الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فهذا باب النهي عن سوء الظن بالمسلمين، من غير ضرورة.

الأصل أن المسلم يحسن الظن بإخوانه، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] وقد مضى الكلام على ذلك.

ولكن هنا في هذا الباب النهي عن سوء الظن بالمسلمين من غير ضرورة، يعني: من غير موجب.

أما من وضع نفسه في مواضع الريب، وتصرف تصرفات توجب الريبة، ثم بعد ذلك أساء الناس الظن به، فإنهم غير مؤاخذين، وعليه أن يبين حاله؛ ولهذا فإن النبي ﷺ حينما كان مع زوجته صفية -رضي الله عنها-، حينما كان معتكفًا، فقام معها لقلبها، يعني: ليوصلها إلى باب المسجد؛ لترجع إلى دارها، فرآه رجلان من الأنصار، فأسرع، وكان ذلك في الليل، فقال النبي ﷺ: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا أو قال: شيئًا[1].

فمن كان في مقام كهذا، فإنه يحتاج إلى أن يوضح، من أجل ألا يُساء الظن به، ولما كان  النبي ﷺ في طريقه إلى مكة، فبركت ناقته القصوى، وهي ناقة جيدة، بركت في الحديبية، وإذا وجهوها إلى مكة بركت، حرنت، وإذا وجهوها إلى المدينة انطلقت، فالناس قالوا: حينما رأوا ذلك: خلأت القصوى، بمعنى: انقطعت، والإبل كانت من طول المسير لربما تنقطع في الطريق، فتأبى القيام والحركة والانتقال، حتى أنها لو نحرت، أو انحرفت لم تفارق مكانها، فقالوا: خلأت القصوى، يعني: انقطعت (حرنت) فقال النبي ﷺ : ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق يعني: ليس هذا من عادتها الناقة جيدة، وإنما حبسها حابس الفيل[2].

والمقصود بحابس الفيل: أن الله -تبارك وتعالى- رجم أبرهة والفيل ومن معه بالطير الأبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۝ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:4-5] لحرمة بيت الله -تبارك وتعالى-، فهذه الناقة حبسها حابس الفيل؛ لحرمة بيت الله الحرام.

فالحديبية كان بعضها في الحل، وبعضها في الحرم، فلما أقبلت على حدود الحرم بركت، وخافت، وما استطاعت أن تنطلق، وهنالك وقع الصلح.

فالشاهد أن النبي ﷺ هنا ما عاب عليهم، وما أنكر عليهم، وما قال: كيف حكمتم بهذا؟ وكيف ظننتم بها هذا الظن؟ وإنما أقرهم على ذلك؛ لأنهم رأوا أمرًا يعهدونه.

الناقة إذا حرنت بقيت لم تقم، لم تنطلق، يقال: خلئت، فهم حكموا بحسب الظاهر، فبين لهم النبي ﷺ أمرا آخر، وهو: أنه حبسها حابس الفيل، لكنه ما عاب عليهم قولهم، فدل على أن من حكم بحسب الظاهر، حسب ما يظهر له، فإنه لا يكون ملومًا، وإن كان الأولى، والأكمل، والأفضل أن الإنسان يبحث عن المحامل الحسنة، لكن كما قيل: من عرض نفسه للتهم والريب فلا يلومن إلا نفسه.

ومن ثم فمن دخل مداخل الريب فإن الناس سيظنون به ظنًا سيئًا، لكن هنا في هذا الباب من غير ضرورة، يعني: لم يوجد ما يوجب هذا الظن، ولكنه يسيء الظن بهؤلاء الناس، فمن الناس من هذا شأنه، قد تكون هذه تربيته، وقد تكون هذه نفسه، بمعنى: أنه من عادته أن طبيعة، هذه النفس ضعيفة، مريضة، يسيء الظن بالآخرين حتى في الفعال الجميلة والحسنة.

وإذا رأى أحدًا يتعبد لله ، ويبكي، ويخشع، قال: هذا ما بكى إلا لذنوب يعملها، فسّر الخشوع بجرائم، وخلفية سيئة، وكبائر، قال: ما بكى إلا لأمور يعلمها من نفسه، وإذا رأى أحدًا من الناس، لربما يشتغل بمصالح المسلمين، وينفعهم، ويخدمهم، ويبذل، قال: هذا يريد أن يتوصل، ويصل إلى مصالح، وأمور من جراء ذلك.

وهكذا إذا رأى موظفًا في مكان يخدم الناس، ويسارع في إنجاز معاملاتهم، وما إلى ذلك، قالوا: نعم هو يريد أن يصل إلى أمور عن طريق هذه الإنجازات وهذا الإسراع، ويسيء الظن بكل أحد.

فإن تصدق بقليل أسيء الظن به، وإن تصدق بكثير أسيء الظن به، كما كان المنافقون يصنعون، الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79]، فالذي يعطي القليل، يقولون: هذا بخيل، والذي يعطي الكثير، يقولون: هذا مرائي.

وقل مثل ذلك في مزاولات، وتصرفات شتى، نسأل الله العافية، سوء الظن هذا من غير موجب، بل هذا فعل إحسانا فكيف يساء به الظن؟

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] وقد مضى الكلام على هذه الآية، معنى ذلك أنه يأثم من هذه الظنون التي تكون من غير موجب.

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث[3]، متفق عليه، وهذا أيضًا قد مضى الكلام عليه.

يحذر ﷺ أمته: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث فإذا كان الله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12] والنبي ﷺ يقول: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث.

فينبغي أن يتخلق المؤمن بأضداد ذلك، يعني: أن يحسن الظن بالمسلمين، وأن يلتمس لهم المعاذير، وأن يحمل تصرفات هؤلاء الناس وأقوالهم على أحسن المحامل، ولا يبحث عن محامل سيئة، ثم يحمل أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم عليها، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ولذلك قال الله -تبارك وتعالى-: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فكم من إنسان بنى أمورًا وأحكامًا على ظنون سيئة، ثم انكشف الحال عن أضداد ذلك، فندم.

ولكن قد يكون هذا الندم لا ينفعه؛ لأنه فاتت أمور، وقطعت علائق، وقطعت أرحام، ولربما صارت تصرفات من قتال بين الناس، أو من قتل، وما إلى هذا.

ثم بعد ذلك يندم الإنسان، ويتبين له أنه قد ظلم هؤلاء، وأنه أساء الظن بهم، فكثير ما يقول الإنسان كلمة ليس فيها ما يعاب، ثم يحملها هذا الإنسان على أسوأ المحامل، ثم تكون ردود أفعاله بعد ذلك من قطيعة، أو رد قبيح، أو نحو هذا بناء على ظنه السيء، والله المستعان.

ثم ذكر بعد ذلك باب تحريم احتقار المسلمين، ولا أطيل عليكم، لعل هذا يكفي -إن شاء الله-، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم (3281) ومسلم في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به برقم (2175).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط برقم (2731).
  3. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع برقم (5143) ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس، برقم (2563) وهو بهذا السياق في رياض الصالحين ط الرسالة (ص: 446).

مواد ذات صلة