الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي، أو زائد على قدر الأدب، أورد المصنف -رحمه الله- إضافة إلى ما سبق من الأحاديث حديث هشام بن حكيم بن حزام أو -رضي الله عنهما-؛ لأنه صحابي، وأبوه صحابي، أنه مر بالشام على أناس من الأنباط قد أقيموا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج[1] وفي رواية: حبسوا في الجزية، فقال هشام أشهدت لسمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا[2] فدخل على الأمير، فحدثه، فأمر بهم فخلوا، رواه مسلم.
هشام بن حكيم من أصحاب النبي ﷺ وهو ممن عرف بالاحتساب والغيرة والقوة في هذا الباب، باب إنكار المنكرات، ويقول: إنه مر بالشام على أناس من الأنباط، الأنباط جمع، واحده نبطي، قيل لهم ذلك؛ لأنهم يستنبطون الماء، ويعرفون وجوه ذلك، استنباط الماء من الأرض، وهؤلاء هم في أصولهم من العرب، خالطوا العجم، وسكنوا أرضهم، كالروم مثلاً، ثم بعد ذلك ضاعت لغاتهم، وأنسابهم، يعني صاروا يتكلمون الأعجمية، واختلطت أنسابهم بأنساب الأعاجم، فيقال لهم: الأنباط، والواحد يقال: نبطي.
والنووي -رحمه الله- فسره بالفلاحين من العجم[3] ولا إشكال، فإن هؤلاء يشتغلون باستنباط الماء، والزراعة، والفلاحة، وما إلى ذلك، وأصولهم من العرب، وخالطوا الأعاجم، فصاروا من جملة الأعاجم، يقال لهم: الأنباط، فهؤلاء مر عليهم، وقد أقيموا في الشمس، يعني جعلوا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت؛ من أجل أنه يضاعف عليهم الحرارة، يقفون في الشمس يعذبون فيها مع هذا القدر الزائد، وهو صب الزيت على رؤوسهم، فيتوقد، فقال: ما هذا؟
قيل: يعذبون في الخراج، وفي راوية: حبسوا في الجزية، يعذبون في الخراج، وهو ما يضرب على الأرض التي فتحها المسلمون مما يخرج منها، والجزية معروفة ما يضرب على رقاب هؤلاء من أهل الذمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فيكون على كل واحد منهم قدر من المال يؤديه إلى المسلمين، كما قال الله : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فهؤلاء لربما يتأخر الواحد منهم في دفع الجزية، أو يماطل، أو يمتنع، أو نحو ذلك، فحبس هؤلاء في الجزية، وعذبوا بالوقوف في الشمس بهذه الطريقة، فقال هذا الصحابي : أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا[4] فيدخل في هذا تعذيب المملوك -كما سبق- ويدخل فيه تعذيب الزوجة، ويدخل فيه تعذيب الأولاد، ويدخل فيه تعذيب الخادم، ويدخل فيه تعذيب العامل، ويدخل فيه سائر أنواع التعذيب، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا، كل من يتولى تعذيب الناس فإن الله يعذبه في الآخرة؛ لأنه لا يجوز تعذيب الناس، والإنسان قد يتسلط على من لا يستطيع أن يدفع ظلمه عن نفسه من هؤلاء الضعفاء، كالمملوك، والخادم، والزوجة، والطفل، وما أشبه هذا، وليعلم أن الله أقدر عليه منه على هؤلاء، فدخل على الأمير، فحدثه، فأمر بهم، فخلوا، تركوا، وهذا هو اللائق بالمؤمن إذا رأى شيئًا أن يحتسب، وأن ينصح، وأن يبين ذلك، فيرتفع مثل هذا المنكر.
ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: رأى رسول الله ﷺ حمارًا موسوم الوجه، فأنكر ذلك، فقال: والله لا أسمه إلا أقصى شيئًا من الوجه وأمر بحماره، فكوي في جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين[5]رواه مسلم.
مر النبي ﷺ رأى حمارًا موسوم الوجه، لاحظ هذه بهيمة، وحمار موسوم الوجه، فأنكر ذلك، والوسم هي علامة توضع بطريق حديدة، أو نحو ذلك، تحمى بالنار بحيث يتميز بها هذا الحيوان عن غيره، فيعرفه صاحبه، فتكون علامة أحيانًا للقبيلة، أو تكون علامة لهذا المالك، أو نحو ذلك، فيضع رقمًا، أو يضع علامة معينة يعرف فيها هذه الدواب أنها من جملة أملاكه.
فهذا وضعه في الوجه، فالنبي ﷺ أنكر ذلك، فإنه لا يجوز وسم الحيوانات في الوجه، بل سيأتي أن النبي ﷺ لعن من فعل هذا[6] فدل على أنه من الكبائر، فإذا كان هذا الحيوان، فكيف بالإنسان يوسم وجهه، ولا زالت بعض القبائل في بعض النواحي في أفريقيا يسمون الوجه، بعلامات تميز هذه القبيلة عن غيرها، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فقال -يعني ابن عباس- والله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه، لما أنكر النبي ﷺ وسمه من الوجه، ما هو أبعد شيء عن الوجه، هو المؤخرة، وأمر بحماره، فكوي في جاعرتيه، وهو أول من كوى الجاعرتين، والمقصود بالجاعرتين: هما الناحيتان من الوركين المنحرفتان إلى الدبر، وبعضهم يقول: هو الموضع الذي يضربه الفرس بذنبه من فخذيه، فالمقصود: أنه كوى آخر شيء في هذا الحمار، وهو الجاعرتان، كل ذلك ليبتعد عن الوجه تمام الابتعاد.
ثم ذكر الحديث الأخير، وهو أيضًا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال: لعن الله الذي وسمه[7] رواه مسلم.
لاحظ هنا، هذا لعن يعتبر للمعين، لعن الله الذي وسمه، ونحن عرفنا مرارًا أن اللعن إذا ورد في شيء فإن ذلك يدل على أنه من كبائر الذنوب، فإذا كان إذا وسم الحمار، فالذي يسم الجمل، أو الفرس من باب أولى، فمن وسم وجه إنسان فذلك من باب أولى، وقد يفعله بعضهم على سبيل النكاية، والتعذيب، والمثلى، فقد يشتط بعضهم في الأذى، فيعذب مثل هذا المملوك، فيطفئ السجاير مثلاً في وجهه، أو هذا الخادم، أو غير ذلك ممن تسلط عليه، فيطفئ السجاير في وجهه، أو يضع شيئًا محمى، أو يشرطه بمشرط، أو نحو ذلك، فهذا كله من كبائر الذنوب لعن الله من فعل هذا.
فلا يجوز ضرب الوجه، ولا تقبيح الوجه، ولا وسم الوجه، لا في الإنسان، ولا في الحيوان، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق، برقم (2613).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق، برقم (2613).
- انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي (17/93).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق، برقم (2613).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه، برقم (2118).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، برقم (5515)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم، برقم (1958).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه، برقم (2117).