الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد: حديث أنس أن النبي ﷺ قال: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة[1] وفي رواية: لما يرى من فضل الشهادة[2]، متفق عليه.
الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دخلها فإنه لا يمكن أن يتمنى مفارقة الجنة، ولو للحظة، فإن ذلك نعيم لا يقادر قدره، ولا يمكن للعقل البشري أن يتصور تلك اللذات التي ذكر الله لنا جملة من أسمائها، وأما حقائقها، وكنهها فذلك لا يخطر على قلب بشر، ومن ثم فمن دخل الجنّة؛ فلا يتمنى الرجوع إلى الدنيا لأي سبب كان إلا لهذا السبب، أن يرجع، فيقتل، ثم يرجع عشر مرات؛ لما يرى من فضل الشهادة.
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين[3]، رواه مسلم، وفي رواية: القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين[4]، وذلك أن الدين حق متعلق بالمخلوق، وحقوق المخلوقين الأصل فيها المشاحة، وحقوق الله -تبارك وتعالى- الأصل فيها المسامحة، ولذلك لا يصل بحال من الأحوال أن يتساهل الإنسان في الدين، ولربما يتحمل الديون من غير ضرورة، والنبي ﷺ لم يصل على رجل عليه ديناران -كما هو معلوم- حتى قال أبو قتادة : هما عليّ يا رسول الله[5].
واليوم قد توسع الناس في ذلك كثيرًا، وذلك بسبب ما تقدمه البنوك، وشبهها للناس من التسهيلات، حتى خف ذلك على كثير منهم، وصار الواحد لربما يقضي العمر بكامله، ولا يستطيع قضاء تلك الديون، وربما كان ذلك في أمور يمكن الاستغناء عنها حتى المسكن، فإن المساكن إذا كان لا يتأتى ذلك على سبيل التملك إلا بالدين؛ فعنده مندوحة أن يستأجر الإنسان، وليس بحاجة إلى أن يتحمل الديون الكبيرة من أجل أن يشتري له مسكنًا.
فعلى كل حال هنا الشهيد مع كل ما يعطيه الله من المزايا إلا أنه لا يغفر له الدين، وهل يلحق بذلك سائر حقوق الآدميين؟ باعتبار أنها ديون أيضا؟
هذا لا يبعد باعتبار أن الأصل في حقوق المخلوقين المشاحة، هذا لا يبعد، ولو قائل: بأنه يغفر له ذلك، يعني ما عدا الدَّين؛ لأنه جاء التنصيص عليه، طيب، وباقي الحقوق؟
باقي الحقوق أن الله يرضي أصحابها بما يعطيهم في الآخرة من الثواب والجزاء، ورفع الدرجات، وما إلى ذلك حتى يرضيهم عنه، هذا يحتمل، لكن ينبغي للإنسان عمومًا أن يحتاط كثيرًا فيما يتصل بالناس، وأن يحفظ لسانه، ويحفظ جوارحه، وأن يتحرز من حقوق الناس في أموالهم أعظم مما يتحرز في ماله، وفي عرض نفسه، وما إلى ذلك مما يحب؛ لأن هؤلاء سيطالبونه بهذه الحقوق.
وجاء من حديث أبي قتادة أن رسول الله ﷺ قام فيهم، فذكر أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله ﷺ: نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله ﷺ: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك[6]، رواه مسلم.
فقول أبي قتادة قام فينا، فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، هذا كما سبق أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع الزيادة، ومضى في روايات سابقة، وأحاديث أخر، أعمال أخرى ذكر النبي ﷺ أنها أفضل الأعمال، كالحج المبرور، وبر الوالدين، فهنا قام رجل، فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله ﷺ: نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر، محتسب، غير مدبر فهذه أربعة شروط، إذا تحققت؛ حصل له ما سبق في الحديث، يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين، قال: إن قتلت في سبيل الله فهذا هو الأول، أن يكون القتل في سبيل الله، لا يكون في نزاع جاهلي، أو تحت راية عمياء، أو أن يكون تحت شعارات لا يمكن للإنسان أن ينضوي تحتها، كالذي يقاتل تحت شعار الحرية زعموا، أو يقاتل تحت شعار الديموقراطية، أو ما أشبه ذلك مما نشاهده، أو يموتون تحت هذه الشعارات، فمثل هذا لا يكون شهيدًا، قال: إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر صابر، يعني لو أنه لم يصبر، بحيث إنه أصبح يتسخط، ويبحث عن المخرج، ويتذمر، ويرى أنه قد تورط بمجيئه في هذا المكان، في الجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك، فهذا لم يصبر؛ فيذهب أجره وجهاده، ومحتسب يحتسب الأجر عند الله -تبارك وتعالى- فهذا هو الثالث، والرابع: مقبل غير مدبر بمعنى أنه إن قتل وهو منهزم؛ فإن أجره يضيع، والله يقول: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ومن السبع الموبقات التولي يوم الزحف[7] فقد يفر، ويدركه سهم، أو يقتله أحد بسيف، أو غير ذلك، وهو مدبر.
ثم سأله النبي ﷺ كيف قلت؟ قال: أريت، وأعاد السؤال، فقال النبي ﷺ: نعم وأعاد الجواب، ثم قال: إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك.
وهذا قد يحتج به على أن النبي ﷺ قد يجتهد، ولكنه مسدد بالوحي، فالوحي يسدده، فإن حصل في الجواب شيء من النقص؛ جاء الوحي بالتسديد، وإن لم يأت الوحي وأقره؛ فإن ذلك يعني أن جوابه ﷺ أنه لا إشكال فيه، ولا زيادة عليه، ولا استدراك على ما قاله -عليه الصلاة والسلام- وهي مسألة معروفة في اجتهاد النبي ﷺ هل يقع منه الاجتهاد، أو لا يقع، والراجح: أنه يقع منه الاجتهاد -عليه الصلاة والسلام- ولكن الوحي يؤيده، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يقال: إن سنة رسول الله ﷺ يتطرق إليها الخطأ في الاجتهاد إطلاقًا، هذا لا يجوز، والله يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى فالوحي إما أن يأتيه ابتداء، وإما أن يأتيه مقررًا بعد ذلك، أو مستدركًا، فكل ما جاءنا عن رسول الله ﷺ نطمئن كل الاطمئنان إلى أنه حق، ويكفي في ذلك أن يثبت عنه ﷺ ولم يعلم له ناسخ.
وعلى كل حال هنا قال: فإن جبريل قال لي ذلك والأمثلة على اجتهاداته ﷺ معروفة مشهورة عند الأصوليين، والفقهاء.
ثم ذكر حديث جابر قال: قال رجل أين أنا يا رسول الله، إن قتلت؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كن في بيده، ثم قاتل حتى قتل[8].
هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا، برقم (2817)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1877).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين، وصفتهن يحار فيها الطرف، شديدة سواد العين، شديدة بياض العين، برقم (2795)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1877).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم (1886).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم (1886).
- أخرجه البخاري، كتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت دينا، فليس له أن يرجع، برقم (2295).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم (1885).
- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، برقم (6857)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1899).