الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «لا يدخل الجنة نمام» إلى «ألا أنبئكم ما العضة..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فهذا باب تحريم النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد.

النميمة نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد هذا معنى قريب يوضحها ويبينها، وإن كانت هذه الكلمة تقال لمعان أخر، ولكن المناسب في هذا الباب هو ما ذكره الإمام النووي -رحمه الله-.

والمقصود: أن النميمة إنما تكون بهذين القيدين: أن يكون ذلك من قبيل نقل الكلام.

والأمر الثاني: أن يكون ذلك مما يحصل به فساد أو إفساد يعني بين الناس، فإن نقل الأشياء التي تحرك الغرائز، وما إلى هذا لا يكون من قبيل النميمة، يعني إنسان يتحدث عن أشياء، أو عن وقائع تحرك غرائز الناس، أو تثير الشبهات في نفوسهم، فإن هذا ليس من قبيل النميمة، لكنه يحصل به فساد فما كل ما يحصل به فساد مما يقال يكون من قبيل النميمة، إنما هي نقل لكلام الغير، مما يحصل به فساد، سواء كان ذلك يقصده أو لا يقصده، يعني: سواء كان الناقل يقصد أو لا يقصد، وسواء كان ذلك الكلام مقولاً في ذلك المنقول إليه أو لم يكن منقولاً فيه، وهذه مهمة، بمعنى: هذا الإنسان الذي ينقل كلام زيد لعمرو، تارة ينقل كلام زيد لعمرو الذي قاله زيد فيه مما يكرهه، ويستاء منه، فهذه أجلى صور النميمة، يقول له: فلان يقول فيك كذا وكذا، وفلان يتكلم عنك بكذا وكذا، فهذه التي تفعل فعل السحر، كما سيأتي، تفسد الود، وتورث العداوات بين الناس، لكن هناك صور أخرى من النميمة، هي نميمة، كأن يكون هذا الإنسان قال كلامًا ليس في زيد، فجاء هذا الناقل ونقله لزيد، لكن القائل يكره أن ينقل هذا الكلام، ويحصل عليه به ضرر، فينقله للآخرين فيتضرر هذا القائل، فيكون ذلك من قبيل النميمة، يعني: يقول: ما سمعت ماذا يقول فلان؟ يقول كذا وكذا وكذا، من كلام قاله أو ائتمنه عليه ونحو هذا، فنقله إلى غيره، فهذا النقل الذي يحصل به فساد أو إفساد بين الناس، يكون من قبيل النميمة، ولو لم يكن مقولاً في هذا المنقول إليه، وقد يكون مقولاً في شخص آخر، لكن هذا ينقله، أما علمت ما يقول فلان في فلان، وهكذا الأمور تنتقل، يقولها الرجل لأحد يثق به، وهذا ينقلها لثالث يثق به؛ وذاك ينقلها لرابع يثق به، ثم الخامس حتى يكون ذلك يصل إلى من لا يريد وصول ذلك إليه، فيتناقل الناس مثل هذا الذي يكره أن يُنقل عنه، فكل هذا داخل في النميمة.

لكن إن كان هذا النقل لا يحصل بسببه شيء من هذا، كأن ينقل ثناءه عليه، أو أن ينقل عنه كلامًا معروفًا، لا يكره نقله، فهذا ليس من قبيل النميمة، أما إن كان يكره نقل ذلك، فإنه يكون من هذا القبيل، قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] هماز هذه صيغة مبالغة، يعني كثير الهمز، يعني أنه يغتاب الناس، ويعيب الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] يعني: مشاء صيغة مبالغة، يكثر المشي بين الناس بالنميمة، ونقال للكلام الرديء، وحمال، راحلة لمثل هذه الأمور المشينة، ويسعى بين الناس بالإفساد، وهذا لا يكون من أهل الدين، ولا من أهل المروءات، ولا من أصحاب النفوس الكريمة بحال من الأحوال، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وقد مضى الكلام على هذا بمعنى أن الإنسان يحاسب على ما يقول، وما ينقل.

ثم ذكر حديث حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يدخل الجنة نمام[1]، متفق عليه.

والنمام كثير النميمة.

لا يدخل الجنة بعض أهل العلم يحملون هذا على محامل من أجل أن هذا من أصحاب الذنوب، ومن ثم فإن مآله إلى الجنة، فكيف قال: لا يدخل الجنة؟ فيذكرون إما لكونه مستحلاً، أو لا يدخل حتى يعذب ويحاسب، وهذه حقوق تتعلق بالخلق، فيحبس بسببها إلى غير ذلك مما يقولون، ومثل الإمام أحمد -رحمه الله-، وطائفة من أهل العلم لا يرون التعرض لنصوص الوعيد هذه، من أجل أن يحصل بها الردع، ولكن قوله ﷺ: لا يدخل الجنة نمام يدل قطعًا على أن ذلك من كبائر الذنوب، فإن من ضوابط الكبيرة أن يقال عن عمل من الأعمال بأن صاحبه لا يدخل الجنة، أو يرد الوعيد بالنار على هذا العمل.

ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير! بلى إنه كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله[2] متفق عليه.  وهذا لفظ إحدى روايات البخاري.

قوله: مر بقبرين قيل: إنهما من قبور المشركين، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.

فقال: إنهما يعذبان يعني: إن ذلك كشف له ﷺ، وإلا فإن هذا من أمور الغيب، التي لا يطلع عليها الناس، ولا يمكنهم أن يتوصلوا إليها، إلا على وجه خرق العادة، يعني: أن يكشفه الله لبعض عباده، ولمن شاء منهم، ولا يمكن أن يتوصل لهذا عبر أجهزة يسمعون أصوات المعذبين، ولا غير ذلك، كما قد يقال.

قال: إنهما يعذبان وهذا فيه إثبات عذاب القبر.

وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير ما معنى هذا؟ هنا النووي -رحمه الله- يقول: "أنه ليس بكبير في زعمهما، والثاني: أنه ليس بكبير تركه عليهما، وحكى القاضي عياض -رحمه الله تعالى- تأويلاً ثالثًا أي ليس بأكبر الكبائر، قلت: فعلى هذا يكون المراد بهذا الزجر والتحذير لغيرهما، أي لا يتوهم أحد أن التعذيب لا يكون إلا في أكبر الكبائر الموبقات، فإنه يكون في غيرها، والله أعلم"[3]، والأقوال في هذا كثيرة.

قال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير ربما يكون المراد وما يعذبان في كبير في نظرهما أنه شيء تافه، كما قال النبي ﷺ في المنافق وحاله مع الذنب إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه[4]، هكذا فهو لا يبالي.

ويحتمل: أن يكون أن ذلك في نظر الناس ليس بكبير، وأنه شيء يسير، يتساهل الناس في مثل هذا، وهو في جرمه، وعند الله -تبارك وتعالى- وفي عقوبته كبير، وهذا من أقرب الوجوه.

وبعضهم يقول: وما يعذبان في كبير يعني: ليس ذلك الأمر مما يصعب التحرز منه، لو أرادوا، فليست قضية تحتاج إلى كبير مجاهدة؛ لأن التخلص منها صعب، وإنما هو يمكن التخلص منه والتحرز فهو شيء يسير من هذه الحيثية.

وبعضهم يقول: وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير عليهما يعني يثقل عليهما لضعف نفوسهما، وضعف التقوى في قلوبهما، فيعظم عليهما مثل هذا، نعم مع أنه ليس بالشيء الكبير.

وبعضهم يقول غير ذلك، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- ما ذكرت، وهو أنه في نظر الناس شيء يسير، يتساهلون فيه، ولكنه في عقوبته كبير، لكنه عند الله كبير.

فقال هنا: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة وهذا يدل على أن ذلك من عادته، فكان من خلقه أنه استمرأ هذا الفعل. وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله تحتمل أن المقصود لا يستر عورته، كما قاله بعض أهل العلم.

ويحتمل: أنه لا يستتر من بوله بمعنى أن البول -أعزكم الله- يرتد عليه، فيتطاير، فكان لا يحترز من ذلك، فيصيب بدنه وثوبه.

وفي بعض روايات الحديث: كان لا يستبرئ[5] وفي بعضها: لا يستنزه[6] فهذه الروايات تدل على أن المقصود بقوله: لا يستتر أنه هذا المعنى إنه ما كان يتنزه من البول، فما كان يحترز من أن يصيبه، فبعض الناس لا يبالي بهذا فيرد على مكان فيه صلابة مثلاً، فيتبول ثم يتطاير ذلك على ثيابه، أو نحو ذلك، أو يستقبل الريح، وهو في فضاء، ثم يرجع ذلك عليه، ثم لا يحترز ولا يغسل أثره، ولا يتوق مثل هذه النجاسات، فهذا يدل على نجاسة البول، وأنه يجب الاستبراء والاستنزاه من ذلك، وإلا فإن تركه وترك المبالاة بمثل هذا يعد من كبائر الذنوب؛ لأن هذا عذب في قبره عليه، لكن هل يقال: إن ذلك يقتضي أن الإنسان إذا قضى حاجته أن يحتاج أن يتنحنح كما يقول بعص الفقهاء؛ ليخرج شيء، إن كان يوجد ما قد يخرج، أو يحتاج إلى أنه يقوم ويقعد كما يفعل بعضهم، أو يحتاج إلى النتر أو السلت، كما يقول بعض الفقهاء؟

الجواب: لا، بل إن ذلك يورث الوسوسة، ولا ينقطع بهذا الفعل معه البول، بل يستدر، وإنما يكفي الإنسان أن يستنجي، ثم بعد ذلك ينصرف، لكن من عرف أن من عادته أنه يخرج شيء قطعًا بعد قضاء الحاجة بقليل، وليس وسوسة، فيمكن أن يتريث حتى يسلم من ذلك.

قال: لا يستتر من بوله متفق عليه، وهذا إحدى روايات البخاري، وذكرت إحدى الروايات الأخرى.

ثم ذكر حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة؛ القالة بين الناس[7] رواه مسلم.

يقول النووي -رحمه الله-: العَضْه بفتح العين المهملة، وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء على وزن الوجه، وروي: (العِضَةُ) بكسر العين، وفتح الضاد المعجمة، على وزن العدة[8]، وهي: الكذب والبهتان، وعلى الرواية الأولى: العضه مصدر، يقال: عضهه عضها، أي: رماه بالعضه.

فالمقصود هنا ألا أنبئكم ما العضه؟ العضه تطلق على عدة معانٍ، أحد هذه الإطلاقات السحر، ويقال: العضيهة، ويقال: هذه لغة قريش، يقولون للسحر: العضه، فهنا أطلقها على النميمة ألا أنبئكم ما العضه؟ بأسلوب الاستفهام الذي يحصل به انجذاب السامع والتشويق، وشد الانتباه هي النميمة القالة بين الناس إذا كانت تطلق على السحر، يعني العضه، فقال بعض أهل العلم: لأن النميمة تفعل فعل السحر، فتحول المتحابين إلى متباغضين، وتحول الود إلى عداوة، يأتي شيطان بينهم فيقول: ما علمت ما يقول فيك فلان يقول عنك كذا وكذا، لا يذكرك بخير، بل يذمك ويتحدث بما يسوؤك، فهذا فعل الشياطين، هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا الكلام هذا فعل الشياطين، وبعضهم يورد ذلك في ثوب النصيحة والمحبة، أنا محب لك، ولا أرضى فيك، ولا أسمح لأحد أن يقول فيك، فإذا كنت لا تسمح يكفي أن ترد على عرضه في المجلس الذي سمعت فيه، وتقول هذا الكلام غير صحيح، واتق الله، أما نقل الكلام فهذا لا يفعله من يحب في الواقع، إنما يفعله من يريد أن يثير العداوة، فأول ما يصلك من نقل هذا الكلام هو الحزن يكتئب الإنسان حين يسمع هذا الكلام، ومن عرف منه كل ما أقبل عليك أن عنده خبر سيء، هو حمال للأخبار السيئة، فإنه يكون من الثقلاء، وهذا من أعظم الأسباب التي يصير فيها الإنسان ثقيلاً، بمجرد ما تراه ترى الكآبة، تنتظر متى ما يقوم يتسنن من أجل أن تخرج مسرعًا؛ لئلا تراه، ولا تسمع ما يقول؛ لأنه سيأتيك بخبر سيء، فإذا رأيته فإنه لا بد أن يكون معه خبرًا يسوؤك، قد يورده على سبيل النصيحة، وما أشبه ذلك، وهذا في الواقع لا يجوز، وهو نميمة، والإنسان ينبغي أن ينقل الكلام الطيب الذي يقوي القلوب، ويدفعها إلى فعل الخير، وإلى محبة الخير، ومحبة الناس، والإحسان إليهم، ومحبة البر والمعروف، لا أن ينقل الشيء الذي يصيب النفوس بالحزن، ويورث الضغائن، وما أشبه ذلك.

وينبغي للعاقل ألا يسمح للآخرين أن ينقلوا له مثل هذا، بل ينبغي له أن يفر من ذلك فراره من الأسد، أما الذي يرخي سمعه، ويصغي فهو أول من يكتوي بمثل هذه البلية، والله تعالى أعلم، والله المستعان.

وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة برقم (6056) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة برقم (105) واللفظ لمسلم.
  2. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول برقم (218) ومسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
  3. شرح النووي على مسلم (3/201).
  4. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم (2497).
  5. أخرجه النسائي في كتاب الجنائز في وضع الجريدة على القبر برقم (2068) وصححه الألباني.
  6. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
  7. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم النميمة برقم (2606).
  8. شرح النووي على مسلم (16/159).

مواد ذات صلة