الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء في فضل الجهاد حديث أبي سعيد الخدري قال: أتى رجل رسول الله ﷺ فقال: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره[1] متفق عليه.
هنا سئل ﷺ أي الناس أفضل؟ فذكر هذين، من يجاهد بنفسه وماله، ثم من يعبد في شعب من الشعاب ويدع الناس من شره، وهناك في الأحاديث الأخرى التي مضت في الليلة الماضية لما سئل عن أفضل الأعمال في حديث أبي هريرة ذكر الإيمان بالله ورسوله ﷺ، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم الحج المبرور[2]، وفي حديث ابن مسعود ذكر أولاً الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله[3]، وفي حديث أبي ذر ذكر الإيمان بالله والجهاد في سبيله[4].
هنا قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وقد مضى الكلام على أن ذلك قد يكون باعتبار الأوقات أو الأحوال أو باعتبار الأشخاص أو الأمكنة، فيكون في وقت هذا العمل أفضل، وفي وقت ذاك العمل أفضل، إضافة إلى ما ذكر من أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ففي كل مرة يذكر عملاً قد بلغ في الأفضلية غايتها، ويوجد أعمال بالغة في الأفضلية هذا المبلغ، لكنها لا تزيد عليه.
وقوله ﷺ لما قيل له، ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب الشعب هو الطريق في الجبل، قال: يعبد الله ويدع الناس من شره لاحظ المجاهد عمله متعد، وهذا الذي يعبد الله في شعب من الشعاب عمله قاصر، أي أنه لا ينتفع الناس بعمله، وإنما غاية ما هنالك أنهم يكتفون شره، ويسلمون منه، وقد صح عن النبي ﷺ أن كف الأذى صدقة[5]؛ لأن الناس منهم من لا يوفق إلى العمل الصالح، أو لا يصلح لمخالطة الناس، إما لضعفه من جهة قلة الاحتمال، وإما من جهة ضعفه، فيلابس فتنة، ولربما يكون ذلك سببًا لانحرافه في أوقات الفتن.
وقد صح عن النبي ﷺ أن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم[6]، فالنبي ﷺ يبين لأمته الأعمال الفاضلة، ومنها هذا الذي يعبد الله في شعب من الشعاب، ويدع الناس من شره، لا يوصل الأذى إلى الناس، فأحيانًا يكون هذا أفضل ما يسير إليه العبد، بعض الناس هذا أفضل حالاته، تقول له: اذهب إلى شعب، اذهب مع غنم وإبل، واجلس هناك، دع الناس يسلمون منك، لا تتكلم، لا تخالط الناس؛ لأنه لا يستطيع أن يمسك الأذى، فمثل هذا خير له أن يبتعد، أن ينأى بنفسه، إنسان ليس له عمل، وليس له مهنة، وليس له اشتغال، وليس له سعي إلا في أذية عباد الله الصالحين، يؤذي الناس بلسانه أو بيده، يوصل إليهم أنواع الأذى، يتكلم في أعراضهم، لا سيما إذا تكلم في أهل العلم، ووقع فيهم، وصار ذلك هو زاده إلى الآخرة -نسأل الله العافية-؛ فمثل هذا ما هي أفضل حالاته؟
أن يعبد الله في شعب من الشعاب، ويجلس عند إبل وغنم هناك، ويدع الناس من شره، هذا أفضل حالاته، ومثل هذا لا ينبغي ثنيه عن ذلك، يقال له: لا، تعال الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم لا، لا، يقال له: هذا أفضل الأعمال، الزمه فهو خير لك في الدنيا والآخرة، فالناس يتفاوتون، النساء بالذات قد تجد المرأة في نفسها -كما تذكر بعض النساء- غيرة شديدة، تقول: ما أرى واحدة تتميز إلا وتتحرك الضغائن نحوها، تقول: أعلم أنها خيرة وصالحة، ولكن شيء لا أملكه، ماذا أصنع؟ أحقد على كل من أراها تتميز في علم أو عمل.
نقول: اعبدي الله في بيتك، إذا ما استطعت معالجة هذه المشكلة؛ فهذا خير لك، وهكذا الرجل الذي كلما رأى أحدًا يتميز في علم، أو في عمل مباشرة وجه إليه سهامه، ورماه بالضلال والبدع والزندقة والأهواء، وما إلى ذلك، فهذا يقال له: الزم بيتك، والرجل ليس كالمرأة، قد لا يستطيع أن يلزم بيته، فيقال: الزم غنمك أو إبلك، فهذا خير لك، فبهذا نعرف وجه ذكر هذه الأمور، والله تعالى أعلم، وهي متنوعة في هذه الأحاديث، وذلك أن الناس يتفاوتون، وهذه شريعة كاملة، جاءت لجميع المكلفين، وفي كل الأوقات، ففي أوقات الفتن قد تكون الخُلطة أولى من العزلة، وقد تكون العزلة أولى من الخلطة، وقد تكون الخلطة واجبة، وقد تكون العزلة واجبة، وذلك باختلاف أحوال الناس، فمن يستطيع أن يخالط الناس في أوقات الفتن، وينتفعون به، ويكف ما استطاع من الشر؛ لأنهم يقبلون ذلك منه، ويسلم من الفتنة، فقد يجب على هذا أن يخالطهم، ومن يكون وجوده كعدمه، لكنه يسلم من الفتنة، فالعزلة خير؛ لأن العافية لا يعدلها شيء في أوقات الفتن، غلبت الفتن.
والمقصود الفتن التي يحصل فيها الاشتباه، بحيث الناس لا يميزون فيها بين الحق والباطل، أما ما يحصل به التمييز، فهذه ليست فتنة، وهكذا أيضا إذا كان الإنسان يخالط الناس، ويخشى على نفسه الفتنة، ضعيف سواء كانوا ينتفعون به أو لا ينتفعون، فمثل هذا يجب عليه أن يعتزل الفتنة.
ثم ذكر حديث سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها[7]، متفق عليه.
رباط يوم في سبيل الله رباط يوم، الرباط أصله لزوم الثغور المتاخمة للعدو، حراسة لبلاد المسلمين، وربما كان أصل هذا الإطلاق أو التسمية الرباط أن هؤلاء وهؤلاء، يعني الذي يرابطون في الثغور من المسلمين، وممن يقابلهم من العدو، أن هؤلاء يربطون خيلهم، وهؤلاء يربطون خيلهم إعدادًا واستعدادًا لمواجهة ما يطرأ، فهؤلاء يمثلون الحراس للبلاد الإسلامية، فعملهم هذا عمل شريف، وقد جاء فيه من الأحاديث كهذا، وغيره أشياء، تدل على أنه من أجل الأعمال وأفضلها.
فهنا قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها هذا رباط يوم واحد، فكيف برباط سنة مثلاً، وقد مضى الكلام على الدنيا وما تساوي، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن رباط اليوم أفضل منها، ولهذا قال: خير من الدنيا وخير هنا أفعل تفضيل، يعني أخير، لكن هذه الصيغة تأتي مرادًا بها التفضيل -كما سبق في بعض المناسبات- فيقولون: هذا خير من هذا، يعني أخير من هذا، كما قال ابن مالك:
وغالبًا أغناهم خير وشر | عن قولهم أخير منه وأشر[8] |
تقول: زيد خير من عمرو يعني أخير منه، خير من الدنياأي: أفضل من الدنيا وما فيها، الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وآخر واحد يدخل الجنة له مثل ما في الدنيا، ملك الدنيا عشر مرات من أولها إلى آخرها، هذا آخر واحد، فكيف المرابط إذًا؟
فخير هنا ما هو معناها أفضل بقليل، أفضل من الدنيا، وما فيها بعشرة بالمائة، أو نحو ذلك، لا، لا، لا، بما لا يقادر قدره، أقل واحد في الجنة أفضل من الدنيا عشر مرات، فكيف بهذا الذي هو في أعلى المنازل؟ وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، إذًا القصر في الجنة كم يساوي؟ هذا موضع السوط، القصر في الجنة، السرير في الجنة، البستان في الجنة ماذا يساوي؟ موضع السوط خير من الدنيا وما فيها.
والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة مضى الكلام على هذا في حديث سبق، وعرفنا أن الغدوة الذهاب في أول النهار، والروحة في آخر النهار، وقلنا بأن ذلك لا يختص بذهابه من بيته ابتداء وإنما في مزاولاته، وهو في الجهاد، فحينما يخرج من معسكره في كل يوم، في أول النهار، في آخر النهار، ذلك خير من الدنيا وما عليها، هذا إذا كان في سبيل الله.
ثم ذكر حديث سلمان ذكر أحاديث أخرى على كل حال، أنا لا أريد أن أطيل عليكم، أكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2786)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، برقم (1888).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، برقم (26)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (83).
- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (84).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (84).
- أخرجه ابن المقرئ في معجمه، برقم (629)، وصححه الألباني في مختصر السلسلة الصحيحة، برقم (939).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، برقم (2892).
- انظر: شرح ألفية ابن مالك، (1/13).