الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا كتاب شريف من أشرف الكتب التي عقدها المصنف -رحمه الله- في كتابه هذا؛ وهو كتاب الأذكار من هذا الكتاب الذي نقرأ فيه وهو كتاب: "رياض الصالحين"، والباب الأول هو: "باب فضل الذكر والحث عليه"، الذكر ما هو؟
الذكر يقال: بمعنى خاص، وهو ما يتصل باللسان، ويدخل في ذلك الثناء على الله -تبارك وتعالى-، وذكره بأوصاف الكمال، هذا ذكر، ولهذا بعضهم عرفه بهذا، أن الذكر هو: ما يقال باللسان من الثناء والدعاء، كالأذكار والأدعية، والواقع أنه يمكن أن يطلق على ما هو أخص من ذلك مما يتصل بالنوع الأول، وهو غير الدعاء، وذلك بذكر الله بالثناء على الله بأوصاف الكمال كالتسبيح، فهو من قبيل التنزيه والتقديس والتكبير والتحميد والتهليل، وما إلى ذلك مما هو معلوم، فهذا ذكر.
ويقال بما هو أوسع من ذلك فيدخل فيه الدعاء، ويقال بما هو أوسع من ذلك، ويدخل فيه ما يتصل باللسان مما يحبه الله ويرضاه، ويدخل في ذلك قراءة القرآن، ولا شك أن قراءة القرآن من أجل الذكر، والله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124]، فيشمل المعنيين؛ لأن الذكر مصدر، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعني لم يذكر ربه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، ولا شك أن الإنسان يحصل له من الوحشة والضيق والشدة التي يجدها الناس كثيرًا في قلوبهم وصدورهم، وقد لا يعرفون سبب ذلك، وإن من أعظم الأسباب هو الجفاف قلة الذكر، فالقلب فيما يتصل بالذكر مثل: السمك في الماء، فإذا أخرج منه مات فلا حياة للقلب إلا بذكر ربه من أعرض عن ذكري، ويدخل فيه المعنى الثاني: ذكري، يعني مذكوري فيكون الأول مضاف إلى الفاعل.
والثاني مضاف إلى المفعول من أعرض عن ذكري، يعني مذكوري هو القرآن، أعرض عنه لم يقرأه، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولم يتحاكم إليه، فكان هاجرًا له.
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فالشاهد أن هذه المعاني جميعًا داخلة فيه فعلى هذا يكون الذكر يشمل كل محبوب لله إما على سبيل الوجوب أو الاستحباب مما يتصل باللسان، فيدخل فيه الأذكار المعروفة والأدعية وقراءة القرآن، ويقال: الذكر لما هو أعم من ذلك جميعًا، ولهذا نجد أن بعضهم يعرفه بهذا، مثل الحافظ ابن حجر[1] -رحمه الله- يعرفه بكل الأعمال التي يحبها الله -تبارك وتعالى- فيدخل في ذلك: أعمال اللسان، وأعمال القلب، وأعمال الجوارح.
أعمال اللسان عرفناها، وأعمال القلب هي استحضار عظمته ومراقبته وشكره، وما إلى ذلك من المعاني القلبية، والأعمال التي تتصل بالقلب مما يحبه الله .
والقسم الثالث: وهو ذكره بالجوارح، فالصلاة ذكر، وسائر الأعمال التي تتصل بالجوارح من العبادات الواجبة والمستحبة كل ذلك من ذكر الله -تبارك وتعالى- فهذا كله من الذكر، لكن هنا هل يقصد بالذكر النوع المتصل بالجوارح الصلاة والصيام؟
هذه تكلم عليها في أبواب أخرى، إنما يريد أن يتحدث هنا عن الأذكار المتصلة باللسان.
قال: باب فضل الذكر والحث عليه، قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، هذه تكلمنا عليها في التعليق على المصباح المنير، قال الله : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، أكبر من كل شيء على سبيل الإطلاق، ولذكر الله أكبر من كل شيء، وأيضًا أكبر من الصلاة، هذه بعض المعاني يعني الآن الله قال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ الذي قاله ابن كثير[2] -رحمه الله- واختاره أن الصلاة تشتمل على أمرين:
الأول: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
الثاني: أنها مشتملة على ذكر الله.
وهذا الثاني أكبر من الأول كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذا اختيار ابن كثير، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مما ذكر قبله من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وبعضهم يقول: ولذكر الله أكبر من كل شيء.
وبعضهم يقول: أكبر من الصلاة أثرًا؛ إذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فذكر الله أبلغ في النهي عن الفحشاء والمنكر.
وبعضهم يقول: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: ولذكر الله عبده يعني الله لما يذكر العبد أكبر من ذكر العبد لربه؛ لأنه قال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، فتلاوة الكتاب وإقام الصلاة كل ذلك ذكر لله باللسان والجوارح، والله يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فذكر الله أعظم من ذكرنا، ذكر الله لنا أعظم من ذكرنا له، ولذكر الله أكبر من ذكرنا إياه.
وبعضهم يقول: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ من ذكركم، أي: يذكره بالعطاء والجزاء، وهذا فيه بُعد، يعني جزاؤه أعظم من أعمالكم، وفيه بعد، والله كما سبق في الحديث القدسي: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه[3].
فذكر الله للعبد أعظم من ذكر العبد لربه هذه معاني ذكرها أهل العلم.
وهنا قال: وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] فهنا حكم مرتب يعني جزاء مرتب على وصف أو شرط اذكروني أذكركم، فأي شيء أعظم من هذا، من أراد أن يذكره الله -تبارك وتعالى- فعليه أن يذكر ربه فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وشتان بين ذكرنا لله وبين ذكر الله لنا، الله -تبارك وتعالى- هو الملك المالك الأعظم، يذكر عبده في الملأ الأعلى من الملائكة، يذكر فلان ابن فلان، وهذا مرتب على أمر يسير بسيط سهل أن يذكر الإنسان ربه -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
فمن أراد أن يذكره ربه فليذكر ربه قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205] اذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة في نفسك.
وقوله بعد ذلك: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ يدل على المراد ويبينه، ليس المقصود أن يذكره في نفسه بمعنى أنه من غير ذكر اللسان فإن هذا لا يعد من الذكر، وبعض الناس يقول: الأذكار ولكنه صامت لا يتحرك لسانه ولا شفته فهذا لا يعد ذكر، يقول ذلك بقلبه، بعض الناس يقرأ الآيات في الصلاة، وقد يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى بقلبه، ولسانه لا يتحرك، بعض الناس يقرأ القرآن بعينيه فقط، ولسانه لا يتحرك هذا لا يعتبر قراءة شرعًا، ولا ذكر، ولا يجزئه ذلك، بل لا بد من اللسان، وما يحتف بذلك من حركة الشفة فيجري ذلك في الهواء وإن لم يكن له صوت يسمعه لا يشترط، لكن القراءة بالعين أو بالقلب كما يقال هذه لا تكفي.
فقوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، المقصود يعني من غير جهر.
قال: تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، والتضرع يأتي بمعاني مجتمعة من الانكسار والخشوع والخضوع، فيقال: ضارع فلا يكون كالمدل على ربه -تبارك وتعالى- بهذا الدعاء أو الذكر، كأنه يقدم شيئا، وإنما بضراعة وانكسار وإخبات وخشوع وخوف من الله -تبارك وتعالى-، لا يكون كالذي كأنه يخاطب آحاد الناس، كأنه يخاطب أصغر الناس، وإنما يكون منكسرًا ذليلاً متواضعًا.
تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، خيفة يعني: يجمع مع الضراعة الخوف، يكون خائفًا راجيًا لله -تبارك وتعالى-.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ هذا يدل على المقصود بالذكر أنه يكون متوسطًا بحيث لا يكون بجهر: أي برفع الصوت، ولهذا ذُكر في أنواع الاعتداء في الدعاء.
وفي رمضان تجد من الناس من يبالغ في هذا من أئمة المساجد في القنوت، فيرفع صوته رفعًا منكرًا، فهذا لا يليق، وليس ذلك من الأدب مع الله ، وإنما يكون ذلك بضراعة وخيفة واعتدال دون الجهر من القول ومتى يكون ذلك؟
قال: بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ذكر طرفي النهار: الغدو أول النهار، والأصال يكون بعد العصر لاسيما بعد انكسار الشمس، يعني بعدما تتحول من البياض إلى وقت الصفرة الذي هو وقت الأصيل؛ الذي يسمه العوام عندنا: "المسيان"، هذا وقت الذكر، فالذكر يجزئ أن يكون بعد زوال الشمس، يعني من بعد الظهر؛ فهذا مساء، كما يجزئ أن يكون بعد العصر والشمس بيضاء نقية، ولكن أحسن الوقت -والله أعلم- الأصيل فإن الأصيل يكون بعد اصفرار الشمس، وانكسار حدة توهج أشعتها، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.
ثم قال: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ لا تكن من الغافلين بترك الذكر في الغدو والآصال وما بين ذلك، يقول ابن الصلاح[4] -رحمه الله-: من واظب على أذكار طرفي النهار، والأذكار التي تكون في كل مقام ووقت مما شرعه الشارع -يعني أذكار الصلوات، وأذكار الدخول والخروج إلى آخره من المسجد وإلى المسجد والبيت، ودخول الخلاء -أعزكم الله- والخروج منه كل هذه الأذكار الشرعية إذا ارتفع إذا نزل- يكون من الذاكرين الله كثيرًا.
وبعض أهل العلم كالنووي[5] -رحمه الله- ذكر قريبًا من هذا أن يكون الإنسان مواظبًا على ذكر الله آناء الليل والنهار هذا من ذكره، وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ فما يكتفي الإنسان بأذكار الصباح والمساء، وأيضًا ما يتصل بفضل الذكر، وأجر الذكر، وأثر الذكر أيضًا فإن ذلك يتفاوت كما تتفاوت الصلاة وقراءة القرآن لدى الناس، هذا يقرأ جزء، وهذا يقرأ جزء، لكن شتان هذا صلى وهذا صلى شتان، فإذا كان الذكر مع حضور القلب فهذا هو الكمال، وهذا الذي يحصل له أبلغ الأثر في نفس الإنسان، ويحصل له أبلغ الأثر في دفع الشر والمكروه عنه فالأذكار لها مثل هذه الآثار التي أخبرنا عنها الشارع، فيكون ذلك سببًا لحفظ الإنسان لكن بعض الناس يمررها على لسانه بلحظات دون أن يستحضر بقلبه شيئًا، وقد لا يفهم من معانيه قليلاً ولا كثيرًا فهذا يضعف معه أثرها من الجهتين: من جهة الثواب، ومن جهة أيضًا دفع ما يكرهه، ولهذا أقول: هذا باب شريف جدًا؛ لأنه يتصل بالذكر، ولأنه يذكر معه ما نحتاج إليه من معاني هذه الأذكار، ونحن بأمس الحاجة إلى معرفة هذا؛ لأن ذلك مما نقوله صباح مساء، والله المستعان.
قال: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ فدل ذلك على أن من أهمل الذكر فهو من الغافلين، ويكون للعبد من الغفلة بحسب ما عنده من قلة ذكر الله باللسان والقلب والجوارح، فالغفلة تحصل بهذه الأمور جميعًا، وقد تستجمع هذا كله فيكون غافلاً، -نسأل الله العافية-، غفلة كاملة تامة، والناس في ذلك يتفاوتون، ويحصل لهم من الأحوال والتحولات ما نشاهده؛ كل ذلك مما يرجع غالبه إلى هذا المعنى، فتجد هذا الإنسان يضعف ويتلاشى، هذا الإنسان لا زال متماسكًا، هذا الإنسان في ارتقاء، والنفس تحتاج إلى مجاهدة واليوم تيسر للناس كل شيء تيسر للناس الآن الهواتف الجوالة أصبحت تذكرك بالأذكار، جهاز الحاسوب يذكرك بالأذكار، أنواع الأجهزة الآن الموجودة فيها أذكار فيها قرآن، وفيها أحاديث، وفيها أدعية، وفيها رقى، الرقية الآن أصبح الناس يسمعونها ويحفظونها، وتوجد من الكتيبات والمطويات بأحجام مختلفة وأشكال أنيقة، مما لم يكن معروفًا من قبل؛ يعني أنا علّمت بعض الإخوان مطوية عملتها بخط يدي وبالألوان الأذكار بطريقة معينة أضعها في جيبي قبل أن توجد هذه المطويات وهذه الكتيبات، وهذه الأشياء الواحد يضطر أنه يجمع أحاديث، ويجمعها في ورقة كبيرة، ثم بعد ذلك يبدأ يصفها ويرسم عليها براويز، وبعد مدة تبدأ تتآكل وتنمحي كتابتها، وهي إلى الآن عندي، وإذا نظرتها ونظرت إلى التي توزع أمام المصلين ما شاء الله أنواع المطبوعات وبمختلف الألوان، وأوراق مصقولة، أقول: سبحان الله، ما عاد يبقى شيء، ويأتي هذا الجهاز ويذكرك بوقت الذكر أيضًا، ويوم الجمعة بالصلاة على النبي ﷺ، وأشياء ويؤذن وقت الآذان.
وبعضها يقيم وقت الإقامة، كما قال بعضهم: ما بقي إلا أنه يكبر ويصلي فيكم، والله المستعان.
لكن يبدو -والله أعلم- أنه كلما كانت الأسباب أسهل كلما زاد زهد الناس بهذه الأمور، وهذا السبب الذي جعل العلماء من قبل الواحد لما يرحل إلى اليمن أو غيره لسماع بعض الأحاديث، ويكتبها يخرج بالنهاية حافظا، يحفظ سبعمائة ألف حديث، أو نحو ذلك، واليوم نحن قد نضعف عن حفظ الأربعين النووية مع وجود الأسباب والوسائل، وكل ذلك ميسر، لكن أصبحت في جهاز الإنسان، ولا يكلفه ذلك شيئًا، والله المستعان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: فتح الباري لابن حجر (11/209).
- انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (6/282).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
- فتاوى ابن الصلاح (1/150).
- انظر: الأذكار للنووي ت الأرناؤوط (ص: 10).