الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما جاء عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا غزا قال: اللهم أنت عضدي، ونصيري، وبك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل[1] رواه أبو دواد، والترمذي، وقال حديث حسن.
كان رسول الله ﷺ إذا غزا قال، هذه الصيغة تدل على أن ذلك كان من عادته ﷺ وأن ذلك أمر ملازم له، وهو يدل أيضًا على شدة ارتباط النبي ﷺ بربه، وبعده عن الاتكال على قوته، أو من معه من الأعوان والأنصار والجنود أو السلاح، وما إلى ذلك، هذا من جهة ملازمة الدعاء وإظهار الافتقار إلى الله -تبارك وتعالى- في مثل هذه المقامات وغيرها.
إضافة إلى ما جاء في مضامين هذا الدعاء حيث يخرج بذلك عن حوله وقوته، فلا يكون له أدنى التفات إلى النفس، فيقول: اللهم أنت عضدي يعني بك أتقوى، يعني أنت نصيري فالعضد هو الناصر ونصيري فيكون ذلك من قبيل عطف التفسير بك أحول، وبك أصول بك أحول يعني أني لا أتحول من حال إلى حال إلا بك وبك أصول صال على العدو بمعنى وثب عليه وبك أصول يعني أقدم على الأعداء، وأثب عليهم، وبك أقاتل، فهذا خروج من الحول، والطول والقوة، والقدرة إلى الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى- والانطراح بين يديه، وإظهار الافتقار له وحده .
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن دائمًا، أن يظهر فقره، وحاجته إلى الله، لاسيما في هذه المقامات التي يحصل فيها للنفوس حضور، والناس في مقام الحرب، يحصل فيهم ما لا يخفى من الحمية، ويبرز لون من صفات النفوس التي لربما تأخذ صورًا من التحدي، ونحو ذلك، أو إظهار الجبروت والقوة، أو العجب بما عند الإنسان، وما يملك، فهذه عادة الناس عند المواجهة، وملاقاة الأعداء، النبي ﷺ كان بهذه المثابة، ولهذا ينبغي للإنسان في مثل هذه المقامات أن يظهر فقره إلى الله -تبارك وتعالى- سواء كان فردًا أو أمة، فأولئك الذين يقهرون، ويقتلون، ويظلمون هنا، وهناك من قبل من لا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة في مثل هذه الأيام -كما نشاهد- مما يحصل لإخواننا في ليبيا، وفي سوريا، ينبغي أن يكون هؤلاء أن يظهروا فقرهم إلى الله -تبارك وتعالى- وأن ينخلعوا من كل لون من ألوان إظهار العجب أو القوة، أو الالتفات إلى النفس، أو الالتفات إلى الأنصار ممن معهم، أو من غيرهم، وإنما يكون لجوؤهم إلى الله .
وهكذا الإنسان في كل أحواله في غير القتال أيضًا لا يعتمد على ذكائه، رأيتم كيف قال قارون إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فلما قال ذلك حصل له ما حصل فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ.
فالإنسان قد يكون له نوع ظهور في بعض الأوقات، فيهتف له بعض من خف علمه، وقل حظه، ونصيبه من معرفة الحقائق قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ بينما قال: الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ.
فالشاهد: أن الإنسان ينبغي ألا يغتر بما عنده من ذكاء، أو معطيات، أو مصادر دخل من مصانع أو متاجر، أو غير ذلك، وإنما يظهر فقره إلى الله -تبارك وتعالى- يقول: ما مني شيء، ولا لي شيء أيًا كان موقعه، والاستطالة هذه تحصل أحيانًا حتى لبعض من ينتسب إلى الدين أو الدعوة أو العلم، وما إلى ذلك إذا احتاج إليه الناس، فقد يحصل له نوع استطالة، وشيء من العلو والنظر إلى النفس، وما شابه، فينبغي للإنسان أن يكون مظهرًا لفقره وحاجته، وأنه ما منه شيء كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2] وهذا قدوتنا ﷺ انظروا إلى حاله، وهو أشرف الخلق.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة[3] متفق عليه.
كما ذكرت لكم من قبل بأن هذه الأحاديث الكثيرة في هذا الباب هي على أنواع، فيوردها المصنف -رحمه الله- سردًا متتابعة، وبعض هذا الأحاديث تتعلق بموضوع، وبعضها يتعلق بموضوع آخر، فلما فرغ مما يتعلق باللجوء إلى الله -تبارك وتعالى- والدعاء في هذا المقام؛ تحول إلى قضية تتعلق بالجهاد، وهي آلته العظمى، وهي الخيل، فقال النبي ﷺ: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الخيل معروفة، وقيل لها: الخيل: لاختيالها، لها نوع اختيال في مشيتها وحركاتها وذهابها ومجيئها، وهذا أمر مشاهد.
الخيل معقود في نواصيها الخير معقود في نواصيها يعني أنه مرتبط، والناصية معروفة، ما يكون في المقدم من قصص الشعر، فهذه هي الناصية، ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك على ظاهره، فهي أعلى شيء في الخيل، وذلك مقدمها، وهو الذي يكون في مواجهة العدو مباشرة، وعندئذ يكون الإقدام، والكر على العدو، والهجوم عليه، والإيجاف، ومن أهل العلم من يقول: عبر بالناصية، والمقصود الخيل بكاملها، كما يقال: فلان من النواصي الطيبة، فلان ناصية خير، وما أشبه ذلك، فيعبرون بالناصية، ويراد به كل الإنسان، وهذا استعمال معروف عند العرب، وبعضهم يسميه بالمجاز، عبر بالبعض، وأريد به الكل، والأمر يحتمل، لكن من أهل العلم من قال: إن ذلك في مقدمها؛ لأنه يكون به الإغارة والهجوم والانطلاق، وهو أعلى شيء فيها معقود في نواصيها الخير ففي إقدامها، وليس في مؤخرها، فتلك أدبارها.
قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة هذا نص صريح في أن ذلك يبقى مهما تنوعت الآلات في الحرب، وتطورت، فإن مرجع الناس إلى هذا، مرجعهم إلى هذا، ولذلك الأحاديث التي ذكرها النبي ﷺ في آخر الزمان مما يتصل بالمهدي والدجال، وفتح القسطنطينية الفتح الموعود به، كل هذا يدل على أن الناس يرجعون إلى السيوف، وآلة الحرب القديمة، والخيول، وما شابه.
فهنا هذا باق، يعني لم ينته ذلك الوصف حيث حينما ظهرت هذه الآلات الحربية الحديثة الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ولهذا من ارتبطها احتسابًا للأجر؛ فإنه يؤجر على ذلك، فلا تضيع الفروسية، ولا تترك، وفيها من الفوائد: الإقدام والقوة والشجاعة ونبذ الخوف والمخاوف التي تكون في النفوس، وكنت أعجب من إقبال بعض من لا خلاق لهم في مثل هذه السنوات على ركوب الخيل بكثرة، وتتبعت هذا، وسألته عنهم، مع أنهم ليسوا بأهل فروسية، هم أبعد الناس عن الفروسية، فقال بعض العارفين بهم: إن هؤلاء يفعلونه ليطرحوا الخوف عن نفوسهم، هم عرفوا أنهم جبناء، وأهل خوف وخور، فيطرحون الخوف عن نفوسهم من أجل أن يكون لهم إقدام، علهم يجدون فرصة كما يحاولون في مثل هذه الأيام، فيثب على أهل الإسلام، فنسأل الله أن يكبتهم، ويعز دينه، وينصر سنة نبيه ﷺ وعباده المؤمنين.
يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة
نسيت الحديث الذي قبله، وهو حديث أبي موسى أن النبي ﷺ كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم[4] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
كان إذا خاف قومًا، يعني في الحرب، وفي غير الحرب، فهذا يستعمله المؤمن حال الخوف، حينما يخاف اللصوص، يخاف قطاع الطرق، يخاف أناس رأى ريبة في تصرفاتهم، فيقول اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم إذا جعله في نحره، فمعنى ذلك أن يرد كيده، ونحر الإنسان معروف، فهذا هو النحر، وهو هذا المكان المنهبط، المنسفل، الثغرة التي تكون في أسفل الرقبة، هذا هو النحر، فيجعله في نحورهم، بمعنى أن ذلك يكون في مقاتلهم، ونعوذ بك من شرورهم، فالله يدفعهم، والنبي ﷺ أيضًا يلتجئ به، ويستعيذ به من شر هؤلاء، فيكفيه المخاوف.
ثم ذكر حديثا آخر في الخيل، وهو حديث عروة البارقي أن النبي ﷺ قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ثم فسر ذلك قال: الأجر، والمغنم[5] فذاك الحديث مبهم، أعني قوله ﷺ: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وهذا مفسر قال: الأجر، والمغنم يؤجر الإنسان على تربيتها إن كان يريد بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى- ونصرة الدين، قال: والمغنم بحيث إنه يكون له -كما هو معلوم- سهمان للفرس، سهم ولصاحبه سهم آخر، بخلاف من ركب جملاً، أو بغلاً، أو كان على قدميه، أو نحو ذلك، أو ركب فيلاً، فإنه لا يكون له إلا سهم واحد.
وقوله ﷺ: الخيل معقود في نواصيها الخير من أهل العلم من خصصه، أو قيده بالخيل التي ترتبط في سبيل الله -تبارك وتعالى- قال هذه خاصة، هي التي معقود في نواصيها الخير، وبعضهم قال: ذلك في جنسها، فذلك وصفها، ولكنه قد يعرض لنيته أمر يلحقه بسبب ذلك الوزر، وإلا فهي سلاح ضارب، وقوة فتاكة، وهذا أمر معلوم.
والمقصود طبعًا الخيل إذا كانت معدة، ومهيأة، لأن الخيل تحتاج إلى تعليم وتدريب، ونحو ذلك، وإلا فإنها قد تكون عبئًا على صاحبها؛ إن لم تكن مدربة، فقد تجري مسافة يسيرة، ثم بعد ذلك تخور قواها وتضعف، فيعاني صاحبها معها أكثر من معاناته لو ذهب على قدمه -كما هو معلوم- ولذلك فإن العرب كانوا يعتنون بها كما يعتنون بأولادهم، ولا يكلون القيام بها وتأديبها إلى خادم أو أحد من الناس، وإنما كانوا يسوسونها بأنفسهم، ويضمرونها، ويدربونها، ويعلفونها، ولا يستنكفون من ذلك، بل يرون أن ذلك من الأمور التي يحصل بها الفخر، وهي من الكمالات، ولهذا عروة البارقي كان أيضًا من أهل الفروسية، وقد ارتبط أفراسًا في سبيل الله -تبارك وتعالى- وإذا كانت بهذه المثابة، لاسيما إذا كانت ذات سلالة جيدة معروفة، مثل الخيل العربية الأصيلة؛ فإنها في الحرب -كما هو معلوم- تقوم بأدوار قوية جدًا، يمكن أن تقلب ميزان المعركة، فهي سريعة، وأجسامها قابلة لذلك تمامًا، وحينما يقاتل صاحبها عليها بحركة يسيرة جدًا؛ تفهم، ذكية، فهي تنزل فيطير السيف في الهواء سيف المقابل، فيطير في الهواء، فيستطيع راكبها أن يضربه بسيفه، ثم يستطيع أن ينطلق بها أمامه، كأنه يفر، ثم بلمح البصر ترجع، وتقابله بوجهه، فيستقبله بالرمح، فلها من فنون القتال، والقدرات القتالية بالتدريب شيء هائل يعرفه أهل الفروسية.
فعلى كل حال يوضح ذلك حديث أبي هريرة، أختم به، وهو قوله ﷺ: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده؛ فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة[6].
فهذه إما أن ترتبط لهذا الغرض فهذا الذي يؤجر، أو يكون ذلك على سبيل التجارة، أو القيام بحاجاته الدنيوية، فهذا مباح، وأما من فعل ذلك فخرًا وتيهًا وزهوًا وتعاظمًا؛ فإنها تكون للشيطان، وتكون عليه وزرا، كيف لو أنه ارتبطها للنكاية بأهل الإيمان وحربهم، فذلك أعظم، ويصدق عليه قول الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.
فهذا شأن أعداء الله -تبارك وتعالى- على مر الأزمان، وإلا لانمحت آثار الدين بالكلية؛ بسبب كثرة ما ينفقونه، ويبذلونه، مما لا يقارن بما يبذله غيرهم من المنتسبين للإسلام، ومع ذلك يذهب أدراج الرياح، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، برقم (2632)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (2440).
- انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى، (1/143).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، برقم (2850)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، برقم (1873).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا خاف قوما، برقم (1537)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4745).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد ماض مع البر والفاجر، برقم (2852)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، برقم (1873).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من احتبس فرسا " في سبيل الله، برقم (2853).