الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء عن معاذ عن النبي ﷺ قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة، وجبت له الجنة، ومن جرح في سبيل الله، أو نكب نكبة؛ فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت؛ لونها الزعفران، وريحها المسك[1].
قوله ﷺ: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فوافق ناقة، وجبت له الجنة فوافق ناقة، يعني المدة، أو الوقت بين الحلبتين، كم بين حلبة وحلبة للناقة؟ هذه المدة اليسيرة من حقق ذلك من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة، وجبت له الجنة يعني، ولو لم يقتل في سبيل الله، ولو لم يدم، أو يطول، لو لم يطل مقامه في الجهاد في سبيل الله وجبت له الجنة، ومن جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت؛ لونها الزعفران، وريحها المسك جرح جرحًا في سبيل الله، الجرح في سبيل الله قد يكون بسبب مباشرة الكفار أنهم هم الذين أصابوه، وقد يكون ذلك بغيره، فقد يسقط من ناقته، ويجرح، وقد يحصل له ذلك بسبب حجر، أو شجر، أو نحو هذا، فهذا كله داخل فيه أو نكب نكبة نكبة يعني بلية في سبيل الله، كأن يأسره العدو مثلاً، أو يحصل له مكروه كما حصل للنبي ﷺ حيث قذف عرضه ﷺ وهو قافل من الغزو، فتلك نكبة عظيمة، وقد تكون هذه النكبة بغير ذلك.
لما قال عبد الله بن أُبي رئيس المنافقين في غزوة بني المصطلق: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك[2]، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ هذا كله في سبيل الله، يعني ما وقع لرسول الله ﷺ ولأهل الإيمان على يد هذا المنافق؛ فهو أذى في سبيل الله، وقد تحصل له هذه النكبة، بفقد راحلته، بفقد متاعه، قد يحصل له ذلك بسبب مكروه وقع له، ولو بيده من غير قصد، عامر عم سلمة بن الأكوع رجع عليه السيف، فأصاب ساقيه؛ فمات فلم يكن قتله على يد الكفار، فهو داخل أيضا في هذا.
فكل ما يقع له من المكروه فإنه قال: أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة يعني الجراح كأغزر ما كانت يعني في النزيف، في الدم، لونها الزعفران، وريحها كالمسك وهذا لا يعارض الحديث الذي قبله حديث أبي هريرة : اللون لون دم، والريح ريح مسك[3] لأن الزعفران أحمر اللون.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله ﷺ بشعب فيه عيينة من ماء عذبة، عيينة يعني عين ماء، صغرت لربما لصغرها، لقلة مائها، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب -وعرفنا أن الشعب هو الممر أو الطريق في الجبل- ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله ﷺ فذكر ذلك لرسول الله ﷺ- فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ وجبت له الجنة[4] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
فقوله: ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله ﷺ هذا هو اللائق بالمؤمن، أن يسأل قبل أن يباشر ويفعل؛ ليكون فعله واقعًا على الوجه المشروع، بخلاف من يسأل بعد ما يفعل، ثم يتبين له بعد ذلك أنه لم يكن على صواب، وبعضهم لا يسأل، وبعضهم ينهى من يسأل، وهذا أسوأ الأحوال، ينهى من يسأل؛ لأنه يعتقد أن ذلك من باب التنقير والتفتيش والبحث عن أمر قد تكون نتائجه مما لا يحبه ولا يلائمه، ويظن أنه تبرأ ذمته بذلك ألا يسأل، فهذا غير صحيح الواجب على الإنسان أن يسأل قبل أن يفعل؛ من أجل أن يكون فعله صحيحًا.
فالشاهد: أنه ذكر ذلك للنبي ﷺ هذا الرجل يريد أن يعتزل للعبادة، فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، وفي رواية أفضل من صلاته خاليًا ستين عامًا مقام أحدكم مقام أحدكم ولو يسيرًا، ولم يحدد ذلك، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة فهذا فضل عظيم، لا يعلم نظيره في غير هذا العمل الشريف.
ثم ذكر أيضا حديثا آخر لأبي هريرة قال: قيل يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه فأعادوا عليه مرتين، أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله القانت يعني: الذي يطيل القيام، كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله[5] متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري: أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجده ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ فقال: ومن يستطيع ذلك؟[6]
ثم ذكر حديثا آخر لأبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه يعني: بلجام فرسه، في سبيل الله يطير على متنه يطير يعني: يسرع على ظهره، كلما سمع هيعة هيعة يعني: النداء، الصيحة للجهاد في سبيل الله، أو فزعة؛ طار عليه، يبتغي القتل، والموت مظانه يعني: يطلب الشهادة، القتل في سبيل الله، حيث يتحرى ذلك، ويتوقعه، أو رجلٌ في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف يعني: أعالي الجبال، أو بطن وادٍ من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير[7] رواه مسلم.
الآن هذا الرجل في أعالي الجبال، أو في بطون الأودية، وذلك مظنة للخلوة، والبعد عن مجامع الناس، ولكن الحديث الذي سبق، وهو قول النبي ﷺ للذي استأذنه في ذلك: لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا يدل على أن حال الأول، وهو الذي قد أمسك بعنان فرسه في سبيل الله أفضل من هذا الذي في غنيمة، ولا شك في ذلك، فهو في عبادة من أجلّ العبادات، بالإضافة إلى نفعه متعد لعموم الأمة، بخلاف هذا الذي في غنيمة، وقد اعتزل الناس، فإنه في عبادة قاصرة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب فيمن سأل الله تعالى الشهاد، برقم (2541)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3825).
- انظر: سيرة ابن هشام (2/291).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، برقم (5533)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876).
- أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، برقم (1650)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3830).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2787)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1878).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، برقم (2785).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، برقم (1889).