الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجهاد أورد المصنف -رحمه الله- حديث أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع! فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ: الجنّة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد، قال: سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثل به، أو مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ إلى آخر الآية[1]. متفق عليه، وقد مضى الكلام على هذا الحديث في باب المجاهدة.
على كل حال، أَسِف على تخلفه عن غزوة بدر، ومعلوم أن غزوة بدر تخلف عنها كثير من أصحاب النبي ﷺ لأنهم لم يخرجوا لقتال، وإنما خرجوا طلبًا للعير، ولم يعزم النبي ﷺ على أحد، وإنما خرج معه من خف، وسهل خروجه آنذاك، فقال : لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع! يعني كأنه تهيب أن يقول كلامًا آخر لا يستطيع الوفاء به، ولهذا فإن الكثيرين قد يعد عدة لا يستطيع التنجيز معها، والوفاء بها، ومن هنا جاءت كراهة النذر، وأنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، ونحن نسمع كثيرًا عن أناس تصدر منهم تلك النذور، ثم إذا تحقق مطلوبهم بدؤوا يسألون عن كفارة اليمين، وعن المخرج من هذا النذر، وهذا خطأ.
فالشاهد: أنه قال نحو هذا ليرين الله ما أصنع، فلا يحمل الإنسان نفسه على أمور لا يطيقها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن العزم على الصبر غير الصبر[2] فقد يعزم الإنسان، لكنه عند المحك لا يصبر، ولهذا قص الله خبر أولئك من بني إسرائيل الذين قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ لكنهم في النهاية ما صبروا، ولم يثبت منهم إلا القليل، وكثير من الناس يتصور أنه يستطيع، ويطيق، ويفعل ويفعل، فإذا جاء الجد؛ لم يكن من ذلك شيء، فلو أن الإنسان قال مثل هذا؛ لكان خيرًا له، فلما كان يوم أحد حصلت الهزيمة، فاعتذر من انهزام المسلمين، وفرارهم، وتبرأ مما صنع المشركون، ثم تقدم، يعني للقتال، الناس انهزموا، والمشركون سيطوقون به، ويقتلونه؛ لأنه لن يقاتل في صف، ولن يكون هناك حماية له من أجناد المسلمين، وقد أخذ من هذا بعض أهل العلم أن الإنسان يجوز له أن يقدم على صف العدو، ولو تيقن أنه يموت، وهذا صحيح، وإن كان خالف فيه بعض أهل العلم، وقال هذا من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة، والصحيح أن هذا ليس من هذا من القبيل، وأن هذا إنما يفعله طلبًا لمرضاة الله، فليس بعد الشهادة شيء، ولكن هل يستدل بهذا كما يقوله بعضهم بأن العمليات الاستشهادية، أو العمليات الانتحارية أنها جائزة؟ الجواب: لا؛ لأن هذا إنما يقتل بيد العدو، وأما تلك العمليات التي يسمونها بالعمليات الاستشهادية فإنه تكون موتته، ومقتله بيده هو، بيد نفسه، ولو كان في إثخان بالعدو، فإن الإنسان لا يملك نفسه، ولا يجوز له أن يقتلها، أن يقتل نفسه بيده مهما كان السبب، والعذر الذي يعتذر به؛ لأن النفس ملك لله لا يجوز أن يجني عليها جناية، ولو كان ذلك باسم الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- فهذا أمر يفرق فيه بين هذا، وهذا، وجميع الأدلة التي يستدل بها من يقول بجواز تلك العمليات الاستشهادية هي من هذا القبيل، يكون قتله فيها على يد عدوه، فهذا لا يصح الاستدلال به- والله تعالى أعلم- لأنه استدلال بدليل مع الفارق بين هذا، وهذا، والله أعلم.
فالشاهد: أنه لما سأله سعد بن معاذ قال: يا سعد بن معاذ الجنة، ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، أجد ريحها يحتمل أن يكون على الحقيقة، هذا هو الظاهر، أنه كان يجد ريح الجنة حقيقة، فيكون ذلك على سبيل الكرامة، مع أنه ما دخل الجنة، ولا استشهد، ويحتمل أن يكون قال ذلك استشعارًا بقربها، وأن دخوله الجنّة لم يكن بعيدًا، وإنما ذلك يكون بقتل المشركين له، يقول سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، يعني أقدم إقدامًا عظيمًا على هؤلاء الكفار، لا يقدم عليه إلا الشجعان، يعني الناس انهزموا، وبقي الكفار في حال من النشوة، والانتفاشة، والزهو بسبب النصر، وهم يتربصون بكل شاردة وواردة، فيأتي، ويقتحم واحد في هؤلاء المشركين.
يقول أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة، البضع من الثلاث إلى التسع، بضعًا وثمانين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثّل به المشركون، يتشفون كما هي عادة الكفار، فإنهم لشدة حنقهم، وبغضهم لأهل الإسلام، لا يكفيهم أن يقتلوهم، أو أن يحاربوهم، وإنما يتشفون بما هو أبعد من ذلك مما تنبو عنه الطباع السليمة، فيمثلون بهم، لاحظ مع أن هؤلاء منهم من كان من أبناء العم والقرابة، فذلك يدل على أن الرابطة الحقيقية هي رابطة الإيمان والدين، وليست رابطة الأرض أو العرق والنسب، وما إلى ذلك من الشعارات.
يقول: فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، مشوه جدعوا أنفه، وفقؤوا عينيه، ومثلوا به، قطعوا آذانه بحيث أنه لا يعرف كله دماء، وممزق وأشلاء، فما عرفه إلا أخته ببنانه، يعني المعالم تغيرت تمامًا، ولك أن تتصور، وأن تسرح الذهن في هذا، أخته عرفته ببنانه، البنان هو الأصبع، أو طرف الأصبع، بعضهم يقول: الأصبع، وبعضهم يقول: طرفه.
يقول أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ كنا نرى أو نظن أنها نزلت فيه، فهذا لا يعني أن هذا هو سبب النزول، وإنما أن ذلك مما يدخل في معناها، وأنها تصدق على هؤلاء، ففرق بين سبب النزول الصريح، وبين ما كان من قبيل التفسير.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ هو قال: لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، عاهد الله على هذا، فصدق بذلك، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قضاء النحب، كلمة النحب تأتي لمعانٍ متعددة: الموت، والموت السريع، وتأتي لقضاء النذر، وتأتي بمعاني مقاربة لهذا، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد بذلك مات على الصدق والوفاء، نكون جمعنا بين معنيين مما ذكره السلف من معانيها قَضَى نَحْبَهُ أي مات على الصدق والوفاء وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني ينتظر، يعني لا زال على عمل صالح، وصراط مستقيم، وجادة صحيحة وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ما غيروا، ما حصل منهم تغيير، سواء كان ذلك بسبب الأمور العظام التي تنزل بهم من نزول الكفار بساحتهم، وما ينتابهم من المخاوف، أو كان ذلك بسبب طلوع العهد، وكثير من الناس لا يصبر، وهذا نوع نفاق، ولهذا لما ذكر الله خبر المنافقين في غزوة الخندق، ماذا قالوا لما رأوا الكفار؟
قالوا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وبدأت تظهر مخبآت النفوس، وبدؤوا يتكلمون بكلام لا يليق، وذاك يقول: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وما إلى ذلك من المقالات التي تنبئ عن نفاقهم، فتبدأ النفوس تتلون، ويبدأ كثير منها يتراجع، وتصدر أفعال وأقوال من أناس لربما ما كانوا يتفوهون بها، هكذا إذا طال العهد على الناس، أو نزلت الفتن بساحتهم، ونحن نشاهد من ذلك اليوم كثيرًا، فتجد هذا الرجل يتحول إلى شيء آخر، ويتقلب الناس في الفتن ظهرًا لبطن، ويحصل منهم التبديل والتغيير، وقد جاء عن حذيفة من الفتنة أن تنكر ما كنت تعرف، وأن تعرف ما كنت تنكر[3]، ولو أنك نظرت في حال بعضهم، وسمعت كلامه السابق قبل سنين، وما كان يقرره ويكتبه، أو يقوله ويلقيه، وجمعته وقارنته بما صار يقوله بعد الفتنة؛ لرأيت حالا أخرى، ومخلوقًا آخر تمامًا، قد انسلخ من جلده السابق، فهذا مفتون، ولذلك يقال: بأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ومن كان مستنًا فليستن بمن قد مات[4]، فلا داعي للمبالغة إذا أحببنا شخصًا أن نرفعه في السماء، ثم بعد ذلك يفتن ويبتلى ونفتن معه، أو لربما تحولنا بدلاً من كيل المدائح والثناء والإطراء والمبالغة في ذلك إلى التحذير والبيان لهذه الانحرافات التي ابتلانا بها، فأنا أقول: الاعتدال في الأمور، فندعو لإخواننا بالثبات، ولا نأمن عليهم الفتنة.
فعلى كل حال لعل هذا يكفي في هذه الليلة، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، برقم (2805).
- راجع مجموع الفتاوى، (8/76)، والزهد، والورع، والعبادة، (191)، والمستدرك على مجموع الفتاوى، (1/150).
- أخرجه البوصيرى في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، برقم (3008) قال ابن حجر: وسنده ضعيف، لعنعنة هُشيم. انظر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر (13/ 680).
- أخرجه الأصبهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، برقم (1/305) وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (193).