الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
(91) أذكار الأذان " يدعو لنفسه بين الأذان والإقامة ..."
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 1967
مرات الإستماع: 2121

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: في هذه الليلة -أيُّها الأحبّة- نختم حديثَنا عن الأذكار المتّصلة بالأذان، وذلك أنَّه آخر ما ذُكر هو قوله: "يدعو لنفسه بين الأذان والإقامة؛ فإنَّ الدُّعاء حينئذٍ لا يُردّ"، وذلك كما في حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ المؤذِّنين يفضلوننا؟ فقال رسولُ الله ﷺ: قل كما يقولون، فإذا انتهيتَ فسَلْ تُعْطَه[1]. أخرجه أبو داود، وسكتَ عنه، وعرفنا أنَّ ما سكتَ عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده.

والحديث -على كل حالٍ- قال عنه المنذريّ بأنَّ إسنادَه صحيحٌ، أو حسنٌ. وكذلك أيضًا جوَّد إسنادَه وقوَّاه الحافظُ ابن كثير، وحسَّنه الحافظ ابن حجر[2]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني حكم عليه في بعض المواضع بأنَّه صحيحٌ[3]، وفي بعضها بأنَّه حسنٌ[4]، وفي بعضها أنَّه حسنٌ صحيحٌ[5].

فقوله هنا: "يا رسول الله، إنَّ المؤذّنين يفضلوننا"، "يفضلوننا" يعني: يكون لهم فضلٌ ومزيَّةٌ، يكونون مُتميزين، ومُتحققين بها، ومُتَّصفين دوننا، يعني: يكون لهم من الفضيلة ما ليس لغيرهم.

وأصحاب النبي ﷺ كانوا في غاية الحرص على الخير، ويتنافسون في ذلك غاية التَّنافس، كما هو معروفٌ لما جاءوا للنبيِّ ﷺ وقالوا له -يعني: الفقراء من أهل الصُّفة-: "ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور"[6].

فذكروا للنبيِّ ﷺ حالَ هؤلاء الأغنياء من الأموال التي يتصدَّقون بها، فأرشدهم النبيُّ ﷺ إلى ما يقولونه من الذكر بعد الصَّلاة، فسمع به هؤلاء الأغنياء، فقالوا ذلك، فرجع هؤلاء الفُقراء إلى النبي ﷺ، فأخبر أنَّ ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.

فكانوا في غاية التَّنافس، ينظرون فيما يمكن أن يتميّز به إخوانهم، فيعملون جاهدين على التَّحقق به، والاتِّصاف، والعمل، فما كانوا بأولئك الزَّاهدين في العمل الصَّالح والمراتب العالية والأجور التي عند الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك لكمال يقينهم، فإنَّ اليقينَ إذا استتمَّ فإنَّ صاحبَه يُشَمِّر للعمل للآخرة، ويطلب ما عند الله -تبارك وتعالى-، ويبذل كلَّ مُستطاعٍ من جهدٍ ووقتٍ ومالٍ، كلٌّ بحسبه، بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ليُحصل، ليصل.

فهؤلاء قالوا للنبي ﷺ: "إنَّ المؤذّنين يفضلوننا"، والأذان لا يكون إلا لواحدٍ، فلا يمكن للجميع أن يقوموا بهذه العبادة التي لربما يرى بعضُ أهل عصرنا اليوم أنَّ ذلك لا يخلو من نوع ابتذالٍ لمن اشتغل به، هذا يوجد لدى بعض الناس -لا سيّما في بعض البيئات- يرون أنَّ هذا العملَ -الأذان-، بل بعضُهم يرى أنَّ الإمامةَ أيضًا لا تخلو من نوع ابتذالٍ، وأنَّ هذا العملَ إنما يُوكَل لأولئك الذين يأتون من أقطارٍ بعيدةٍ يبحثون عن شيءٍ من المال، ويتكسَّبون بذلك، فيترفَّعون -أعني: هؤلاء يترفَّعون- عن مُزاولة هذه الأعمال الجليلة الشَّريفة.

ولربما لو أنَّ أحدًا من هؤلاء نهضت همَّته للأذان أو للإمامة لربما زجره أبوه أو مَن حوله بأنَّ ذلك لا يصلح لمثله، وما علموا أنَّ هذه الأعمال هي التي ينبغي التَّنافس فيها، لا عرض الدنيا الزائل، ولكن هذا عند مَن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- ويعرف قدرَ هذه العبادات.

فالشَّاهد أنَّهم ذكروا ذلك للنبي ﷺ، يرجون بهذا أن يذكر لهم النبيُّ ﷺ ما يُعوضهم عن هذا السبق الذي يسبقهم به المؤذِّنون، أن يذكر لهم النبيُّ ﷺ عملاً يُدركون به هؤلاء الذين يسبقونهم، فماذا قال النبيُّ ﷺ حينما عرضوا له ذلك، وشكوا له بهذه الصِّيغة الخبرية التي هي في الواقع مُضمّنة معنى الطلب والسّؤال؟ كأنَّهم يقولون: بماذا تأمرنا؟ فماذا نفعل؟ فكيف نُدْرِك هذا الفضل الذي يُحصّله هؤلاء من المؤذّنين؟ فماذا قال لهم النبيُّ ﷺ؟

قال: قل كما يقولون، يعني: من التَّرديد خلف الأذان كما سبق.

وقلنا: هذا مُقيَّدٌ كما جاء في بعض الأحاديث الأخرى أنَّه يقول في الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله[7].

قل كما يقولون يعني: فيحصل لك من الثَّواب، وتُدْرِك به ما لهؤلاء المؤذّنين من الفضل والمرتبة.

ثم زادهم ﷺ: فإذا انتهيتَ فَسَلْ يعني: إذا فرغتَ من الإجابة؛ قلتَ كما يقول المؤذِّن، فسل يعني: اطلب من الله -تبارك وتعالى-، ادعُ، اسأل ربَّك حاجتك، ادعُ الله بما شئتَ.

قال ﷺ: سَلْ تُعْطَه يعني: أنَّه يُستجاب لك هذا السؤال، والطَّلب، والدُّعاء، وهذا صريحٌ في أنَّ الدعاء بعد الأذان من مواطن الإجابة، وقد مضى الكلامُ على هذا عند قول النبي ﷺ: ثم سلوا لي الوسيلة، فإنَّ النبي ﷺ أرشد إلى هذا: أن يكون بعد الأذان؛ وذلك لأنَّه حريٌّ بالإجابة.

وهكذا يسأل الإنسانُ حاجتَه، وعجبًا لمن يتحرَّى من المخلوقين أن ينفعوه، أو أن يبذلوا له، أو أن يُقدِّموا له شيئًا، ثم هو ينسى مَن بيده خزائن السَّماوات والأرض؛ لأنَّ الكثيرين -أيّها الأحبة- يظنون أنَّ فلانًا هو الذي يملك حلَّ مُشكلاتهم، هو الذي يملك أن يُحقق لهم ما تصبوا نفوسُهم إليه، وما يتمنونه، وما يرجونه في هذه الحياة الدنيا لهم، أو لأولادهم، وما علموا أنَّه عاجزٌ، وأنَّه أضعف من ذلك، وأنَّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، بل لربما بطرفة عينٍ بلا مُقدِّمات جاءهم نبأ وفاته، أو جاءهم نبأ إقالته، أو نحو ذلك؛ فتخيب تلك الآمال.

وهكذا كلّ مَن تعلَّق بغير الله ، وأمَّله، وصار يرجوه؛ فإنَّه يخيب ظنُّه من جهته، والله -تبارك وتعالى- يفتح لنا الأبواب بعد الأذان: سَلْ تُعْطَه.

لو أنَّ أحدًا من العُظماء في الدُّنيا، من الكُبراء، من أهل الولايات والمناصب، أو الأموال، أو نحو ذلك، يقول لهؤلاء الناس: مَن اتَّصل عليَّ في الوقت الفلاني فإنَّه يطلب وأُعطيه. ما الذي يحصل؟

أنا أتصور -إن كان هذا يمكن أن يتحقق- أنَّ أجهزةَ الاتِّصال سيُصيبها العطب وتنتهي؛ لأنَّ الملايين سيتَّصلون في لحظةٍ واحدةٍ، في وقتٍ واحدٍ من أجل مخلوقٍ قال لهم ذلك.

تصور! مخلوقٌ يقول للناس: الذي يتَّصل بي في الوقت الفلاني، الذي يتَّصل بي في السَّاعة الفلانية أنا أكون أستقبل المكالمات، وكلّ ما يطلب يُحقّق له. لو أنَّه كتب في حسابه مثلاً في تويتر، أو قال: كلّ مَن له حاجة يكتب ونُنفذها له فورًا. خلال ما نقول ساعة، في خلال أربعٍ وعشرين ساعة ما الذي سيحصل؟ ملايين الرَّسائل ستنهال.

الله ، هذا وقتٌ يتكرر خمس مراتٍ بعد الأذان: سَلْ تُعْطَه، وهذا وعدٌ، والوعد لا يتخلَّف، وهذا سوى الأوقات الأخرى: كثُلث الليل الآخر الذي ينزل اللهُ فيه، يعني: هذا وقتٌ بين الأذان والإقامة، ليس وقت التَّنزل الإلهي، فكيف بوقت التَّنزل الإلهي الذي يقول فيه: مَن يسألني فأُعطيه؟[8]؟ فهذا أبلغ وأعظم.

وقد صحَّ من حديث أنسٍ عند الترمذي مرفوعًا: الدُّعاء لا يُردّ بين الأذان والإقامة[9]، لا يُردّ، فهناك: سَلْ تُعْطَه، هذا وعدٌ، وهنا: لا يُردّ، ولكن ينبغي أن نستحضر جيدًا أنَّ النبي ﷺ أخبرنا عن الدُّعاء، وأنَّ الدَّاعي يحصل له إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجّل له ما سأل، وإمَّا أن يُدْفَع عنه من الشَّر مثل ذلك، أو أن يُدَّخَر له ذلك في الآخرة.

إذًا لا يقولنَّ قائلٌ: دعوتُ فلم يُستجب لي! وما يُدريه؟! ومَن كان في شكٍّ فليذهب إلى أقرب مُستشفى هنا –تبعد خطوات عنا-، ولينظر في أحوال الناس المرضى وما يُعانون، ويعرف كم دفع الله عنه من الشَّر والبلاء مما لو قيل لأحد هؤلاء المرضى: كم تدفع؟ وكم يدفع ذووك من أهلٍ وولدٍ من أجل أن تتخلص من هذا المرض الذي نزل بك؟ لقالوا: ندفع كلَّ ما عندنا، نفديه بكلِّ ما عندنا. ولكن هيهات! مثل هذا لا يُدْفَع بالمال.

إذًا تُدْفَع عنا شرورٌ كثيرةٌ، ومن أسباب دفعها: الدُّعاء، أن يُدفع عن الإنسان شرٌّ لم يكن في حسبانه، ولكن العبد قليل بصره، ضعيف علمه، ولا يعلم كم دفع اللهُ عنه من البلايا والشُّرور -والله المستعان.

وهكذا في حديث سهل بن سعد عند أبي داود وغيره: ثنتان لا تُردّان -أو قلَّما تُردَّان-: الدُّعاء عند النِّداء، وعند البأس حين يلحم بعضُهم بعضًا[10].

الشَّاهد هنا: الدُّعاء عند النِّداء، وهنا يُحمَل على ما سبق: أنَّه إذا فرغ من إجابة المؤذّن أنَّه يسأل، فسؤاله هنا قريبٌ من النِّداء، ويصحّ فيه التَّعبير بـ"عند"، فالعندية مُتحققة؛ بمعنى: القُرب، الدُّعاء عند النِّداء؛ يعني: إذا فرغ المؤذِّنُ من الأذان.

وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وكذلك أيضًا صحح إسناده النَّووي، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر، وصحَّحه الشَّوكاني، والسُّيوطي، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-[11]، وفي لفظٍ: ساعتان تُفتح فيهما أبوابُ السَّماء، وقلَّ داعٍ تُردّ عليه دعوته: حضرة النِّداء بالصَّلاة، والصَّف في سبيل الله[12]، يعني: إذا التقى الصَّفان، حينما يُلحم بعضُهم بعضًا، فهي ساعة إجابةٍ.

نسأل الله أن ينصر إخواننا في بلاد الشام، وفي كل مكانٍ، وأن يُداوي جرحاهم، ويشفي مرضاهم، ويُعافي مُبتلاهم، وأن يجمع كلمتَهم على الحقِّ، وأن يُعيذهم من شرِّ الأشرار، وكيد الفُجَّار.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم (524)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (673).
  2. انظر: "تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير" لابن حجر (1/211).
  3. انظر: "الجامع الصغير" للألباني، برقم (7853).
  4. انظر: "مشكاة المصابيح" للألباني، برقم (673).
  5. انظر: "التعليقات الحسان" للألباني، برقم (1693).
  6. أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أنَّ اسم الصَّدقة يقع على كل نوعٍ من المعروف، برقم (1006).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يُصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل له الوسيلة، برقم (385).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التَّهجد، باب الدُّعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم: كتاب التَّهجد، باب التَّرغيب في الدُّعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم (758).
  9. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الصَّلاة، باب ما جاء في أنَّ الدعاء لا يُردّ بين الأذان والإقامة، برقم (212)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3405).
  10. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الجهاد، باب الدُّعاء عند اللِّقاء، برقم (2540)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (672).
  11. انظر: "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر (1/369)، و"السِّراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير" للسيوطي (2/1116)، و"الأذكار" للنووي (ص38)، و"صحيح سنن أبي داود" للألباني (7/294).
  12.  أخرجه مالك في "الموطأ": باب ما جاء في النِّداء، برقم (185)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3585).

مواد ذات صلة