الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا..»، «إذا قال الرجل: هلك الناس..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب النهي عن الافتخار والبغي، والافتخار هو أن يعتد الإنسان على غيره بما له، ولآبائه من المآثر، فيفتخر هذا الإنسان على الناس بما له من الغنى والعرض، وكذلك بما له من المآثر في الآباء والأجداد، وما شابه ذلك، فهذا كله داخل في الافتخار، والله -تبارك وتعالى- قص علينا خبر الرجل الذي دخل بستانه، وافتخر بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- وأضاف ذلك إلى نفسه وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ۝ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ۝ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، فهذا هو الافتخار، افتخر عليه بالمال والولد.

وأما البغي فهو بمعنى العدوان، وأن الإنسان يتطاول على غيره، ويتجاوز حده فيما يتصل بحقوقهم، فيحصل منه نوع من الظلم لهم، والعدوان عليهم، قال الله تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تزكوا أنفسكم هنا يحتمل معنيين، وكلاهما -والله تعالى أعلم- صحيح.

الأول: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ وهو الذي يصلح هنا في موضع الشاهد الذي ساق المصنف -رحمه الله- هذه الآية من أجل تقريره، وهو أن يزكي الإنسان نفسه، فيقول: أنا كذا، أنا كذا، فيثني عليها، ويطريها، ويمدحها، فهذا أمر لا يليق.

والمعنى الثاني: وهو صحيح فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي نهي عن تزكية الغير، والثناء عليهم، ومدحهم بأمور يزكيهم بها، كأن يقول: فلان طيب، وفلان صالح، وفلان تقي، وفلان شهيد، وما أشبه ذلك، هذا كله من قبيل التزكية، والعلة في آخره، وهو قوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى يشمل هذا، وهذا، ومن ثم فإن الإنسان كما يقول أهل العلم: لا يستطيع أن يزكي نفسه، كأن يقول مثلاً: أنا مخلص لله -تبارك وتعالى- ولو كان محققًا للإخلاص؛ لأنه لا يعلم لا يستطيع أن يزكي الإنسان نفسه، ويقول: إنه متجرد من الهوى، ولو كان قد تجرد من هواه بحسب المستطاع.

فالمقصود: أن مثل هذا يكون لا يستطيع الإنسان أن يزكي نفسه، وأن يتحقق من طهارتها، ومن سلامتها من الشوائب التي تتجارى في النفوس من دواعي الهوى، وذلك لخفائه، ولا يستطيع الإنسان أن يقول عن نفسه بأنه مخلص لله، أو أنه تقي، أو أنه صالح، وما إلى ذلك، كما أن الحكم على الآخرين بمثل هذا هو داخل فيه، وإنما يقول الإنسان غاية ما يقول، يقول: إذا زكى أحدًا إن احتاج إلى ذلك، يقول أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا؛ لأنه لا يعلم هل هو كما قال أم لا، إذًا قوله: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ يدخل فيه ألا يزكي الإنسان نفسه، وأيضًا لا يزكي الآخرين، فإن كان ولا بد في الآخرين فبهذا القيد، فإذا كان الإنسان لا يزكي نفسه، فإذًا كيف يفتخر على الآخرين، وكيف يحصل منه الترفع عليهم.

وقال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالمؤاخذة تكون على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، فهذا فيما يتصل بالبغي، وهذا البغي قد يكون باللسان، فيحصل منه شيء من الظلم لهم، أو الوقيعة في أعراضهم، أو الانتقاص لهم بلسانه، أو الافتخار عليهم بلسانه، أو الطعن في أعراضهم، أو القذف لهذه الأعراض؛ فهذا كله من البغي، وكذلك رمي الناس بما هو أعظم من ذلك كالكفر أو الضلالة والبدعة من غير موجب شرعي، فهذا كله من البغي، ويحصل البغي أيضًا على الناس بأخذ أموالهم، وأيضًا بأذيتهم بأبدانهم، بالقتل، فما دونه، كل هذا من البغي.

قال: وعن عياض بن حمار قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد[1] رواه مسلم.

التواضع إلى أي مدى، إلى أي حد يتواضع الإنسان بمعنى أنه يتاطمن كما قال الله في صفة أهل الإيمان، أو في صفة من يحبهم من عباده أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ والله قال لنبيه ﷺ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وخفض الجناح معناه التواضع أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد فيتحقق هذا المعنى إذا حصل التواضع، فإن الناس إذا تواضعوا لبعضهم؛ فإنه لا يحصل بينهم افتخار، ولا يحصل تطاول، ولا يحصل عدوان على الآخرين، فإن ذلك يكون من استرخاص دمائهم، وأعراضهم، وقلة المبالاة فيهم، يقول: قال أهل اللغة: البغي التعدي، والاستطالة.

ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم[2] رواه مسلم.

قال النووي -رحمه الله- الرواية المشهورة أهلكهم برفع الكاف، وروي بنصبها، يعني فهو أهلكهم، فعلى الرواية المشهورة يقول النووي -رحمه الله- وهذا النهي لمن قال ذلك عجبًا بنفسه، وتصاغرًا للناس، وارتفاعًا عليهم، فهذا هو الحرام، وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزنًا عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به، هكذا فسره العلماء، وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي[3] وآخرون، وقد أوضحته في كتاب الأذكار.

قوله ﷺ إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم النووي هنا -كما ترون- جعل ذلك على نوعين:

النوع الأول: أن يقول ذلك على سبيل الانتقاص لهم، فكأنه يرى نفسه أنه قد حقق النجاة، وأن هؤلاء الناس هلكى، وأن هؤلاء الناس في ضياع، يقوله على سبيل الترفع، واحتقار هؤلاء الناس، فهو أهلكهم؛ لأن هذا الذي وقع في قلبه من التكبر، والتعالي يكفيه علة، وداء، فهو أهلكهم يعني أعظمهم هلاكًا، وذلك لما وقع في قلبه تجاه إخوانه المسلمين، وإذا قاله تحزنًا عليهم، وتحسرًا لما يرى من كثرة الانحراف، فالنووي -رحمه الله- يقول: هذا لا إشكال فيه، ونقله عن هؤلاء الأئمة كمالك، والحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، والخطابي، وغير هؤلاء.

لكن هذا التفصيل الذي ذكروه، وإن كان له وجه إلا أن الحديث ليس فيه تقييد، يعني النبي ﷺ قال ذلك بإطلاق، قال: إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم ما قال إلا أن يكون كذا، وكذا، أو إن قاله تحزنًا، وتحسرًا عليهم، فدل ذلك على أن مثل هذه المقولة أنها ممنوعة بإطلاق، وذلك ينبئ -والله تعالى أعلم- عن حال قائلها، حتى لو كان ذلك على سبيل التحسر، فلا يخلو الزمان من قائم لله بحجة، ومن ظاهر على الحق، كما قال النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ومن ثم فإن مثل هذا الإنسان الذي يحكم على الناس بالعموم بالهلاك فإن هذا يدل على سوء ظنه بهم من جهة، ويدل على إحسان ظنه بنفسه من جهة أخرى، فهذا ينبئ أيضًا عن شعوره هو بأنه قد حقق النجاة، وأسباب النجاة، وأنه قد سلم مما وقع فيه هؤلاء الناس، وقد أشرت إلى معنى يشبه هذا من قبل، وقلت: إن بعض الوعاظ لربما يتكلم مع الناس بلغة فيها فوقية، ولكنه لا يشعر، يعني كأنه يشعر أنه قد حصل النجاة، وضمنها، لكن ما على الناس إلا أن يصححوا واقعهم، وأن يغيروا حالهم، أما هو فقد سلم من ذلك كله، ولهذا يخاطبهم أنتم كذا، وأنتم كذا، وأنتم كذا، ويؤذيهم بمثل هذا اللون من الخطاب، في أمور يكرهونها، فيسمعهم ما يشق عليهم، ويثقل عليهم سماعه، فهو مثل هذا الذي يقول -حتى لو كان على سبيل التحسر- هو أساء الظن بإخوانه، والأمر الثاني أنه فيه نوع التفات إلى النفس كأنه قد نجا، والله تعالى أعلم.

ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يقول مثل هذا، أو يقول: هلك الناس، ولا يطلق مثل هذه العمومات، وإنما يفصل، يقول كثير من الناس مثلاً: حصل لهم انحرافات، كثير من الناس يتسارعون في الأهواء، أو نحو ذلك، أما يقول هلك الناس هكذا بهذا الإطلاق، فهذا فيه إشكال، والله أعلم.

وأيضًا على الرواية الأخرى فهو أهلَكَهم يعني هو الذي حكم عليهم بذلك، وإن لم يكن الأمر بواقع الحال على ما وصف، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  2. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن قول هلك الناس، برقم (2623).
  3. انظر: الأذكار، للنووي (358).

مواد ذات صلة