الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما جاء عن زيد بن خالد أن رسول الله ﷺ قال: من جهز غازيًا في سبيل الله؛ فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير؛ فقد غزا[1] متفق عليه.
من جهز غازيًا في سبيل الله جهزه بمعنى أنه هيأ له ما يحتاج إليه من سلاح، ومركوب، وطعام، ونفقة.
ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا بمعنى أنه يقوم على شؤونهم، ويرعاهم، ويدفع عنهم الحاجة، ويصونهم كما يصون أهله، ولا يتخونهم، ثم إن هذا يدل على أن من جهز نفسه في سبيل الله، وغزا أن الأجر له يضاعف، فإذا كان من قام له بهذا؛ يكون له كأجره، فكذا إذا قام المسلم بذلك بنفسه؛ فإنه يكون أجره مضاعفًا، أجر الغزو، وأجر النفقة في سبيل الله، وإعداد ما يتجهز به، وهكذا لو أنه ترك من يخلف بعده، ترك لهم ما يحتاجون إليه، بحيث إنه لم يحتاجوا إلى أحد بعده، فإن أجره يكون مضاعفًا، بهذا الاعتبار، هكذا فهم بعض أهل العلم، وهذا له وجه ظاهر من النظر، والله تعالى أعلم.
ثم إن قوله ﷺ: من جهز غازيًا في سبيل الله؛ فقد غزا إنما كان كذلك؛ لأنه متسبب في هذا الغزو؛ لأنه لو لم يحصل له ذلك، أعني الغازي؛ فإنه يتعطل، وهكذا لو لم يجد من يعول أهله، ويحفظهم بعده، حتى صار يتخوف عليهم من الحاجة، أو غير ذلك من المخاوف فإن ذلك يعوقه عن الغزو، فإذا قام أحد بذلك نيابة عنه؛ فإنه يكون متسببًا في غزوه، ومن كان بهذه المثابة؛ فله كأجر من قام بهذا العمل، لا ينقص من أجورهم شيء -كما سيأتي في الأحاديث الأخرى- وقد جاء في بعضها ما هو صريح بأن له كأجره، مثل أجر هذا الإنسان الغازي، وهذا المراد بقوله ﷺ: فقد غزا.
ثم أيضًا هذا الحديث من جهز غازيًا في سبيل الله؛ فقد غزا لأنه تسبب، لكن ذلك لا يفهم منه كما يفهم بعض الناس من أن الإنسان إذا تصدق عن غيره؛ فله كأجره، هذا غير صحيح، ولهذا للأسف الشديد تجد في رسائل الجوال من المعلومات الخاطئة، ويغرر بالناس، فيقال: إذا تصدقت بصدقة فاجعلها للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات؛ يكون لك كأجر كل مسلم ومسلمة، هذا خطأ فاحش، تصور أنت تصدقت الآن بمائة ريال على مائة شخص، كم يطال الشخص الواحد منهم؟
أنت أعطيت ما هو صدقة، هبة لمائة شخص، مائة ريال كم يصل للواحد منهم؟ ريال واحد، فإذا أعطيتها لواحد كان له مائة، فإذا أبقيتها لنفسك فلك مائة، فالصدقة كذلك، إذا تصدقت بها عن نفسك فلك مائة، وإذا قلت: يشترك معي فيها تسعة وتسعون؛ فلك واحد من مائة من هذه الصدقة، ولكل واحد من هؤلاء واحد من مائة، فمن هذا الذي يجعل صدقاته للناس، لكل مسلم ومسلمة، الأحياء والأموات، ما أحد يفعل هذا، الأحياء منهم والأموات!، هذا لا يمكن، وإلا ضيع الإنسان أجره، وهكذا ما يعمل بعض الدعايات التي يغرى فيها الناس من أجل إيجاب الأوقاف، يقال: إذا مات ميت -هذه الموضة الجديدة الآن- نعمل له وقف، نعمل له وقف؟ ثم يجعل في القسيمة، ولك كأجره، من قال: ولك كأجره؟
أنا دفعت في هذا الوقت عشرة آلاف ريال لزيد الذي توفي، دفعت له عشرة آلاف لماذا لي كأجره؟ ليس لي كأجره، لأجر فقط الإحسان إلى هذا الإنسان فقط فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ لكن العشرة آلاف ذهبت إليه، وأنا أحوج ما أكون إلى العمل، فأنا أدعو له.
ولهذا قال النبي ﷺ: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كان له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة[2] فهذا هو الطريق الصحيح، لا أن الإنسان يبدد عمله بهذه الطريقة، كلما يتصدق صدقة قال: أجعلها للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، هذا جهل ينشر على الناس برسائل الجوال، ولربما بوسائل أخرى في بعض القنوات، يقال هذا الكلام، ثم بعد ذلك يتهافت الناس على هذه الوسائل، أو هذه الطرق، ويضيعون أجورهم، فهذا يتنبه إليه، ففرق بين قوله ﷺ: من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا[3] لأنه متسبب في غزوه، وغير ذلك.
ثم ذكر حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: أفضل الصدقات: ظل فسطاط في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله[4] رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
الآن أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ظل فسطاط يعني: أن يقدم خيمة للغزاة، يستظلون بها، بيت شعر، هذا هو الفسطاط، ومنيحة خادم في سبيل الله أي يقدم خادمًا يخدم المجاهدين، يخرج معهم في الغزو، أو طروقة فحل في سبيل الله طروقة فحل يعني: هي التي صارت مهيأة لذلك، استحقت طرق الفحل لها، سواء كانت ناقة، أو كانت فرسًا، بحيث تركب للغزو في سبيل الله، وهذا لا يعني الحصر، وأن ذلك كما قيل فيما سبق يختلف باختلاف الأحوال والأوقات.
في مثل وقتنا هذا يقول الإنسان أنا سأقدم مثلاً خيمة؛ ظل فسطاط للمجاهدين، هل هذا أفضل العمل؟ لا، قد يتصدق بأدوية للفقراء الآن، ويكون هذا أفضل؛ لأنه قد لا يجد من يعطيهم، ظل فسطاط مثلاً، لكن حينما يقوم الجهاد ترفع راية الجهاد، ويحتاج الناس إلى هذه الأشياء، لكن الآن لما يعطيهم طروقة فحل، هل العصر هذا الناس يحتاجون إلى ناقة يركبونها في سبيل الله؟
الجواب: لا، وإنما يحتاجون إلى أشياء أخرى.
ثم ذكر حديث أنس أن فتى من أسلم؛ قبيلة أسلم، قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو معك، أو إني أريد الغزو، وليس معي ما أتجهز به، قال: ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض فأتاه فقال: إن رسول الله ﷺ يقرئك السلام، ويقول: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة، يعني يقول لخادمته، أو امرأته أعطيه الذي كنت تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئًا، فوالله لا تحبسي منه شيئًا فيبارك لك فيه[5]. رواه مسلم.
وهكذا أيضًا ذكر حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ بعث إلى بني لحيان، ويقال لحيان أيضًا بالكسر القبيلة المعروفة، فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما[6] رواه مسلم.
الأجر بينهما، يعني: لينبعث من كل رجلين أحدهما بمعنى أنهم يهيؤون ما يحتاج إليه الآخر، وفي رواية له: ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير؛ كان له مثله نصف أجر الخارج[7] لاحظ مثل نصف أجر الخارج، فهل هذا يعارض ما سبق من أن له كأجره من جهز غازيًا فقد غزا[8] إلى آخره مثل نصف أجر الخارج هذه رواية.
بعض أهل العلم يقول في مثل هذا: له مثل نصف أجر الخارج، يعني أنه إذا كان اثنان اشتركا في هذا العمل، فكل واحد له كأجر الآخر، فإذا نظر إلى هذا منفردًا فهو من المجموع على النصف، يكون بهذا الاعتبار، يعني هذا له أجره، وهذا له أجره، فإذا جمعت الأجرين؛ فالنصف لهذا، والنصف لهذا، هكذا فهم بعض أهل العلم.
وبعضهم قال: لعل هذه الرواية -هو حديث واحد- قال: لعل قوله: كان له مثل نصف أجر الخارج، أن هذا من تصرف الراوي، وإلا فانظر إلى الرواية الأصلية في الباب عند مسلم: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما فهم منه الراوي أنه النصف، بينما الروايات الأخرى تدل على أنه له كأجره فقد غزا كما قال النبي ﷺ: والأجر بينهما.
ويبقى ذاك الحديث، وهو قوله ﷺ: فقد غزا وهنا قال: والأجر بينهما كما سبق في بعض المناسبات، من أهل العلم من قال إن هذا القاعد يكون له كأجر الغازي من غير مضاعفة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، هذا له كأجره الأصلي من غير مضاعفة، القاعد يعني، وبعضهم قال: لا دليل على هذا، وفضل الله واسع، لكن يبقى أن العمل المعين -وهذا صحيح- يحتف به من المزاولات ما يعظم به الأجر، يعني الآن مثل الذي يجلس بعد صلاة الصبح، ويذكر الله في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة، وعمرة تامة تامة تامة[9] عند من حسن الحديث.
على كل حال، هل هذا يكون مثل الذي ذهب إلى مكة، وطاف وسعى، وذهب إلى منى وعرفات، وأنفق نفقات في سبيل الله، ولحق مشقة ورجع مرهقًا متعبًا؟
الجواب: لا، فذاك يكتب له ممشاه، في كل هذه المشاعر حتى يرجع، ويكتب له الذكر، وقراءة القرآن، والنفقة في سبيل الله، والتعب، وما إلى ذلك، هذا لا يحصل لمن صلى، مثل الآن لو أحد حج عن آخر، المحجوج عنه ما الذي له؟ أجر الحجة فقط، لكن الباقي؟ الأذكار، وما إلى ذلك، خطوات هذا الإنسان في هذه المناسك، هي لمن قام بها، وليس للمحجوج عنه، أما ذاك فله أجر الحجة فقط.
ولهذا هنا هذه الأحاديث، الذي يبقى في البلد، ما يخرج، ويجهز الغازي؛ يكون كأجره -كما قال النبي ﷺ لكن الغازي يكون له من الأعمال والمزاولات ما لا يكون للقاعد، يعني زيادة على الأجر الأصلي للغزو، ومن ثم فإن هذا لا يعني أن الإنسان يترك الأعمال الصالحة استعاضة عنها بورود بعض الأشياء التي يكون له كأجره، صلى في قباء ركعتين، توضأ في بيته، وصلى في قبأ ركعتين؛ يكون له ذلك كعمرة، هل هذا مثل الذي ذهب إلى مكة واعتمر؟
الجواب: لا، لكن يكتب أجر العمرة، يعني الأجر الأصلي.
ثم ذكر حديث البراء قال: أتى النبي ﷺ رجل مقنع بالحديد، يعني يلبس الحديد، صار الحديد قناعًا له، لا يخرج من جسمه شيء، وبعضهم يقول: مقنع بالحديد، يعني يلبس الخوذة، المغفر، شيء يغطي الرأس، يقولون: فذلك هو القناع، مقنع بالحديد يلبس الدرع، ويلبس الخوذة، فقال: يا رسول الله، هذا الرجل هو أصيرم، رجل من الأنصار، وسماه النبي ﷺ زرعة، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله-[10] يقول: يا رسول الله، أقاتل، وأسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل فأسلم، ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله ﷺ: عَمِل قليلاً، وأجر كثيرًا[11] متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
معناه أنه يكون له أجر الشهيد، يرتفع أعلى المنازل، وما صلى فريضة واحدة، وما صام رمضان، وما حج بيت الله، وما أخرج زكاة، ولا فعل شيئًا من هذه الأعمال والأركان والعبادات، أسلم، ثم قاتل وقتل، فهذا عَمِل قليلاً، وأجر كثيرًا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير، برقم (2843)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1895).
- أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، برقم (2155)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6024).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير، برقم (2843)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1895).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الخدمة في سبيل الله، برقم (1627)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3827).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1894).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1896).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1896).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير، برقم (2843)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، برقم (1895).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب السفر، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (971).
- انظر: إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر (13/152).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال، برقم (2808).