الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام إلا لبدعة في المهجور، أو تظاهر بفسق، أو نحو ذلك، مضى الكلام على الآيتين اللتين صدر المصنف -رحمه الله- بهما هذا الباب، وكذا مضى الكلام على بعض الأحاديث، ومن ذلك مما أورده المصنف -رحمه الله- حديث جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم[1] رواه مسلم.
إن الشيطان قد أيس يعني يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، يعني أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم، يعني لا زال يطمع، ولا زال جهده وكده، وعمله وسعيه وبذله في التحريش بينهم، والتحريش هو الإفساد، وتغيير القلوب مما يورث الضغائن والكراهية بين المسلمين، والقطيعة، وما إلى ذلك، هذا هو التحريش، يحرش بينهم فيوغر الصدور، يحرك النفوس فتبقى فيها الشحناء، لربما يكون ذلك بأسباب مدركة كما قال الله -تبارك وتعالى- في أدناها في نظر كثير من الناس إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا من الشيطان، يعني من تزيينه، وتسويله لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا فيبقى في قلبه شيء من الوحشة والحزن؛ فيتغير قلبه على هؤلاء الناس، فهذه من آثار النجوى؛ لأنه يعتقد أن هؤلاء إما أنهم يتناجون في أمر يتصل به، أو أنهم يتناجون في أمر لا يتصل به، لكنهم لا يرون أنه منهم بتلك المنزلة، فيشترك معهم في هذا الحديث، فيستوحش، فينقبض، ويقع في نفسه على إخوانه ما يقع، هذا من أدنى الأشياء التي يتساهل، أو التي قد نراها من أدنى الأشياء، وليست كذلك، فكيف إذا صدرت إساءة واضحة بالقول أو بالفعل.
ومن الأشياء التي يوجد الشيطان بها هذه الوحشة في نفوس الناس أن الإنسان لربما انقطع عن أخيه مدة لا يلقاه لا لسبب، ولكن يطول عهده به، فيتغير قلبه، يجد وحشة تجاه أخيه، فلا يكون قلبه منه بتلك المنزلة التي كان عليها من قبل، وقد يكون أيضًا في بعض الحالات يكون الإنسان مسيئًا، يعني أنه يتكلم في غيبته بكلام لا يليق، وذاك لا يشعر به، ثم مع طول الوقت فهو لا يراه، فيستوحش، وتحصل بسبب ذلك قطيعة لربما الطرف الآخر لا يعلم سببها، ولكن ذاك ساء فعله؛ فساءت ظنونه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه | ... [2] |
فيبدأ يظن أن الآخرين يتخذون منه موقفًا، وأنهم لا ينظرون إليه بشيء من بالقبول، أو نحو ذلك، وهم لم يخطر لهم ذلك على بال، ولكن لسوء فعله ساءت الظنون بهم، إلى غير ذلك من الأمور.
لاحظوا: أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، أي يتحولوا إلى عباد أصنام يئس، ولذلك نقول لهؤلاء من المنحرفين من المنافقين الذين اليوم يسمون بالليبراليين، وغيرهم، ومواقعهم المأفونة، نقول لهؤلاء: لن تعدوا قدركم، وجهدكم، وعملكم إلى بوار، ولن يحصل مطلوبكم، فالنبي ﷺ قال: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب فمهما فعلتم فلن تبلغوا مبلغه، وإنما أنتم من جنده، وأتباعه، وهو يكيد بكل مستطاع عبر القرون، وما استطاع أن يفعل هذا أن يحول الناس إلى دين الآباء والأجداد في الجاهلية من عبادة غير الله -تبارك وتعالى-.
وهكذا ما ذكره النبي ﷺ في آخر الزمان من أن أشد هذه الأمة على الدجال بنو تميم، بنو تميم معروفون، ومواطنهم معروفة في قلب الجزيرة العربية، فهذا يدل على أن الناس سيبقون على حال من النضال عن الدين، والتمسك به، ومدافعة أعدائه وخصومه، فلكل دجال من الدجاجلة نصيب من دفعهم، وسيأتي رجال في أصلاب آبائهم يدفعون عن دين الله ويذودون عنه، ويلقى منهم أعداؤه ما يلقون من الجهاد المشروع، فهذه أمور أخبرنا عنها المعصوم ﷺ واليوم الواقع شاهد كبير يمكن لهؤلاء إن كانوا يعقلون أن يراجعوا أنفسهم، ويراجعوا مواقفهم في معاداة الله ورسوله وحزبه وأوليائه، فلا يوجد فساد، وإفساد أكثر مما وقع للمسلمين في تونس من التغريب، والعلمنة، ومحاربة الحجاب، ومحاربة المصلين، ومحاربة الدين بشتى صور المحاربة، ثم بعد ذلك لما انزاحت عنهم الغمة؛ أصبح يحضر محاضرة خلق في ملعب رياضي، هذا أسوأ مثال في التغريب، بمجرد ما انزاحت الغمة الحضور ملعب رياضي لمحاضر، الدورة العلمية أقل دورة علمية يحضرها ألف، فكيف بالبلاد التي ينتشر فيها العلم والخير والأخيار، والعلماء والصلحاء، وما أشبه ذلك، فمهما عمل أعداء الله ومهما بذلوا فإن جهدهم إلى خيبة، لكن في التحريش، فيقع بينهم الشر والتفرق.
ومن أشد وسائل التحريش اليوم هذه الوسائل في الاتصالات والوسائل الحديثة تجد حربًا طاحنة، لم يسلم من ذلك الأخيار، ولا غير الأخيار، يتطاحنون بينهم، فتفتت الصف، وتفرق الجمع، وهذا لا يجوز، والله يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.
ثم من هذا التحريش بين المصلين ما يقع بين المصلين حقيقة، يعني رواد المساجد، فلا تكاد تجد مسجدًا إلا وفيه من هذا التحريش، فتجد على أشياء تافهة أحيانًا، هذا لا يريد التكييف، وهذا يريد التكييف مثلاً، لا يكاد يخلو مسجد من مشكلة، حتى في هذه القضايا اليسيرة، هذا لا يصبر، وهذا لا يصبر، هذا يريد أن يحقق رغبته، وهذا يريد أن يحقق رغبته، فضلاً عن القضايا الأخرى، فهذا من عمل الشيطان.
ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات؛ دخل النار[3].
وهذا يدل على أن ذلك من الكبائر، وضابط الكبيرة -كما نعرف- ما جاء عليه الوعيد بخصوصه في النار، أو رتب عليه حد من الحدود، أو نحو هذا، فهذا يدل على أن الهجر فوق ثلاثة أيام أنه من الكبائر، وهذه قضية يتساهل فيها الناس، إلا الهجر المشروع -كما سبق- كهجر المبتدع، وهجر العاصي المعلن بفسقه إذا كان ذلك يردعه، وقد ذكرت فيما سبق أن الهجر دواء يوضع حيث نفع، إما لمصلحة المهجور كأن يرتدع بهذا الهجر، فإن لم يكن يرتدع لم يشرع الهجر في حقه إلا أن يكون الأمر الآخر، وهو أن يكون لمصلحة الهاجر، كون هذا الإنسان لا يسلم من شره إلا إذا هجره، فهنا يشرع له الهجر سواء كان هذا الأذى من جهة بدعته، وفسقه، ونحو ذلك يوصله إليه، فيضله، أو كان ذلك بسبب الأذى بالقول، والفعل يؤذيه، فإذا هجره كف عنه، واستراح، ولم يلقه، فهذا لا إشكال فيه.
وهكذا ما جاء فيه الهجر بالتأديب، مثل هجر الرجل لامرأته، على خلاف بين أهل العلم في المراد به، لكن من فسره بأنه هجر في الكلام أيضًا، والفراش فإنه يصح أن يكون فوق ثلاث، ويقولون هجر النبي ﷺ أزواجه لما آل منهن شهرًا كاملاً، لكن مسألة الهجر وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ مقيدة في المضاجع، ولهذا فإن كلام أهل العلم فيها معروف، منهم من يقول: أن يدير ظهره فقط إليها بالفراش، ما ينام في مكان آخر، ينام عندها، فيدير ظهره فقط، لكنه يكلمها، هجر في المضاجع، يدير ظهره بمعنى أنه لا يعاشرها.
بل إن بعضهم يقول يعاشرها، ولا يكلمها في الفراش فقط، وهذا بعيد، لكن الله قيد الهجر في المضاجع، فما يكون يجلس معها شهر، أو ستة أشهر في البيت، أو أكثر، لا يكلمها، يدخل ويخرج لا يكلمها، فمثل هذا ليس من قبيل الهجر في المضاجع، وبعضهم يقول غير ذلك في معنى الهجر في المضاجع.
والأقرب -والله أعلم- أن يكون من الجماع، والمعاشرة، والمباشرة، والمداعبة، وما أشبه ذلك، إذا كان أيضًا ذلك يردعها، فقد تكون هي أصلاً لا تريده، والمشكلة أصلاً بسبب هذا، أنها لا تريد أن يقربها، فيأتي فيهجر؛ فتستريح، وترى أن هذا الهجر هو عقاب له، وليس من قبيل العقاب لها.
فهنا كما قلت: الهجر دواء، فإذا كان ما ينفع فلا فائدة فيه، وهكذا فهذا رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
ثم ذكر حديث أبي خراش حدرد بن أبي حدرد الأسلمي، ويقال السلمي، الصحابي أنه سمع النبي ﷺ يقول: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه[4] رواه أبو داود بإسناد صحيح، وهذا أيضًا يدل على أنه من كبائر الذنوب من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه كقتله.
ثم ذكر الحديث الأخير، وهو حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث؛ فلقيه، فليسلم عليه[5] هذا هو الحل، وكما قلت: بأن الهجر يرتفع بالسلام، وإن لم يكن هناك علاقة حميمة كما يقال، فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام؛ فقد اشتراكا في الأجر، وإن لم يرد عليه؛ فقد باء بالإثم، يعني ذاك الذي لم يرد، قال: وخرج المسلم من الهجرة[6] يعني من الهجر وعاقبته، رواه أبو داود بإسناد حسن، وقال أبو داود: إذا كانت الهجرة لله تعالى فليس من هذا في شيء[7] -كما سبق- لكن هذا الحديث على كل حال لا يسلم من بعض رجال إسناده من مقال، الحديث فيه ضعف، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا، برقم (2812).
- انظر: الأمثال السائرة من شعر المتنبي، لابن عباد (60).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم (4914)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5035).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم (4915)، وقال الألباني في إسناده لين. انظر: مشكاة المصابيح، برقم (5036).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم (4912)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5037).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، برقم (4912)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5037).
- انظر: سنن أبي داود (4/279).