الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي باب فضل العلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله ﷺ: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين[1]، متفق عليه.
من يرد الله به خيرًا هنا هذا الخير جاء منكرًا، وهذا التنكير يشعر بالتعظيم، ثم إن هذا اللفظ أعني النكرة جاءت في سياق الشرط، ومعلوم أن النكرة في سياق الشرط من صيغ العموم من يرد الله به خيرًا فذلك يحمل على الخير في الدنيا والخير في الآخرة؛ من يرد الله به خيرًا في الدنيا يفقهه في الدين فيحصل له بذلك انفتاح البصيرة، ويحصل له بذلك أيضًا مزايلة مساخط الله -تبارك وتعالى- لأنه عرفها، وكثير من الناس قد يقع في أعمال ومعاملات محرمة، وهو يجهل ذلك.
وكذلك أيضًا يميز بين الأعمال فيعرف الحق من الباطل، وفي مواطن الشبه، ويعرف المخرج من الفتن، كما أنه يتعرف بذلك على منازل الأعمال ومراتبها، والحياة قصيرة، فهذا الإنسان يعرف كيف يستثمر هذا العمر القصير في أجل الأعمال، وأفضلها، ممن يبلغه أعلى المنازل عند الله -تبارك وتعالى- من يرد الله به خيرًا، ثم إن هذا الإنسان أيضًا يعرف حقوق الله، ويعرف حقوق العباد، بخلاف من كان مغموصًا عليه بالجهل، فإنه يخبط في ظلماته لا يهتدي إلى سبيل، كيف يتصرف؟ وكيف يكون المخرج من كثير مما يواجهه في هذه الحياة؟ وكذلك أيضًا في الآخرة، فإن الله -تبارك وتعالى- يرفعه، والله يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فأهل الإيمان يتفاضلون، وهم على درجات ومراتب، وأهل العلم في المراتب العالية من أهل الإيمان -كما سبق- وكما مضى، فإن ذلك يحمل على العلم الذي يبعث على العمل، وليس مجرد العلم وحده.
فهنا من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين والفقه في الدين ليس معناه: أن يكون الإنسان حافظًا يحفظ الكثير من مسائل العلم، أو من النصوص، أو نحو ذلك مجرد حفظ، وإنما يكون ذلك بالفهم، والقدرة على الاستنباط، فهذا هو الفقه، يفقهه في الدين، وهذا هو المقصود من الحفظ، وأما الحفظ وحده فقد يكون الإنسان يحفظ الشيء الكثير، ولكنه لا يفقه، ولا يستطيع يستنبط، وسيأتي في الأحاديث ما يصلح لمثل هذا من الأوصاف، كما قال النبي ﷺ: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى، والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[2]، فمن الأرض ما حفظ الماء وجمعه، وانتفع به الآخرون، لكنه هو لم ينتفع، فلم تنبت الكلأ، فعلى كل حال الفقه في الدين هو نعمة من الله -تبارك وتعالى- يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا فسر بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى-، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
بعضهم قال: الحكمة هي الفقه في الدين.
وذكر حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها[3]، متفق عليه.
لا حسد في اثنتين الحسد المقصود به هنا الغبطة، والفرق بينها وبين الحسد المذموم أن الحسد المذموم يتمنى زوال النعمة عن غيره، سواء تحولت إليه، أو لم تتحول إليه، فهو يضيق ذرعًا حينما يرى عباد الله أو أحد منهم ينعم بنعمة، وهذا معترض على القدر.
أما الغبطة: فهو لا يتمنى زوال ذلك عن غيره، وإنما يتمنى لنفسه مثل ذلك مع بقاء تلك النعمة لدى أخيه المسلم، هذه هي الغبطة.
فالنبي ﷺ يقول: لا حسد -أي: لا غبطة- إلا في اثنتين ما هما؟ أن يملك الإنسان مئات الملايين؟ أن يملك الإنسان المراتب والمساكن الفارهة؟ ما هي الغبطة التي يتغابط بها الناس؟ لا حسد لا غبطة، يعني ما في أحد يغبط إلا في أحد شيئين، الغبطة الحقيقية لا تغبط أحدًا إلا أن يكون كذا أو كذا، وما عداه لا يغبط: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق يعني: أنه بذل وأنفق، فعبر عن ذلك النبي ﷺ بقوله: فسلطه على هلكته في الحق بذله في محاب الله في الحق، وليس في الباطل.
وكثير من الناس لا يطيق هذا، والله يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] فإذا حصل للإنسان الطغيان بسبب كثرة المال، فإن ذلك يحمله غالبًا على المعصية والفساد في الأرض؛ ولهذا قال الله : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16] فهنا سلطه على هلكته في الحق، وقليل ما هم؛ وذلك أن الغنى غالبًا يحمل صاحبه على البطر والأشر والطغيان؛ ولهذا كان الله -تبارك وتعالى- موصوفًا بالغنى والحمد، غني حميد، وكان له من اجتماع هذين الاسمين أنه محمود في غناه، لم يكن هذا الغنى سببًا في صدور أي أمر يعاب، كما يحصل عند المخلوقين.
ثم أيضًا لما كان المال محببًا إلى النفوس فقد لا ينفقه الإنسان في وجوه الشر والفساد، لكنه قد يحبسه عنده؛ لأنه يبخل به، ويضن به عن غيره، فقليل من الناس من يعان على نفسه، وكثير من الناس من يظن أنه لو كان غنيًا لبذل وأنفق وفعل، ونحو ذلك، والله إنما أمرنا لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] فالذي لا يكون بيده إلا القليل، ومع ذلك لا ينفق، فهذا لو كان عنده الكثير فمن باب أولى أنه لا ينفق؛ لأن الإنسان كلما كثر عنده المال ازداد حرصًا، وهذا أمر مشاهد.
قال: ورجل آتاه الله الحكمة والحكمة فسرت بالفقه في الدين، فهو يقضي بها، ويعلمها يفصل بها بين الخصوم، وأيضًا في الإفتاء يقضي بينهم، يقضي لفلان، ويبين له الحكم، ويعلم الناس أيضًا، يقضي بها، ويعلمها.
لكن لو أنه أوتي الفقه في الدين، ولكنه لم يقض به، ولم يعلمه الناس، وهذا يحصل كثيرًا، يستوي مع العامة، ولا ينتفع به بشيء، فمثل هذا ما الفائدة من الفقه؟ خاصة إذا لم يظهر عليه أثره من العمل والورع، وتقوى الله ، والمسابقة إلى الخيرات، فما الفائدة من الفقه؟ فمثل هذا لا يغبط، وسيحاسب.
ثم ذكر حديث أبي موسى قال: قال النبي ﷺ: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به[4]، متفق عليه.
مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث كما قال الله : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد: 17] يعني: كما قال مسروق: "جالست أصحاب محمد ﷺ فكانوا كالإخاذ يروي الراكب، والإخاذ يروي الراكبين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبد الله من تلك الإخاذ"[5]، يعني الناس في العلم يتفاوتون، فمن الناس من يكون عنده من العلم ما يصلح لأهل بيته، فينتفعون به، ومنهم من يكون عنده من العلم ما يصلح لأهل حيه، وينتفعون به، ومنهم من يكون عنده من العلم ما يصلح لأهل مدينته وبلدته، ومنهم من يكون عنده من العلم ما لو نزل به أهل الأرض لوسعهم، فالناس يتفاوتون في العلم، فتجد هذا ينتفع به، وهذا ينتفع به، وهذا ينتفع به، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، فالناس يتفاوتون، وأصحاب النبي ﷺ يتفاوتون، وأهل العلم على مدى القرون يتفاوتون غاية التفاوت، ويتمايزون.
فهنا قال: كمثل غيث والغيث هو المطر، ولا يقال له ذلك، إلا إذا كان نافعًا، أما المطر الذي ينزل فيحصل به الخراب والغرق، ونحو ذلك، لا يقال له: غيث.
أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ الكلأ هو المرعى، والعشب الكثير والعشب هو الرطب، الذي يكون في وقت الربيع الأخضر، يعني بمعنى أن هذا الوحي من النفوس من تشربته وانتفعت به، فعمل صاحبه بذلك، وفهم، وحصل له الفقه في الدين، ونفع الله به الآخرين، فهذه الأرض الطيبة التي تنبت، وينتفع بها، وتنتفع هي، وتربو وتخرج من كل زوج بهيج.
القسم الثاني: وكان منها أجادب، أمسكت الماء فنفع الله بها، والمقصود بالأجادب هي الأرض التي لا تنبت، لكنها تمسك الماء، مثل السباخ فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا لكنها هي لم تنتفع، هكذا بعض الناس يكون عنده علم؛ وذلك في إحدى صورتين -والله تعالى أعلم-:
الأولى: أن يكون مجرد حفظ، كما قال النبي ﷺ: فرب مبلغ أوعى من سامع[6] يحفظ لكنه هذا المحفوظ المتقن، ينتقل إلى غيره ممن هو أفقه منه، فيكون حامل فقه ليس بفقيه، حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فالفقيه يستنبط الأحكام، ويستخرج الهدايات من هذا الوحي، أو من هذه النصوص، أو من هذه الأحاديث، فهنا هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يكون عند الإنسان علم، لكن لم ينتفع به، انتفع به الآخرون؛ ولذلك جاء عن الحسن وقتادة في ذكر صور التغابن يوم القيامة: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علِم علمًا فعلِمه وضيعه، هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيرًا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي"[7].
وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان قيعان مثل الأرض الرملية التي لا تنبت، وإذا نزل عليها الماء شربته، فلا تمسك ماء، كما قال النبي ﷺ: لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ تأتي على هذه الأرض التي نزل عليها أمطار كثيرة جدًا، لا ترى ماء أمسكته، ولا ترى أثر المطر عليها خلال شهور أو أسابيع، لا ترى نباتًا ولا كلأ ولا مرعى.
فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به نفعه لاحظ كيف ينفعه بالعمل فعلم وعلم ومقتضى هذا أنه عمل.
ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به بمعنى: أنه لم يعمل به، ولم يحفظه، فهو مثل هذه الأرض القيعان، نسأل الله العافية، خاو قد يكون عنده بصر في الدنيا يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم: 7] كما قال بعض السلف: يضع الدينار أو الدرهم على أظفره، ويعرف بذلك هل هو زائف أو صحيح، ولكنه لا يعرف ربه، ولا يفقه في دين الله شيئًا، ولا يعرف كيف يعبد من خلقه؟ مثل هذا -نسأل الله العافية- يقال: ما أعقله! وما أحصفه! وما كذا وما كذا، وما يساوي عند الله جناح بعوضة، ما يساوي عند الله شيئًا.
فهذا الحديث فيه عبرة عظيمة جدًا، وهو ما يحصل به التمايز بين الناس والتفاضل، وينظر الإنسان يرجع إلى نفسه من أي هذه الأصناف؟ وماذا حصل من هذا النور والوحي؟ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157].
فهذا النور يشرق له القلب، ويشرق لذلك الطريق الذي يسلكه العبد إلى ربه -تبارك وتعالى-، ويشرق له الصراط حينما يلقى الله ، ويكون نورًا له في القبر، هذا المؤمن الذي انتفع وعلم وعمل، ويكون هو أيضًا نورًا يهتدي به الناس، يكون مثل السراج، فبعض الناس مثل الشمس، وبعض الناس مثل القمر، وبعض الناس مثل الكوكب الدري، وبعض الناس مثل السراج، وبعض الناس -نسأل الله العافية- لا هذا ولا هذا.
فالمؤمن لا يرضى لنفسه بأوصاف مذمومة.
وأسأل -تبارك وتعالى- أن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم (71) ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة برقم (1037).
- أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم برقم (2282).
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة برقم (73) ومسلم في صلاة المسافرين، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه برقم (816).
- أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم برقم (2282).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (33/156).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى برقم (1741).
- الجامع لأحكام القرآن (18/137).