الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل الذكر" وما يتصل منه بالذكر بعد الصلاة، أو في آخرها أورد المصنف -رحمه الله- حديث سعد بن أبي وقاص : "أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ دبر الصلوات المكتوبة بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من فتنة القبر"[1]، رواه البخاري.
"أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ دبر الصلوات بهؤلاء الكلمات"، كان يتعوذ هذه الصيغة تدل على الدوام والتكرار والملازمة يفعل ذلك دائمًا، وكيف عرفوا؟
ربما أسمعهم النبي ﷺ ذلك في صلاته تعليمًا لهم فكان يسمعهم في الصلاة السرية القراءة أو بعض القراءة، وكان يسمعهم ﷺ مثل دعاء الاستفتاح، ونحو ذلك تعليمًا.
"كان يتعوذ" والتعوذ أصله بمعنى الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى- مما يخافه الإنسان يلتجئ إليه من المخاوف، اللوذ أن يلجأ إليه في المحاب، والعوذ أن يعتصم به ويلجأ إليه مما يخافه ويحاذره، والمخاوف لا شك أنها تنتاب الإنسان ولا يخلو من ذلك أحد قط، ولكن الفرق بين المؤمن وبين غيره أن المؤمن يلجأ إلى الله ويعوذ به، ويركن إلى جنابه فيحفظه، ويحوطه، ويحميه، وأما من ضعف إيمانه أو من لم يعرف ربه فإنه يلجأ إلى غيره، بعضهم يلجأ إلى المشعوذين السحرة، وبعضهم يلجأ إلى الجن؛ يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
وبعضهم يلجأ إلى غيرهم من المخلوقين؛ ليحموه، ليحفظوه، ليكلؤه ونحو ذلك، فالإنسان ضعيف يحتاج إلى من يقويه فالنبي ﷺ كان يتعوذ دبر الصلوات، ودبر الصلاة تارة يطلق على آخرها كما يقال: دبر الدابة؛ أي قبل السلام، وتارة يقال ذلك كما في الأذكار التي بعد الصلاة سبحان الله والحمد لله والله أكبر لما يكون بعد السلام، أي بعد الانصراف منها، فهنا قال: كان يتعوذ دبر الصلوات بهؤلاء الكلمات، الكلمات هنا جمل، وكما هو معلوم أن الكلمة تقال للفظة، وتقال أيضًا: للجملة، وتقال: للخطبة؛ تقول: ألقى كلمة، وكما قال ابن مالك:
*** | وكلمة بها كلام قد يؤم[2] |
يعني يقصد.
"تعوذ بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من الجبن"، والجبن: بإسكان الباء من جَبُن، يعني ضعف القلب، ضعف البدن يكون وهنًا وضعفًا، ولكن ضعف القلب، ولو كان البدن ممتدًا يقال له: الجبن، نقول: فلان جبان يقابله الشجاعة، شجاع، فهي تعني قوة القلب، وإقدام القلب، فكان يستعيذ من الجبن؛ لأن الجبن يقعده فيطلب السلامة؛ فيترك كثيرًا من الكمالات والمطالب العالية وما تسمو به النفوس في الدنيا والآخرة، يجبن عنها.
حب السلامة يثني هم صاحبه | ***[3] |
فيقعده ذلك عن كلمة الحق، يقعده ذلك عن كثير من المزاولات والأعمال التي يرضاها الله خشية سخط المخلوقين، يقعده عن مصاولة الأعداء، وعن مدافعتهم خشية القتل، يخاف الموت، "أعوذ بك من الجبن والبخل"، والبخل: العلماء يفسرونه تارة بمنع الحق في المال، يقال: فلان بخيل، والعرب تقول ذلك في منع فضل المال عمن احتاج إليه.
والبخل والشح هما أوصاف نفسانية لها مقتضيات وآثار، فمن مقتضياتها وآثارها -وذلك مراتب- أن يمنع الإنسان الحق الواجب لله أو للمخلوقين، لله مثل: الزكاة، يبخل بها، وللمخلوقين مثل النفقات الواجبة على الزوجات والأولاد، ونحو ذلك.
وبعضهم قال: إن هذا هو الشح، ومن يوق شح نفسه جعلوه مرتبة أعلى وجعلوا البخل دونه، وهناك بخل دون ذلك وهو أن يمنع الإنسان ما لا يجب ولكنه يحسن ويجمل فيمتنع الإنسان من كثير من المكارم بخلاً، ولربما بخل الإنسان على نفسه؛ تجد الرجل أحيانًا يملك المال، وعنده شيء من الجدة والسعة، ومع ذلك يقتر على نفسه، وعلى من معه ممن يعولهم في ملبسه في مأكله في مسكنه، إلى آخره لا زهد في الدنيا وإنما حبًا للمال وحرصًا، ولو عقل الإنسان لعلم أنه ليس له من هذا المال إلا ما تمتع به، أو تصدق به، وأما الباقي فهو خازن له، وإنك تجد أحيانًا من الناس من يعيش حياة الحرمان، وهو يملك الكثير وصار بهذه المثابة كمن هو عادم للمال بالكلية ما الفائدة إذن؟ ما الفائدة من المال؟ يجمعه لمن؟ يكون خازنًا وحارسًا عليه.
فهنا البخل من يوق شح نفسه فأولئك ملازم للنفوس، وهذا البخل يجعل الإنسان يمنع حق الله، وحقوق المخلوقين، ويجعل هذا الإنسان يقع في قطيعة الرحم، وأخذ حقوق العباد، ويستأجر الأجير ولا يوفيه، إلى غير ذلك من الأمور التي تضره في دنياه، وتضره في آخرته.
"وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر"، أرذل العمر بعض العلماء ذكر أنه جاء عن علي : "أن ذلك إذا بلغ الخامسة والسبعين"[4]، فلو صح ذلك عنه فإن ذلك ليس بالضرورة يكون أرذل العمر، والذي أظنه أقرب -والله تعالى أعلم- أن أرذل العمر أن ذلك لا يحد بعمر معين، أو سنة معينة يبلغها الإنسان، وإنما يقال: إن ذلك يتفاوت بتفاوت الناس، فأرذل العمر هو حيث يصير الإنسان إلى حال يضعف وتتلاشى فيها قواه من سمع وبصر، ويعجز عن القيام بشؤونه فيحتاج سمعه إلى ترجمان، يحتاج إلى من يوصل إليه ويصرخ عند أذنه ولا يكاد يبصر، ولا يكاد يعقل، تضعف ذاكرته وقواه العقلية، فهذا أرذل العمر، يحتاج إلى الآخرين أن يقوموا بشؤونه، فهذه حال يكون الإنسان فيها لربما عالة على غيره، والإنسان لا يتمنى هذا لنفسه بحال من الأحوال، ولهذا قال الشاعر:
المرء يأمل أن يعيش | وطول عيش قد يضره |
تفنى بشاشته ويبقى | بعد حلو العيش مره |
وتسوءه الأيام حتى | لا يرى شيئًا يسره[5] |
ونحن لا نقول هذا؛ النبي ﷺ يقول: خيركم من طال عمره وحسن عمله[6]، ونحن نرى أناس يجاوزن المائة وهم في كامل القوى العقلية، وكذلك أيضًا عندهم من القوة البدنية ما لا يحتاجون معه إلى أحد من ولد أو غيره، فهذا لا شك حينما يمتع الإنسان بقواه أن هذا خير، وهو يحصل عبر عمر مديد، أعمال صالحة وهذه تجارة مع الله فيأتي الإنسان بأمثال الجبال غير هذا الذي عاش عشرين سنة، خمسة عشر سنة هذا يكدح مائة سنة في طاعة الله وهذا يعمل في مدة وجيزة في عشرين سنة، لكن من كان مضيعًا فذلك شأن آخر لكن أرذل العمر هو أن يصير الإنسان إلى هذه الحال التي وصفت، فهذا استعاذ منه النبي ﷺ فليست القضية أن يعيش الإنسان، وأن يبقى مدة طويلة، القضية هي أن يعيش حياة كريمة على طاعة الله جل جلاله، على الصراط المستقيم، على حالة مرضية، أما أن الإنسان يخاف من الموت فقط، ويتمنى طول العيش؛ فهذا أمر غير سائغ، ويوجد من كلام الحكماء والشعراء أشياء كثيرة لا يحب الإنسان ذكرها؛ لئلا يجرح مشاعر أحد، فإن بعض ما يقال قد لا يناسب ذلك لبعض من يسمع، لكن إذا كان الإنسان على طاعة واستقامة فهو على خير، وفي حال طيب.
يقول ﷺ: وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من فتنة القبر، رواه البخاري.
أعوذ بك من فتنة الدنيا، فتنة الدنيا هي فتنة الغنى، وفتنة الفقر، والفتن التي تنتاب الناس في الدنيا بأنواعها، والعجيب أن في هذا اليوم قبل أن أقرأ هذا الحديث كنت أتأمل في أحوال الناس؛ كل أحد يفتن: أهل العلم يفتنون، والفقراء يفتنون، والأغنياء يفتنون، وإنسان يفتن، الجميع يفتنون، ولكن هذه الفتن تأتي لكل أحد بحسبه سواء كانت صغيرة أو كبيرة، أو كل أحد يفتن وهذا مصداق لقوله -تبارك وتعالى-: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214]، لا بدّ من هذا.
فهنا قال: أعوذ بك من فتنة الدنيا، فيدخل فيه فتن الدنيا ببهرجها بزينتها بالغنى، بالفقر، الفقراء يفتنون بالأغنياء، والأغنياء يفتنون بالغنى، وصاحب العافية يفتن بعافيته، وصاحب المرض يفتن بالمرض، وبعض الناس لا مرض ولا فقر ولا بلية ولا مصيبة ومع ذلك لربما تجده في حال أعظم مما فيه أهل العلة والمرض والأوصاب والفقر وما إلى ذلك؛ لمخاوف يتوهمها مستقبلة، يتوقعها، أو لأمور لم تقع يتوهم وقوعها، كم رأيت من أناس يعيشون في حال تجد الإنسان لربما طريح الفرش وهو يتوهم أنه مريض أنه في علة وهو ما به علة، قد يكون قبل سنوات أصابه شيء قد يكون لكن الآن ما به بأس، ومع ذلك تجده في حال في حسرة، وكم سمعت من أناس من نساء وغير النساء تشعر أن الموت يتنزل عليها فتستلم، وتبقى في حال من الهلع والضعف والعجز والمسكنة، وتوصي على أولادها، ونحو ذلك، وما فيها شيء، والعمر يمضي بهذه الهموم المتوهمة.
فأقول: مثل هذا فتنة الدنيا، كل أحد يفتن.
وأعوذ بك من فتنة القبر، وفتنة القبر المعروفة بسؤال الملكين ينتهرانه شديد الانتهار؛ من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟[7]، وهذا لا ينفع فيها الحفظ، هذه تحتاج إلى إيمان، فيجيب عنها الأخرس في الدنيا إذا كان مؤمنًا وأفصح الناس يعجز عن الجواب هنالك، فهذه فتنة عظيمة جدًا كان يتعوذ النبي ﷺ من هذه الأمور في أدبار الصلوات كل صلاة يستعيذ منها، الجبن، البخل، أن يرد إلى أرذل العمر، فتنة الدنيا، فتنة القبر، فهذا يدل على ماذا على أن هذه أمور عظيمة جدًا تستحق أن يستعاذ منها، وأن يفر الإنسان من مواقعتها، فهل فتش الإنسان ونظر إلى نفسه حينما يردد هذه بعد الصلوات، هل أنا بخيل؟ هل أنا جبان؟ هل أنا أتمنى طول العيش على أي حال؟ كان كما قال الله عن اليهود: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96]، فتجد الإنسان أحيانًا لربما يدعو بهذا، أو تدعو له أمه محبة وشفقة إنه يعيش مائتين وخمسين سنة، فإذا عاش مائتين وخمسين سنة كيف ستكون حاله؟! هل هذه حال تسر؟!
فالمقصود أن هذه الأشياء التي نقولها ونرددها نحتاج إلى أن نتبصر فيها.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، لكن أنبه فقط في الختام إلى أن مثل هذا الدعاء الآن متى يقال؟ أشرت من قبل إلى أن مثل شيخ الإسلام ابن تيمية[8] -رحمه الله- كان يرى أن هذه الأدعية تقال قبل السلام، دبر الصلاة بمعنى قبل السلام، بعدما يقول التشهد والصلاة على النبي ﷺ وأن كل الأدعية الواردة هي من هذا الجنس، بما فيها دعاء الاستخارة، وما سيأتي من قوله ﷺ: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك[9]، أن هذا كله قبل السلام، وأما الأذكار سبحان الله والحمد لله، والله أكبر وما شابه ذلك فبعد السلام.
وابن القيم -رحمه الله- يقول: "فراجعته في ذلك لكنه لم يرجع عنه"[10]، يقول: راجعته وناقشته هل تقال بعد السلام فأصر على قوله أن ذلك قبل السلام مع أنه يقول في الوقت نفسه: بأن الإنسان لو قال ذلك بعد السلام فإنه لا ينكر عليه، لكن لم يرد عن النبي ﷺ أنه كان يدعو دعاء جماعيًا مع المأمومين بعد الفراغ من الصلاة، ثم إن الإنسان إذا قال هذه قبل السلام في الصلاة إن كان إمامًا فإنه يقول ذلك بصيغة الجمع فلا يدعو لنفسه، وهؤلاء خلفه، وإنما يدعو بصيغة الجمع لاسيما إذا كانوا يؤمنون على دعائه، فإن كانوا يؤمنون على الدعاء يسمعون فكما قال النبي ﷺ: فقد خانهم[11]، هذا في خصوص الدعاء الذي يؤمنون عليه مثل القنوت فما يجلس يقول: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت[12]، وهم يقولون آمين آمين، هذا الذي قال فيه النبي ﷺ: فقد خانهم لكن حينما يصلي الإنسان إمامًا ويدعو فإنه يحسن أن يكون بصيغة الجمع؛ ليشمل من وراءه، لكن لو أنه دعا لنفسه فقط كل واحد دعا لنفسه هل يقال: إنه يصدق عليه قول النبي ﷺ فقد خانهم؟
الجواب: لا، -والله تعالى أعلم-.
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من فتنة الغنى، برقم (6376)
- متن ألفية ابن مالك.
- انظر: شرح لامية العجم للدميري (ص: 6)، وتمام البيت:
عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ. - انظر: تفسير الطبري (14/292)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (4/585).
- انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (ص: 671)، والتذكرة الحمدونية (6/41)، والدر الفريد وبيت القصيد (4/173).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2329)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3296).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
- انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/210-211)، ومجموع الفتاوى (22/501).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1522)، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم (1303)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1362).
- انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/295).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟، برقم (90)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في كراهية أن يخص الإمام نفسه بالدعاء، برقم (357)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2565).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والترمذي، أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (464)، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، برقم (1745)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1281).