الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الكتب قبل الأخير من هذا المصنف المبارك، وهذا الكتاب هو: "كتاب الأمور المنهي عنها"، وفيه أبواب كثيرة، لكنها قصيرة، وهي تربو على مائة باب، ثم ذكر كتابًا آخر بعده قصيرًا يتضمن ثلاثة أبواب، وبه يختم هذا الكتاب أعني "رياض الصالحين"، فهذه الأمور المنهي عنها سواء كان نهي كراهة، أو كان النهي نهي تحريم.
وأول ما بدأ بها هو: "باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان".
فالغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره، كما فسرها النبي ﷺ[1]، قيل لها ذلك؛ لأن ذلك إنما يكون بالغيب، يعني في حال غياب المذكور بما يكره، وأما الأمور المنهي عنها فهي أعم من الغيبة، فيدخل فيها اللهو، ويدخل فيها الكذب، ويدخل فيه البهتان، وما إلى هذا مما سيأتي في هذه الأبواب.
ثم صدر المصنف -رحمه الله- هذا الباب بقوله -تبارك تعالى-: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
قوله: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا هذا نهي، والنهي للتحريم إلا لصارف، والأدلة كلها تدل على تحريم الغيبة، وتصويرها بهذه الصورة: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ، والأدلة التي الأخرى تدل على أن الغيبة من كبائر الذنوب مع أن الكثيرين يستسهلونها، ولا يبالون بها، والنبي ﷺ لما قال لأم المؤمنين حينما قالت في صفية: حسبك منها، وأشارت بيدها يعني قصيرة، قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته[2]، فهذا الذي يمزج ماء البحر وهي مجرد إشارة على أنها قصيرة، قد تقول: أنا أحكي الواقع، هذا يدل على أنها من الكبائر، فيكف بالتوسع الوقيعة في الأعراض.
وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فهذا فيه إطلاق المنع يعني ليس لأحد فيه مبرر، فالولد لا يجوز أن يغتاب والده عند أصدقائه وزملائه، وهذا للأسف يقع كثير وهو أعظم في الذنب؛ لأن حق الوالد أعظم، وكثير من الأولاد لربما ينفسون عما يجدونه لا يلائمهم من تصرفات ومزاولات آبائهم فيقعون في أعراضهم عند أصحابهم وأصدقائهم، ولربما يقول غير الحق، ولكن بحسب تصوره، وقد يزيد عليه، فيقول عن أبيه: بأنه مقتر عليه، أو أنه يعامله بقسوة، أو غير ذلك، فهذا عظيم.
وكذلك أيضًا غيبة التلميذ لمعلمه، فهذا أشد، فله حق عليه، وهو أب له في التربية، فالأبوة أبوتان: أبوة ولادة، وأبوة تربية، وأبوة تربية أعظم؛ لأنه ينقله في مدارج الكمالات ومعارج الصعود إلى المراتب العالية بالتربية، أما ما يتعلق بأبوة الولادة فإنه سبب وجوده في هذه الحياة، لكن النقل إلى الكمال يكون بأبوة التربية.
وكذلك أيضًا غيبة المعلمين للطلاب، وغيبة النساء لأزواجهن، كل هذا واقع متفشي، ولربما اغتاب بعض المصلين المؤذن أو الإمام أو العامل في المسجد، ولربما وقع عكس ذلك كأن تقع الغيبة لبعض المصلين، فهذا كله لا يجوز، وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أيًا كانت مرتبة من وقع منه ذلك أو وقع عليه، لكن كلما كان الحق أعظم حق من وقعت عليه الغيبة كانت أشد بحسب متعلقها، فالغيبة مع أنها من الكبائر إلا أنها تكون أعظم إذا وقعت على من له حق عليك، كالعالم، والوالد، والمعلم المربي، وأشباه هؤلاء.
ثم هذا التصوير: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ والاستفهام للإنكار، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات:12] ما في موضع في القرآن صور فيه عمل من الأعمال بصورة قبيحة كالغيبة، فيكف لا تكون من الكبائر؟!
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ هو أكل لحم الإنسان أمر تنفر منه الطباع، ولو أحد كتب عنوان في النت مثلاً: مشهد أكل لحوم البشر، فإن النفوس تنقبض، ويبدأ الناس يتهافتون يريدون أن ينظروا هذا المنظر، ولربما كتب عليه لا يدخل أصحاب القلوب الضعيفة، هذا شيء مقزز، هذا أمر لا يمكن أن يتصور من أصحاب النفوس السوية، أَنْ يَأْكُلَ هذا لحم إنسان، فكيف إذا كان يأكل لحم أخيه؟!
هذا أشد في البشاعة الناس لا يستطيعون النظر إلى الميت فكيف بتشريحه كيف بتقطيعه كيف بأكل لحمه؟! لحم أخيه وهو ميت، فالنفوس تنفر من هذا، ولو كانت لحوم الأعداء لنفرت النفوس من تقطيعها فضلاً عن أكلها.
قال: فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] كرهتم هذا الأمر المشهود المحسوس فذاك الأمر المعقول هو مثل هذا بل أشد، فَكَرِهْتُمُوهُ إذن لا تغتابوا فإن الغيبة هي بهذه المثابة، ولهذا أرشدهم إلى تقوى الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ؛ لأن تقوى الله هي الذي يحبسهم ويحجزهم ويمنعهم من الوقوع فيما حرم الله -، لا سيما الأمور التي يوجد في النفس ما يدعو إليها.
فالغيبة كما يقال: فاكهة المجالس، الشيطان يجعل لها لذة وطعمًا، فتكون في النفوس رغبة لسماعها، أو المشاركة فيها، فيطرب بعض الناس ويأنس ويسر ويلتذ إذا كان الحديث عن زيد وعمرو، بل بعضهم -نسأل الله العافية- لربما تسمعه يقول لك: هذا يحتاج له جلسة على شاهي، إذا ذكر أحد أو سئل عن أحد، قال: هذا يحتاج له جلسة على شاهي، يعني يريد يتوسع في عرضه، نسأل الله العافية.
فهذا من أعجب الأشياء جرأة على أعراض المسلمين، وكثير منا إنما يقع في ذلك من باب التأويل، يتأول أن هنا مصلحة، مع أن المصلحة قد تكون غير متحققة، وقد تكون بما لا يبلغ عشر هذا، قد تتحقق المصلحة بأدنى من هذا بكثير، لكن هذه المصلحة لا تعني أن الإنسان يتوسع فيتكلم بما شاء، وصار العرض المسلم مباحًا، وكثير من الناس أيضًا يسأل عن غيبة أولئك، أو الطائفة الفلانية، أو كذا، نقول: ما حاجتك أصلاً للغيبة، لو شغل هذا اللسان بسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، خير لك من أن تسأل عن غيبة هذه الطائفة، أو تلك من الطوائف المنحرفة البدعية، أو يقول: أنا أسخر منهم واستهزئ من لهجتهم، أو من طريقتهم في كذا، أو كذا، نقول: السخرية ليست من صفات أهل الكمالات، وموسى لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، فالذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم هذا من الجاهلين، العاقل لا يسخر بأحد.
قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] فهنا فتح لهم باب الأمل والتوبة، يقبل توبة من تاب، تواب: يوفق إلى التوبة من شاء، وهو أيضًا رحيم بعباده من رجع منهم وتاب قبل الله منه، وعفى عنه، ومحى ذنوبه، لكن يبقى بالنسبة للتوبة أنه لا يكفي مجرد الندم، والشروط المعروفة في الذنوب العامة التي تكون بين العبد وبين ربه: الندم، والإقلاع، والعزم على ألا يعود، ومفارقة الذنب، هذه الشروط الأربعة التي في كل ذنب، والغيبة فيها أمر زائد، التوبة فيها تطلب التحلل من حق المخلوق هذا الذي اغتيب، لا يكفي أن يندم بينه وبين الله ويبكي إلى يوم القيامة، لا يكفي باقي حق المخلوق، وكيف يؤدى حق المخلوق، هذا بعض العلماء يقول: لا بد أن يتحلل.
وبعضهم وهو الأقرب يقول: ينظر في ذلك إلى المصلحة والمفسدة، وقد ذكر مثل هذا النووي[3] -رحمه الله- بحيث إذا كان اعتذاره له وتحلله منه يفضي إلى مفسدة أكبر من القطيعة والعداوة وما إلى ذلك فالشريعة ما جاءت بقطع الأواصر، وتأجيج العداوات بين المسلمين، قالوا عندها: يذكره في المقامات التي ذكره فيها بالسوء يذكره بأضداد ذلك، ويكثر من الدعاء له.
فأقول: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة أن الإنسان يورط نفسه فيغتاب الناس ثم يبدأ يذكرهم في المجالس بعكس ما ذكرهم، ثم يجلس يدعو لهم كلما دعا لنفسه من أجل أن يتخفف من تبعات هذه الغيبة، ما الحاجة إلى هذا؟! إذا أراد الإنسان أن يغتاب أحد، قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وإذا جاء أحد يغتاب عنده قال له: سبح يا أخي سبح، اشغلنا بما ينفع، حرك هذا اللسان بدلاً منه في أعراض الناس حركه بالذكر، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، فهذا خير لنا ولك، والناس كثيرًا ما يجاملون، ولكن النتيجة تكون أن يدفعوا الثمن غاليا في يوم لا درهم فيه ولا دينار، الحسنات تجد الرجل لربما يصوم ذاك اليوم، ويفطر في آخر النهار يذكر هذا بكلمة وهذا بكلمة، وهذا ما عندك أحد، وهذا ما بالحمض أحد، وهذا كم واحد عند روحه يحسبه رجل، وكلمات كأنه رماح، فما لك في الناس؟! وما حاجتك في ذكرهم؟! وما الفائدة التي استفدتها الآن؟ وخرجت فيها يوم أنك ترمي هذا الشرر على هذا وهذا ولا يسلم أحد؟!
كل ما ذكر عنده أحد رمى بكلمة، قال: كل ما قلته صحيح!، -ما شاء الله- هذه هي الغيبة، ذكرك أخاك بما يكره، فإن لم يكن فيه هذا فهو البهتان، وهذا أشد، هذا إذا كان صحيح ما قلته، ولو أن الناس حينما تجتمع مجالسهم وذكرت أنت عندهم فقيل: فلان زول رجال لكن ما عندك أحد، هل ترضى؟ كيف تقول هذا في الناس؟!
فالإنسان ينبغي أن يضع نفسه موضع الآخرين قبل أن يتكلم، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، الكلمات التي يقولها يضع نفسه نفس المكان، يرضى أنه يشرح بهذه المشاريط ويتكلم الناس فيه؟!.
وبعض الناس لربما يرسل رسالة بالجوال من رقم لا يعرف: حللني فقد اغتبتك، أنا لا أرى أن يحلل هؤلاء بإطلاق، لأنك إذا حللته جرأته على المعصية، وعلى الغيبة، قد تبادر وتقول: أنا جعلت المسلمين في حل فيجترئ على الغيبة، فتقول: لا، إن كان توبة فأنت في حل، وإن لم تكن توبة فلست في حل، أعراضنا ليست كلأ مباحًا لك، أعراض المسلمين لا يجوز للإنسان أن يجترئ عليها، فيأتي ويغتاب الناس ويرسل لهم رسالة يقول: اغتبتك حللني، كيف تحلل هذا! وإنما يكون ذلك مشروطًا، -والله المستعان-، وهذا أمر لا يكاد يسلم منه أحد حتى إن أحد العلماء جعل على نفسه أنه إذا اغتاب أحدًا يصوم يومًا، والصوم يسهل عليه، يقول: فجعلت أصوم فرأيت أن ذلك لا يردعني من الغيبة، فصار إذا اغتاب أحد يتصدق بدرهم، والدراهم عزيزة، فلو أن الإنسان منا قال: كلما اغتبت إنسان أتصدق بمائة ريال، مائة ومائتين وثلاث وأربع جاء الشهر وما بقي له شيء، فهذا لعله يحجزه ويمنعه من الغيبة، يجعل على نفسه هذا من غير نذر، لعله يمتنع ويسلم من أعراض الناس.
فهذه الآية الأولى، وسيأتي الكلام عن البقية.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم (2589).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم (4875)، وقال الألباني في تحقيق "رياض الصالحين": "حسن صحيح"، الحديث برقم (1533).
- انظر: رياض الصالحين ت الفحل (ص: 421).