الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد حديث أبي موسى أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، وفي رواية: يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، وفي رواية: ويقاتل غضبًا فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [1] متفق عليه.
قوله: بأن أعرابيًا أتى النبي ﷺ الأعرابي هو من سكن البادية، وهذه الكلمة لا تكافئ لفظة عربي، وإنما الأعراب هم أهل البادية، وهذا الأعرابي جاء تسميته في بعض الروايات أنه لاحق الباهلي، أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم....... كان أصحاب النبي ﷺ يتهيبونه، ويتحفظون كثيرًا من الإكثار عليه بالسؤال، ويفرحون إذا قدم الأعرابي ليسأله.
فهذا أعرابي سأل النبي ﷺ فقال: الرجل يقاتل للمغنم، يعني خرج ليحصل غنيمة، يعني لعرض دنيوي مادي، والرجل يقاتل ليذكر، يعني ليذكر من أجل السمعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، يرى مكانه يعني يعرف أنه شارك في المعركة، وأنه إيجابي، وأنه شجاع، وأنه يذود عن الحمى، وما أشبه ذلك، فلا يعير بعد ذلك أنه متخلف، أو أنه مع النساء، أو نحو ذلك، فتعرف له منزلته، ومكانته، وقدره.
وفي رواية: يقاتل شجاعة، يقاتل شجاعة يعني أنه جُبل على هذا، فيحمله هذا الطبع والخلق الذي جبل عليه على الإقدام، فإذا رأى مجالاً للقتال قاتل من غير قصد ما عند الله -تبارك وتعالى- ويقاتل حمية، الحمية هو أن يقاتل غضبًا لقومه، وانتصارًا لهم، لقبيلته، لعشيرته.
وفي رواية، ويقاتل غضبًا، يعني قد يستفز، فيقدم على القتال، والطبيعة الغضبية، النفس الغضبية تحرك الجوارح نحو القتال، ولذلك يجري الدم في أطراف الإنسان، وعروقه بقوة، فيكون فيه خفة للإقدام، ونزعة للانتقام، قال: فمن سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [2] متفق عليه.
النبي ﷺ أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا، فبين النبي ﷺ بهذه الجملة من يكون قتاله في سبيل الله، فأخرج ذلك سائر المقاصد، والدوافع غير المشروعة، وإنما يكون قصده منحصرًا في الانتصار لله -تبارك وتعالى- ولرسوله ولدين الإسلام من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا يريد أن يرفع من نفسه بهذا القتال، أو يحصل عرضًا من الدنيا، أو يكون ذلك ليرفع قومه، أو قبيلته، أو نحو ذلك، وهذا أمر لا يطلع عليه إلا الله -تبارك وتعالى- من الذي يعلم أن هذا يقاتل لإعلاء كلمة الله، أو يقاتل لغرض آخر من هذه الأغراض، أو غيرها لا أحد يعلم بذلك، ولهذا لا يمكن الحكم على أحد ممن يقاتل، أو ممن قتل بأنه شهيد إلا لمن شهد له الله -تبارك وتعالى- وشهد له رسوله ﷺ لأن الله وحده هو الأعلم بمن يقاتل في سبيله، ولهذا أنكر عمر على أولئك الذين سمعهم يقولون: فلان شهيد، فلان شهيد، قال: تقولون لقتلاكم فلان شهيد، فلان شهيد، الله أعلم من يقاتل في سبيله[3]، ولهذا نجد في مثل صحيح البخاري يبوبون بمثل هذا الباب: باب هل يقال فلان شهيد، ثم تذكر الأحاديث في الباب.
وذكر بعد ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: ما من غازية، أو سرية تغزو، فتغنم، وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية، أو سرية تخفق، وتصاب إلا تم أجورهم[4] رواه مسلم.
ما من غازية يعني طائفة غازية، أو سرية تغزو، والسرية عرفنا أنها قطعة من الجيش، وهي غالبًا تكون من خلاصته، وقيل سميت سرية لأنها تسير في الليل خفية، وقيل غير ذلك فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم الغنيمة هنا اعتبرت بأنها تعجل لثلثي الأجر وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب تخفق بمعنى أنها لم تحقق مطلوبًا، ولم يحصل على يدها نجاح وانتصار وغنيمة، قال: تخفق أو تصاب إلا تم أجورهم تصاب بمعنى أنه يحصل فيهم قتل، وهزيمة، أو نحو ذلك.
ثم ذكر حديث أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال النبي ﷺ: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله [5] رواه أبو داود بإسناد جيد.
قال: ائذن لي في السياحة السياحة يسيح في الأرض، فيفارق الوطن والأهل والعشيرة، ويسير في الأرض ينفرد، ويتعبد لله -تبارك وتعالى- فيفارق كثيرًا من اللذات والمباحات، وما إلى ذلك، وينقطع للعبادة، وهذا أمر لا يوجد في هذه الشريعة، فذلك من شأن الرهبان ممن كان قبلنا، وعثمان بن مظعون لما استأذن النبي ﷺ بالانقطاع للعبادة، والانفراد، ونحو ذلك لم يقره النبي ﷺ على هذا[6].
الشاهد هنا: قال: ائذن لي في السياحة، من ساح الماء، فهذا يسيح في الأرض، يذهب فيها، فقال النبي ﷺ: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله [7] وقد فسر أيضًا بهذا المعنى قوله -تبارك وتعالى-: السَّائِحُونَ وقيل: هم المجاهدون، وقيل غير ذلك، ثم على كل حال ذكر أحاديث أخرى لعلي أختم هذا الباب -إن شاء الله تعالى- في الغد، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل، وهو قائم، عالما جالسا، برقم (123)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل، وهو قائم، عالما جالسا، برقم (123)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (3349)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4601).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، برقم (1906).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في النهي عن السياحة، برقم (2486)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (724).
- أخرجه الدارمي في سننه، باب في النهي عن التبتل، برقم (2215)، وقال محققه: إسناده صحيح.
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في النهي عن السياحة، برقم (2486)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (724).