الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وحسن القضاء والتقاضي، وإرجاح المكيال والميزان، والنهي عن التطفيف، وفضل إنظار الموسر المعسر والوضع عنه"، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة ، أن رجلاً أتى النبي ﷺ يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله ﷺ: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، ثم قال: أعطوه سنًا مثل سنه، قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أمثل من سنه قال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء[1]، متفق عليه.
أن رجلاً أتى النبي ﷺ يتقاضاه في بعض الروايات: أن هذا أعرابي جاء يتقاضى النبي ﷺ بمعنى أنه يطلب منه حقه، يطلب من النبي ﷺ حقه، وكان النبي ﷺ قد استلف منه بعيرًا، أو جملاً، وجاء يطلب حقه ليستوفي لكنه جاء بطريقة غير مهذبة، وغير لائقة، "فأغلظ له"، أغلظ للنبي ﷺ لم يتأدب معه الأدب اللائق، والله -تبارك وتعالى- أمر المؤمنين أن يتأدبوا مع رسول الله ﷺ قال: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، وقال: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:2-3]، فليس لأحد أن يرفع صوته فوق صوت رسول الله ﷺ ولا أن يدعوه على أحد المعنيين كدعاء بعضكم بعضًا، يعني كأن يقول: يا محمد، ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا، فهذا الرجل لم يتأدب هذا الأدب اللائق وأغلظ على النبي ﷺ؛ ولكن لكمال حلمه ﷺ ورحمته وشفقته نهى أصحابه أن يعاقبوه، فهم به أصحابه: أصحاب النبي ﷺ هموا به، فالنبي ﷺ نهاهم عن ذلك، وقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، يعني: أن موقفه يجعل من شأنه أن يتكلم وأن يطالب وأن يقف عند حقه لكن هذا من كمال أدب النبي ﷺ وإلا ليس لهذا الرجل أن يسيء الأدب مع رسول الله ﷺ، لكن النبي ﷺ يقول: هذا رجل جاء يطلب حقه.
ثم قال: أعطوه سنًا مثل سنه، النبي ﷺ استلف منه بكرًا فما وجدوا بهذا السن، قالوا ما وجدنا إلا رباعية أكبر منه، فقال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء، فمع إساءته إلا أن النبي ﷺ أعطاه أكثر من حقه، وهذا لا إشكال فيه في الدين إن لم يكن اشتراط، فلو أن إنسانًا مثلاً اقترض من إنسان ألفًا، فلما جاء وقت الوفاء قال: أنا أشكرك، وأنت أقرضتني، وكنت محتاجًا فخذ هذا الألف، وخذ ألفًا معه أيضًا، هذا يجوز وإلا ما يجوز عند القضاء؟
يجوز لا إشكال فيه، لكن لو قال له: هذا ألف بألف ومائة مثلاً، أو بألفين فهذا لا يجوز هذا عين الربا، هذا هو الفرق، لكن إن لم يكن اشتراط وأراد الإنسان أن يجازيه وأن يحسن إليه، فقال له: هذا القرض الذي أقرضتني هذه المائة ألف وتفضل هذه ساعة ثمينة هذه هدية لك أيضًا هذا لا إشكال فيه.
وذكر حديث جابر ، أن رسول الله ﷺ قال: رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى[2]، رواه البخاري.
رحم الله رجلاً سمحًا هذا يحتمل أن يكون من قبيل الخبر، النبي ﷺ يخبر عن رجل كان كذلك فرحمه الله -تبارك وتعالى- هذا احتمال، رحم الله رجلاً يعني كان من صفته كذا وكذا فكانت رحمة الله جزاء له، خبر عن شخص معين رحمه الله بسبب سماحته.
والاحتمال الآخر: أن ذلك على سبيل الدعاء، وهذا هو الأقرب رحم الله رجلاً، فإن ذلك يأتي بصيغة الخبر كما تقول زيد رحمه الله هل يقال: هذا صيغة خبرية، قد يقول بعض الناس: وما أدراك أن الله رحمه حتى تخبر عن هذا؛ نقول هذه صيغة خبرية معناها الدعاء والطلب، يعني نسأل الله له الرحمة.
فهنا قال: رحم الله رجلاً، والمرأة كذلك أيضًا مع أن لفظة الرجل لا يدخل فيها المرأة هناك ألفاظ يدخل فيها النساء فإذا قال الله : وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا [غافر:40]، رجل أو امرأة ولكن لفظة الرجال لا يدخل فيها النساء، ولفظة القوم لا يدخل فيها النساء، تطلق على الرجال إلا على سبيل التبع، لكنه يفهم من الأدلة الأخرى أن النساء داخلات أحيانًا؛ لأن النساء شقائق الرجال، ففي قضايا الجزاء والثواب النساء سواء مع الرجال، يعني ما في عمل من الأعمال مثلاً المرأة نصف الرجل إذا عملت هذا العمل بالأجر أو أقل من الرجل لا مثله تمامًا في الجزاء، فالمرأة تستوي مع الرجل في جنس الإنسانية هي إنسان مثله خلاف ما كان يعتقدونه في أوروبا قرونًا متطاولة، ويعقدون عليه اجتماعات وملتقيات ومؤتمرات يناقشون هل المرأة من جنس البشر أو لا؟!
وهل لها روح أو ليست لها روح؟!
هذا في أوروبا، فالإسلام منذ البداية المرأة مستوية مع الرجل في جنس الإنسانية، وهي أيضًا تستوي معه في الجزاء، وإن كان هناك تفاوت في قضايا التكاليف في بعض الأحكام، وما إلى ذلك.
فالشاهد هنا: رحم الله رجلاً، يدخل فيه المرأة؛ لأن النساء شقائق الرجال.
سمحًا إذا باع وإذا اشترى، المسامحة والسماحة تعني المساهلة يعني سهلاً في بيعه وشرائه وتعامله إذا باع وإذا اشترى، بعض الناس قد يكون سهلاً في البيع لكنه غير سهل في الشراء واضح؟ وبعض الناس قد يكون سهلاً في الشراء لكنه غير سهل في البيع مثلاً.
وبعضهم يكون صعبًا في البيع والشراء، ومن الناس من إذا عاملته بعت أو اشتريت معه تتمنى أنك ما عملته؛ لما ترى من العنت عنت شديد، وأسلوب غير لائق، وكأن الناس يريدون أن يأخذوا ما بيده، وكأنه يتخونهم، أو يخونهم؛ فيتصرف بتصرفات أحيانًا ترى من خلالها أخلاقًا غير مهذبة، وتربية ناقصة، وسألت مرة أحد مدراء فروع أحد البنوك لما جاء ذكر العنت والعناء الذي يلقاه الإنسان أحيانًا من بعض من يتعامل معهم في الدينار والدرهم صعوبة وشراسة، فقلت: من أكثر من تلقون منه العنت فذكر صنفين من الناس، قال: هؤلاء أصعب الناس، وأشد الناس، صنفين من الناس يعني من أصحاب التعاملات أصحاب التجارات قال: هؤلاء نلقى منهم عنتًا كثيرًا إذا جاؤوا لازم مشاكل معهم، صعبين جدًا، صعب، ولا يثق بأحد، ويشعر أن كل أحد يريد أن يأخذ حقه، وأن يستلم ما بيده، وأن الأصل في الناس الكذب، وطريقة التعامل فظة، والكلام فيه قسوة ورعونة وشدة، كل هذا ما له حاجة، وهذا يكون غالبًا مع نقص التربية، يكون بسبب الجشع، والحرص المتناهي على هذه الدنيا الفانية، على الدينار والدرهم، والله المستعان.
قوله: وإذا اقتضى يعني إذا اقتضى إذا جاء يطلب حقه أحيان يطالب بأسلوب غير مهذب، أنت تستطيع أن توصل الفكرة، تستطيع أن توصل للطرف الآخر ما في نفسك، أنك تريد أن يوفيك، أن الأجل قد حل، فيمكن أن يصل هذا بعبارة لبقة، بأسلوب مهذب، والدنيا جيفة كلب، -أعزكم الله-، الذي يسترسل مع النفس فيها لا بدّ أن يهبط ويتلوث ويتلطخ ويدخل مع الآخرين في مهاترات وأمور ومغاضبات على أشياء تافهة أحيانًا، على هذا الحطام الفاني، ولو أنه نظر بعين البصيرة، وتعقل فيما يصدر منه والكلام الذي يقوله، ونحو ذلك لربما يستحي ويعرق جبينه من هذه المزاولات والتصرفات التي صدرت منه في تلك المعاملة مع زيد من الناس، لكن من الناس من لا يبصر العيوب، بل لربما يرى أن هذه المعايب عند العقلاء، ونحو ذلك يرى أنها من الكمالات لا يضيع حقه وأن حقه لا يأتي إلا بهذه الطريقة والأسلوب، وأنه ينبغي أن يأخذه بقوة، وبكل إصرار وصلف؛ من أجل أن الناس لا ينظرون باعتبار أنه ضعيف أو جدار قصير يمكن أن يتسلق أو يتسور فيؤخذ وينتهب حقه، هكذا يبدو لبعض الناس، ولكن هذا الصنف من الناس لا شك أن الآخرين ينفرون منه غاية النفور، ومن تعامل معه مرة فإنه لا يمكن أن يتعامل معه مرة أخرى؛ لأنه رأى مثل هذه الرعونات.
ثم ذكر حديث أبي قتادة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه[3].
الكُرب جمع كربة وهي الشدة التي تؤخذ بالنفس شدة عظيمة أحيانًا الإنسان تقع عليه مصيبة عظيمة جدًا يشعر أن صدره ينضغط وأنه لا يستطيع أن يتنفس من شدة الصدمة والمصيبة التي حلت به، والحزن الذي ملأ قلبه فلم يعد له مجال للتنفس، فهذه هي الكُرب أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فيوم القيامة فيه كرب كيف تفرج؟
تفرج بالتفريج عن الناس، من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فرج عن الآخرين الكرب يفرج الله عنك هذه الفرج قد يكون أمرها بيدك أنت الذي تطالب هذا الإنسان، وقد يكون عند غيرك فتدخل وسيطًا وتحل المشكلة، وقد تكون مشكلة بين امرأة وزوجها ويطلبون منك الإصلاح، أو نحو هذا.
وقد يكون مشكلة مع قريبة مع طرف آخر فيكون في كربة فهنا قال: فلينفس عن معسر أو يضع عنه، ينفس عنه يعطيه نفس يعينه، يعطيه مهلة، الدين حل والآن هذا الإنسان ما عنده شيء، فماذا يصنع؟
نقول له: نفس عنه؛ كما قال الله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، نظرة يعني فإنظار إلى ميسرة قال: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، أن تصدقوا يدخل فيه التصدق بالمال كله، كأن يقول: أعفيتك، ويدخل فيه أيضًا التصدق ببعضه، كأن يقول: أنا أضع عنك النصف، أنا أضع عنك الثلث، أضع عنك الربع، أضع عنك عشرة بالمائة، أو نحو ذلك.
فهذا كله من التصدق قال: أو يضع عنه فدل ذلك على أن تفريج أو أن التنجية من كرب يوم القيامة يحصل بهذين وبغيرهما مما دلت عليه النصوص، فهنا ذكر أمرين: إما التنفيس؛ لا يضع عنه لكن يقول له: خلاص بدل هذا الشهر الشهر الجاي، أنت تؤجر شقق هؤلاء الناس مساكين عندهم ظروف أو فقراء أرملة أعطونا الإيجار، هذا نهاية المدة قالت: والله الآن ما عندنا شيء أمهلنا بس شهر أمهلنا شهرين أمهلنا عشرة أيام، بعض الناس يقول: لا، الآن أو تطلعون، هو ولربما كان الجندي معه؛ لأنه متوقع أنهم سيردون بهذا الرد، ويقول: يالله ما قلت لك أنهم ما يدفعون أعرفهم ويبدأ بكلام لا يليق، ولا يرحم ضعفهم ومسكنتهم وعجزهم، كان أحد السلف لا يكري بيتًا، لا يكري شيئا، لا يؤجر شيئا، فلما سئل عن هذا؟ قال: "لئلا أروعهم إذا دار الحول"[4]، يعني من أجل إذا أتيت آخذ الإيجار لا أريد أن يقع في نفوسهم شيء قد لا يكون عندهم، فيحصل عندهم شيء من الخوف، أو نحو ذلك، إلى هذا الحد، بينما تجد أحيانًا الإنسان كأن قلبه قطع من حجر، وماذا عسى أن تغني عنه لربما يملك عقارات كثيرة جدًا، ومؤجر هذه الغرفة لأرملة بثمانية آلاف، وكأن قوته بهذه الثمانية، وهي تتوسل أيام أمهلني، أين أذهب؟! فمثل هذا يكون بالتنفيس، ويكون أيضًا بالوضع عنه، كأن يقول: أنا لا أريد هذا الإيجار، أو يقول: هاتي نصفه وخلاص كفاية، أو تقول: أنا ما عندي إلا أربعة آلاف، الآن هاتها ويكفي، فهذا يفرج عنه كرب يوم القيامة.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون، برقم (2306)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه، وخيركم أحسنكم قضاء، برقم (1601).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف، برقم (2076).
- أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر، برقم (1563).
- انظر: صفة الصفوة (2/184).