)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3128).
- فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/72).
- مجموع فتاوى ابن باز (17/308).
- أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير، والميت، برقم (930)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع، برقم (2637)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3127).
- أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/31).
- أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، برقم (2291)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1486).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/37-38)، ومجموع الفتاوى (24/322-323).
- انظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/175).