الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن في الجنّة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض[1] رواه البخاري.
درجات الجنة كثيرة لا يعملها إلا هو، وقد جاء في قارئ القرآن أنه يقال له: اقرأ وارتق؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها[2] وذلك كثير، لكن هذه الدرجات المائة أعدها الله للمجاهدين في سبيله خاصة، وبينها هذا التفاوت ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض وذلك لتفاوت أحوالهم وأعمالهم ومراتبهم؛ مما ينتج عنه تفاوت درجاتهم وجزائهم، وذلك يرجع إلى أمور عدة من الإخلاص، وهضم النفس، والانصراف عن دواعي العجب، مع ما يوجد في القلب من الخشية والإشفاق وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ وكذلك أيضًا ما يحتف بالجهاد في سبيل الله من ألوان المشقات، وما يحصل معه من النفقات، فكل ذلك يتفاوت الناس فيه تفاوتًا كبيرًا، كما يحصل التفاوت بين ألوان العابدين، فأهل الصيام ليسوا على مرتبة سواء، وكذلك أيضًا أهل الصلاة ليسوا على مرتبة سواء، وأهل الحج ليسوا على مرتبة سواء، فكذلك أهل الجهاد.
أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله للمجاهدين في سبيل الله، ولم يذكر الشهادة هنا، فدل ذلك على أن هذه المراتب ليست مراتب الشهداء، وإنما مراتب ودرجات المجاهدين، ولو ماتوا على فرشهم، وهذا التقييد ضروري لا بدّ منه، وهو قوله: للمجاهدين في سبيل الله فكل قتال ليس في سبيل الله، ولا لإعلاء كلمة الله، لأي غاية من الغايات فليس في سبيل الله، والذين يتساقطون فيه ليسوا شهداء، ولا يجوز أن يطلق عليهم الشهداء، فهذه قضايا شرعية يجب أن تضبط.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً؛ وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليّ يا رسول الله، فأعادها عليه، ثم قال: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله[3] رواه مسلم.
فقوله ﷺ: من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً؛ وجبت له الجنة[4].
من رضي بالله ربًا رضي به ربًا هذا يقتضي أنه يرضى بأحكامه الشرعية، وأحكامه الكونية والقدرية، وأنه لا ينازع الله -تبارك وتعالى- بشيء من ذلك، فإن من معاني الرب الذي يدبر الأمور ويعطي ويمنع ويرزق، فلا يكون العبد متسخطًا على ربه، معترضًا على أحكامه، وبالإسلام دينًا يعني: أنه يسلم وجهه لله -تبارك وتعالى-، ويرضى بدينه الإسلام دينًا يدين به، فلا يبحث عن الهدى في غيره من الأديان أو مقالات الناس، وما إلى ذلك مما يستجلب من هنا وهناك، أو يتشكك في هذا الدين ويضطرب سيره في سلوك الصراط المستقيم.
وبمحمد ﷺ رسولاً يعني أنه يطيعه فيما أمر، ويصدقه فيما أخبر -عليه الصلاة والسلام-، فلا يرد شيئًا مما جاء عنه، وثبت؛ لأن ذلك ليس من الرضا به رسولاً -عليه الصلاة والسلام-، ولا يحكم أقواله ويعرضها على عقله، فيقبل ويرد، أو يعرض ذلك على قواعد محدثة ينبني عليها الأخذ والرد مما جاء به الرسول ﷺ.
قال: وجبت له الجنة وجبت له الجنة هذا لا يعني أنه لا يعذب، فعجب لها أبو سعيد، ثم طلب إعادتها، فقال النبي ﷺ بعدما أعادها: وأخرى وهذا الشاهد يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فذكر الجهاد.
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري الذي يرويه عنه ابنه أبو بكر، وهو من أوساط التابعين قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو، يعني في أرض المعركة، يقول: قال: رسول الله ﷺ: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل[5]، رواه مسلم.
إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف هذا فيه حفز على الإقدام على قتال العدو ومناجزته، فالناس يرفعون سيوفهم، ويتراصون في الصف، فتظلهم سيوفهم، تكون كالظل فوقهم، والعدو يرفع أيضًا سلاحه، فذلك قوله: الجنّة تحت ظلال السيوف فهذا داع إلى الإقدام، فقال رجل رث الهيئة: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا؟ يعني ما رويته عنه بوسائط؟ من أجل أن يتيقن، وأنه لم يتطرق إليه فهم أو خطأ أو وهم، أو نحو ذلك، قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، يعني ودعهم، ثم قال: كسر جفن سيفه، يعني أنه قد أيس من الرجوع إليهم، وأيقن بالمفارقة، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل، فهذا تلقى هذا الخبر، وفيه أخذ خبر الواحد، وفيه سرعة الاستجابة والامتثال، والرغبة فيما عند الله -تبارك وتعالى-.
ثم ذكر حديث أبي عبس عبد الرحمن بن جبر قال: قال رسول الله ﷺ: ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار[6]، رواه البخاري.
هنا لم يذكر القتل في سبيل الله والشهادة، وإنما ذكر هذا الأمر اليسير، الذي قد يحصل بوقت قصير، ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، وإذا ذكر سبيل الله؛ فالمقصود به الجهاد، وقد ذكر بعض أهل العلم احتمالاً في مثل هذا أنه يدخل فيه أعمال أخرى في سبيل الله، كالدعوة ونحوها، ولكن الظاهر -والله أعلم- أن المقصود بذلك الجهاد بمعنى القتال للأعداء، ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار وهذا يدل على أنه لا يعذب، ولا حاجة لحمله على مس النار التي يخلد بها الكفار، وإنما النار مطلقًا.
ثم ذكر أيضًا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله، ودخان جهنم[7]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
قوله: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله ظاهره أنه لا يلج النار مطلقًا، ولو النار التي يدخلها عصاة الموحدين رجل بكى من خشية الله وهذا أمر يسير، ولكنه يدل على صدق الإيمان، قال: حتى يعود اللبن في الضرع وهذا أمر محال ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله، ودخان جهنم وهذا يدل على أنه لا يدخلها أصلاً.
ثم ذكر أيضًا حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله[8]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
فهذه أعمال لم تقيد بالقتل في سبيل الله، وتحصيل الشهادة، وإنما من زاول بعض هذه الأعمال، ولو وقتا يسيرًا، فإن ذلك يحصل له، كما هو ظاهر هذه الأحاديث، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي، برقم (2790).
- أخرجه أبو داود في سننه، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم (1464)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2134).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات، برقم (1884).
- أخرجه أبو داود في سننه، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في الاستغفار، برقم (1529)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (334).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1902).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من اغبرت قدماه في سبيل الله، برقم (2811).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، برقم (1633)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3828).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله، برقم (1639)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3829).