الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب ذم ذي الوجهين.
وقد ذكر هذا بعد الأبواب المتعلقة بالنميمة؛ وذلك لأن ذي الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، ومثل هذا لربما يقع بشيء من النميمة، فينقل كلام هؤلاء لهؤلاء، وكلام هؤلاء لهؤلاء؛ ليظهر المودة لهؤلاء تارة، وأنه معهم، ويظهر المودة لأولئك تارة أخرى، وأنه معهم، فيتزين عندهم بذلك، ومثل هذا الخُلق وهذا التلون يدل على ضعف، وقلة مراقبة لله -تبارك وتعالى-، ويدل على خور وضعف في شخصية الإنسان، فهو لا يستطيع أن يثبت على مبدأ، وأن يواجه الآخرين بما يعتقد، وأن يقف مع الحق حيث كان، فذلك وصف المنافقين، أعني أن يكون له وجهان، فالمنافقون لهم وجهان، وجه مع المسلمين، ووجه مع غير المسلمين وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فيلقى أهل الإيمان بوجه، ويلقى أعداء الله بوجه، وإنما النفاق مبناه على الكذب، وهذا الذي يزاول هذا العمل المشين يكون له وجهان، إنما مبنى هذا الفعل أيضًا على الكذب، والكذب إنما يكون من نفس تنتابها المخاوف، لا تستطيع الثبات على الحق، فهو يخاف الناس أعظم من خوفه من الله -تبارك وتعالى-، فإذا تعاظم المخلوق في نفسه، فإنه لا يستطيع أن يقول ما يعتقد، وأن يقف عند ما يعتقد، قال الله عن المنافقين: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا يعني: المدينة ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] فهم مع من غلب، ولا يستطيع الواحد منهم أن يكون قويًا ثابتًا على مبدأه، قال الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108] يستخفون من الناس، يعني: يستترون من الناس بجرائرهم وجرائمهم وأعمالهم المشينة من سرقة، وتبييت ما لا يرضى من القول، أو غير ذلك من الأقوال والأفعال التي يسخطها الله -تبارك وتعالى-، وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ يعني: يدبرون وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا فمن قلت مراقبته لربه -تبارك وتعالى- وقع منه مثل هذا الاستخفاف، فجعل الله -تبارك وتعالى- أهون الناظرين إليه، فصار يستخفي من الآدميين ومن المخلوقين، ولكنه لا يستخفي من ربه -تبارك وتعالى-، وهو يراه ويراقبه، والملك يكتب ما يصدر عنه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم كراهية له، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه[1]، متفق عليه.
تجدون الناس معادن المعادن يعني أنه لهم أصول، ينسبون إليها، ويتفاخرون بها الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا يعني: عرفوا أحكام الله ، وشرائعه، فهؤلاء الخيار في الجاهلية من أصحاب الندى والنجدة، والأفعال الطيبة الكريمة، والإحسان، وما إلى ذلك إذا أسلموا صاروا بهذه المثابة أيضًا يكونون من خيار المسلمين، فهؤلاء من أشراف الناس، وأجوادهم، وما أشبه ذلك من الكرام، وأهل الجود والبذل، يكونون هم الخيار إذا أسلموا، وعرفوا شرائع الإسلام.
وتجدون خيار الناس في هذا الشأن يعني في شأن الولايات والإمارة، وما إلى ذلك أشدهم كراهية له هذا ضابط من الضوابط المهمة، يعني عندنا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26] فمن تحقق فيه وصفان القوة والأمانة، فإنه يكون أهلاً لهذه الولايات.
وهنا وصف ثالث وهو الزهد في هذه الولايات والمناصب، وما إلى ذلك مما يتهافت عليه كثير من الفراش، وما علم الإنسان أنه يُوكل إلى نفسه إذا طلب ذلك، واستشرف لهذه الأمور والمطالب الدنية.
ويقول: تجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم كراهية له أشدهم كراهية له، هذا يدل على زهده، ويدل على خوفه من الله، ومراقبته له، ويدل على استشعاره المسؤولية، فهو يعرف أن هذا تكليف، وليس بتشريف، وأنها مهمة صعبة، وأنها حمل، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72] وإذا سرحت طرفك يمنة ويسرة رأيت في الناس عجائب في هذا الباب، وفي طلب الرئاسة، وطلب الولايات، ويرون أن ذلك من المكارم والفضائل، ويهنئ بعضهم بعضًا على هذه الأمور، التي لربما يذهب فيها آخرته، وتضيع لربما دنياه أيضًا؛ ولهذا كان بعض العقلاء -واقرؤوا التاريخ- يأتيه مرسوم بتولية على أقاليم واسعة، كخراسان، وما وراء النهر، ونحو ذلك، فيأبى؛ لأنه ينظر إلى هذا المرسوم -مرسوم الولاية- وينظر في الوقت نفسه بالعين الأخرى إلى مرسوم العزل، وما يصيبه بسبب ذلك من الغم، فبقدر ما يفرح بمرسوم الولاية، وأن هذه ثقة حضي بها، يتذكر ما يصيبه من هم وغم لما فقده من ذلك المحبوب والمطلوب إلى نفسه، فأمر هذا شأنه حري بالعاقل أن يزهد فيه، هذا بالإضافة إلى التبعة والمسؤولية، وأنه يأتي يوم القيامة مغلولاً، حتى يطلقه عمله، فالإنسان الذي يلي على جماعة من الناس عشرة فما فوق، يأتي يوم القيامة بهذه الحال، وبهذه المثابة، وإنما يطلقه عمله.
قال: وتجدون شر الناس ذا الوجهين وأطلق النبي ﷺ، ما قال في هذا الشأن، فدل على أنه شر الناس بإطلاق، وهذه صفة المنافقين، كما سبق، وقد قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] فهم بهذه المنزلة، يعني: تحت الكفار، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه متفق عليه.
المنافقون كانوا يفعلون هذا، فهم كالشاة العائرة، كما أخبر النبي ﷺ: مثل المنافق، كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة[2]، يريدون أن يتخذوا بين هؤلاء يدًا، وأن يتخذوا عند أولئك يدًا، ويقولون: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] فهم يريدون أن يوثقوا لأنفسهم أمورًا تذهب هباء، لا يجدون منها شيئًا، واعتبروا بما تشاهدونه في مثل هذه الأوقات شرقًا وغربًا في البلاد المحيطة بكم، فقد بقي هؤلاء في حسرة، ولم يجدوا نصيرًا، وصار الذي ينتظرون منه النصر والتمكين عونًا عليهم، وأتوا من قبله، في بعض أحوالهم.
فهنا قال: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه وأسوأ هؤلاء من يكون بذله لدينه من أجل أن يتخذ يدًا عند هؤلاء، أو يجد عندهم من حطام الدنيا، فيتكلم عند أولئك المنافقين وأضرابهم بكلام يعجبهم ويروق لهم، حتى يروج عندهم، وتكون سوقه نافقة، ويتحدث عند أهل الإيمان أو يظهر بزيهم، ونحو ذلك، فيروج عندهم، فهو ها هنا وها هنا، وهذه حال ضعفاء الناس وأهل النفاق، ضعفاء النفوس.
ثم ذكر ما جاء عن محمد بن زيد: أن ناسًا قالوا لجده عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: إنا ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم. قال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله ﷺ، رواه البخاري[3].
قوله: "ندخل على سلاطيننا" بعضهم فرق بين السلطان والملك والأمير، فقالوا: السلطان من ولي على إقليمين فأكثر، والملك من ولي على إقليم واحد، والأمير من ولي على ما دون ذلك، يعني بلدة ومدينة، أو نحو ذلك، وعلى كل حال هذا اصطلاح لدى بعض المتأخرين.
"ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم" يعني: يذكرونهم بشيء من الإطراء والمدح والثناء وما إلى ذلك، ويذكرون لهم مشاعر غير صادقة.
"فإذا خرجوا من عندهم، قالوا غير ذلك" يعني ذموهم وعابوهم، فما يكون هذا؟ "قال: كنا نعد هذا نفاقًا على عهد رسول الله ﷺ" يعني: أنه من قبيل النفاق العملي، وما يكون بهذه المثابة فهو من هؤلاء، يعني: أنه صاحب وجهين، يلقى هؤلاء بوجه، ويلقى هؤلاء بوجه، والمؤمن لا يتلون، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقول الحق، فينبغي عليه ألا يقول ما يعتقد أنه باطل، يسعه السكوت، أن يسكت ولا يتكلم لا بذم ولا بمدح، إذا كان لا يعتقد ذلك الذي يقوله من الثناء والإطراء، سواء كان هذا في وجه هذا المقول له مباشرة، أمامه، أو كان ذلك بطريق آخر، كأن يكون بطريق الكتابة، يكتب هذا بوسيلة من الوسائل، أو نحو ذلك، يتكلم بما لا يعتقد، ويكون بذلك كاذبًا، ويعلم من نفسه ذلك، فهو ليس بملزم، أن يقول مثل هذا الكلام الذي لا يعتقده، فهذا نوع نفاق، وهو من قبيل النفاق العملي، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقول الحق، فلا يتكلم بالباطل، وإنما يمسك لسانه، ويتق الله، والله -تبارك وتعالى- يكتب ما يقول، ويحاسبه ويجازيه على ذلك.
هذه آخر أبواب الغيبة، وما يتصل بها، والله تعالى أعلم.
وصلى الله نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] برقم (3493) ومسلم في فضائل الصحابة، باب خيار الناس برقم (2526).
- أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم برقم (2784).
- أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك برقم (7178).