الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل الذكر والحث عليه" أورد المصنف -رحمه الله-: إلا رجل عمل أكثر منه[1] هذا من قالها مائة مرة، لكن من قال عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل[2]، ولد إسماعيل يعني من العرب الذين يمتد نسبهم إلى إسماعيل ، ولا شك أنهم أشرف الناس نسبًا، أشرف العرب، وهم أشرف أيضًا من غير العرب، وكلما كان المعتق أشرف كان ذلك أفضل وأعظم، وأكثر مثوبة، وهذا يدل أيضًا على أن العرب من ولد إسماعيل فضلاً عن غيرهم يقع عليهم الرق بسبب الكفر، فإذا قاتلهم المسلمون وأسروا منهم من أسروا فلهم أن يسترقوهم، وقد حصل هذا الاسترقاق لجملة من العرب لأقوام من العرب كبني حنيفة، وغيرهم، والنبي ﷺ قال لبعض أمهات المؤمنين: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل[3]، لجارية كانت عندها.
فهذا أمر يسير، هذه الكلمات تقال عشر مرات، يكون كمن أعتق، ولم يقيد النبي ﷺ ذلك بالتتابع، ولم يقيده بوقت مخصوص، فلو قاله الإنسان متفرقًا، وكان مجموع ذلك عشر مرات لو قاله في أول النهار، أو في وسط النهار، أو في آخر النهار فإن ذلك جميعًا يجزئه.
ثم ذكر حديث أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟! إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده[4]، رواه مسلم.
أحب الكلام إلى الله بإطلاق، أو أن ذلك يقيد فيقال: أحب الكلام إلى الله من كلام الناس يعني هل هذا أفضل من القرآن لا يقال: إنه أفضل من القرآن، وإنما يقيد ذلك بأنه أفضل الكلام مما يقوله الناس، وإن كان ما يقال فيه ذلك مما ورد في القرآن فيكون اجتمع فيه هذا وهذا.
ثم ذكر الحديث الذي بعده حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض[5]، رواه مسلم.
الطهور شطر الإيمان ما معنى الطهور شطر الإيمان؟ الطهور يعني بالضم الفعل يعني الذي هو الطهارة شطر الإيمان كيف تكون الطهارة شطر الإيمان؟
يحتمل أن يكون المراد بالإيمان الصلاة فالله سماها إيمانًا قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس فتكون الطهارة شطر الصلاة لأنها شرطها لا تصح إلا بها؛ وعلى هذا المعنى فلا إشكال، وأما إذا حمل الإيمان على معناه المعروف فكيف تكون الطهارة شطره؟
الطهور شطر الإيمان، الإيمان يطلق بإطلاق خاص محدود على التصديق الانقيادي، بمعنى الإقرار والإذعان القلبي إذا ذكر معه الإسلام، فيكون الإسلام إسلام الظاهر، والإيمان انقياد القلب، وإقرار القلب، وإذعان القلب، وإذا ذكر الإيمان بإطلاق فإنه يدخل فيه الأعمال وقول اللسان مع تصديق واعتقاد الجنان، فهنا: الطهور شطر الإيمان، إذا ما قلنا بأن الإيمان المقصود به الصلاة يحتمل أن يكون ما جاء به الشارع هذه الشريعة بكاملها، منها ما يتصل بالتخلي، ومنها ما يتصل بالتحلي، كلمة التوحيد: لا إله إلا الله مكونة من نفي وإثبات، فهذا النفي لكل ما يعبد من دون الله ، وما يتفرع من ذلك، فكل المعاصي داخلة تحت هذا النوع.
وقوله: إلا الله يدخل فيه توحيد الله وما يتفرع منه من ألوان الطاعات، والعبادات، ومحاب الله ، فهما شجرتان شجرة الإيمان، وشجرة الكفر، فمحاب الله في شجرة الإيمان، ومساخطه في شجرة الكفر، فلا إله إلا الله فيها هذا وهذا، النفي والإثبات، فالنفي يتصل بالتخلية، والإثبات بالتحلية، فالطهور مما يتصل بالتخلية الطهارة المعنوية من الأدناس والشرك والمعاصي، والطهارة من النجاسات الطهارة الحسية أيضًا، كل ذلك داخل فيه.
الطهور شطر الإيمان وإن كان المتبادر إلى الذهن والأقرب -والله أعلم- أن المقصود بالطهور هنا الطهارة المعروفة، فكيف تكون شطر الإيمان بهذا الاعتبار؟
يمكن أن يقال: إنها مما يتصل بالتخلية من أجل ما يعلمه العبد؛ لأنها شرط للصلاة، والله يحب المتطهرين، وما شابه ذلك، الطهور شطر الإيمان، وبعض أهل العلم يقول غير هذا.
والحمد لله تملأ الميزان، والميزان توزن به الأعمال، وتوزن به الصحائف، ويوزن به أيضًا الناس.
وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، رواه مسلم، فما بين السماء والأرض شيء لا يمكن أن يقادر قدره، أو أن يتصوره الإنسان لا يمكن ما بين السماء والأرض إذا كانت كلمة يقولها الإنسان مرة تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا أكثر الإنسان من هذا كم يكون قد قدم وعمل وجاء بالطاعات والأعمال الصالحة، فهذه الأشياء تثقل الموازين، وهي لا تكلف الإنسان شيئًا.
ثم ذكر حديث سعد بن أبي وقاص قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: علمني كلامًا أقوله، قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني[6]، رواه مسلم.
الأعرابي قال: علمني كلامًا أقوله؟ فأرشده النبي ﷺ إلى هذا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له هذه كلمة التوحيد.
الله أكبر كبيرًا، كبيرًا هذه مفعول مطلق، وذكرنا من قبل أكبر من كل شيء.
والحمد لله كثيرًا الإنسان يمكن أن يردد الحمد ويكثر من ذلك، وهكذا أيضًا يقول: الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم فذكر هذين الاسمين العزيز والحكيم بعد قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله يعني لا تحول من حال إلى حال إلا بالله -تبارك وتعالى- والذي لا يكون تحول وصيرورة من حال إلى حال إلا به فلا شك أنه العزيز الذي لا يغالب، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
فقال هذا الرجل: "فهؤلاء لربي"، يعني محامد وتنزيه، "فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني، فإذا غفر للعبد كان ذلك وقاية له من شؤم المعصية، ومن تبعاتها من المؤاخذة عليها، وكان سترًا له، وإذا رحم الله العبد فإنه يدخله الجنة.
واهدني، وهذا يشمل الهداية في الدنيا والآخرة إلى محاب الله ومراضيه وإلى أفضل الأعمال، ويشمل الهداية أيضًا عند الموت، والثبات على الحق في الدنيا، والهداية أيضًا عند سؤال الملكين، والهداية عند الحساب والهداية إلى الصراط، والهداية على الصراط، والهداية إلى باب الجنة، والهداية إلى منزله في الجنة كل هذا مما يحتاج إليه العبد.
اهدني وارزقني، فإن الإنسان بحاجة إلى الرزق في الدنيا؛ لأن قوامه يكون بذلك، فيكون في ذلك مستغنيًا عن بذل الوجه للمخلوقين، فهذه الأمور إذا اجتمعت للإنسان غفر الله له، ورحمه، وهداه، ورزقه، فقد استكمل ما يطلبه أهل الإيمان، ويحتاجون إليه في الدنيا والآخرة، هذا ما يتصل بهذه الأذكار المطلقة، ثم بعد ذلك سيذكر المصنف -رحمه الله- الأذكار التي تكون بعد الصلاة.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، -والله تعالى أعلم-.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2691)، (2692).
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، برقم (6404)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2693).
- أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا، فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، برقم (2543)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، ومزينة، وتميم، ودوس، وطيئ، برقم (2525).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل سبحان الله وبحمده، برقم (2731).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2696).