الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فبعدما عقد المصنف -رحمه الله- باب تحريم الرياء، وأورد النصوص في ذلك عقبه بهذا الباب، وهو باب ما يتوهم أنه رياء، وليس هو رياء.

ثم ذكر الباب الذي بعده، وهو باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن لغير حاجة شرعية، لغير حاجة شرعية بالنسبة للمرأة الأجنبية، كما إذا احتيج النظر إليها من أجل الشهادة مثلاً، أو أحتاج الطبيب النظر إليها إن لم يوجد طبيبة، لا مسلمة ولا كافرة، وبها علة في وجهها، فاحتاج إلى هذا النظر، إنما ينظر بقدر الحاجة إلى الموضع الذي يحتاج إليه، لكن لو كانت العلة في الوجه، واحتاج أن ينظر إلى وجهها، فهذا لا إشكال فيه، لكن لو كانت العلة في العين فإنه ينظر إلى العين فقط، إن كانت العلة في الفم فينظر إلى الفم فقط، لكن إذا كانت العلة في الوجه فإنه ينظر إلى ذلك، فهذا من الحاجة.

وعلى كل حال، النظر إلى المرأة الأجنبية قد ينظر إلى وجهها، وقد ينظر إلى يدها، وقد ينظر إلى رجلها، وهذا كله محرم في الأصل، لكنه يباح هذا النظر إلى هذا الجزء المعتل بضابطه: ألا يوجد امرأة، والأمر الثاني: أن يكون ذلك بقدر الحاجة؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، يعني ما يكون فيها مثلاً قرحة في ساقها، فتحسر إلى الركبة مثلاً، هذا لا يجوز، وإنما تخرج له هذه القرحة، وهكذا.

فعلى كل حال، المرأة الأجنبية، وهذا يخرج غير الأجنبيات من المحارم، لكن لو أنه ينظر إلى محارمه بريبة، أو إلى إحدى محارمه بريبة، بل لو كان ينظر إلى ابنته بريبة فما الحل، ما العمل؟ ماذا يقال؟

يقال: تحجب عنه، وهذا قد يستغربه السامع، ولكنه يوجد في بعض الأحيان، توجد بعض النفوس المريضة -نسأل الله العافية- قد يصير الإنسان بحال يراود ابنته، ويحاولها، ويتصرف معها تصرفات لا يمكن أن تصنف إلا أنها من قبيل التحرش، بل قد يصل الأمر إلى ما هو أكثر من هذا، فإذا كان بهذه المثابة، نفس مريضة، فما العمل؟

هذه امرأة تشتكي من خالها، وأخرى تشتكي من عمها، هذه تشكو من ابن أخيها، وهو كبير من ابن أختها، فتقول: ينظر إليّ بريبة، ويرسل لي رسائل بالجوال، وأشياء، وأمور لا تصلح أبدًا مع امرأة أجنبية، فضلاً عن واحدة من المحارم، فيكون ذلك أعظم، وأنكى، وأشد، فمثل هذا ماذا يقال لها؟

يقال: احتجبي عنه، ولا يراك، ولا يخلو بك، وتعاملي معه كالتعامل مع الرجل الأجنبي، أو أشد، إذا كان بهذه المثابة مريض، هذا أخطر من البعيد الذي لا يدخل عليها، ولو دخل لكان ذلك مستغربًا، هذا معها في البيت، ولا يستغرب دخوله، ولا خلوته بها، ثم بعد ذلك هو يتصرف معها هذه التصرفات التي لربما تصل أحيانًا إلى الفاحشة، فمثل هذا خطير، وقد يوقع في ذلك، ويزيده في بعض النفوس المريضة -نسأل الله العافية- تبذل النساء والفتيات في اللباس في البيوت، تلبس ألبسة تعري أكثر الجسد، فيظهر منها من أسفل البدن ومن أعلاه أمور تحرك الغرائز في النفوس، وقد يكون هؤلاء يشاهدون مشاهد، ويدخلون مواقع تغري بالمنكر والفاحشة، فإذا رأى هذه اللحوم أمامه على الطبيعة فإن نفسه المريضة تتحرك، ومن هنا لا بدّ من الحشمة، ولا بد من العناية باللباس، ولا بدّ من التفطن لهذه الأمور التي قد يبتلى بها بعض الناس.

فهنا إذًا المرأة الأجنبية قال: والأمرد الحسن لغير حاجة شرعية؛ لأنه قد يفتن بهذا، والحاجة الشرعية عرفناها، قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ هذا أمر، والأمر للوجوب، وأمر الله أهل الإيمان؛ لأن إيمانهم يحملهم على الاستجابة لله -تبارك وتعالى- والانقياد والطاعة يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ يعني أمروا بالغض من هذه الأبصار، بمعنى أن من هذه على الأرجح للتبعيض، وذلك أن باب النظر لا يمنع بالكلية، فهو أوسع من باب حفظ الفرج يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وذلك أنه يجوز أن ينظر إلى محارمه من غير ريبة، كما يجوز له أن ينظر إلى الرجال من غير ريبة، كما يجوز له أن ينظر إلى الأشياء الأخرى من الجبال، والأرض، والسماوات، والأشجار، وما إلى ذلك، فما كل البصر يطلب غضه، فجاءت من مِنْ أَبْصَارِهِمْ يعني عما حرم الله فحسب.

ثم قال: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فرتب هذا على هذا، أعقبه بعده، وذلك أن غض البصر هو الطريق لحفظ الفرج؛ لأن الإنسان مبدأ ذلك يكون من النظر، فإذا نظر فعند ذلك تقع هذه النظرة في القلب، فتؤثر فيه، ثم بعد ذلك تتوارد الخواطر السيئة، فإن لم يدفعها فإن ذلك يعلق بالقلب حتى يصير راسخًا فيه، ثم بعد ذلك تطلب النفس ما تهوى، وتشتهي.

وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يفسر ذلك وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ من أن يقع عليها نظر أحد من الناس؛ لأنه ذكر بعد الأمر بغض الأبصار، أمر الناس أن يغضوا أبصارهم، وفي الوقت نفسه أيضًا على الناس أن يحفظوا العورات، فلا تبدو لأعين الناظرين، هذا على قول ابن جرير -رحمه الله-[1].

والمشهور هو الأول: أن حفظ الفرج عن مقارفة ما لا يليق من الزنا، وما في معناه إلى غير ذلك مما حرمه الله من المقارفات وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فيحفظوا ذلك عن الحرام عن كل مقارفة محرمة يستفرغ بها شهوته، سواء كان ذلك من الزنا، أو كان دونه، هذا هو المشهور، ويمكن أن تحمل الآية على المعنيين، فتكون دالة على حفظ الفروج من هذه المقارفات، وعن أيضًا إبداء العورات، فتقع عليها أنظار الناس.

قال: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ فمن طلب التزكية التي تكون بمعنييها التطهير، والنماء فعليه بمراعاة هذه الأمور، فإن الإنسان إذا أطلق بصره إلى ما حرمه الله تشوش قلبه، وفكره، واشتغل، وأعقبه ذلك حسرة، وكان نقصًا في أيمانه، فهذا خلاف التزكية.

يعني هذه الأشياء التي تكون نتيجة للنظر تشوش الفكر، والقلب عما هو بصدده، فلا يقبل على الطاعة بقلب حاضر، ويتفرق عليه قلبه، فذلك خلاف التزكية، التزكية تطهير، تنظيف المحل ليكون قابلاً، فهذا القلب مشوق بالتعلق بالصور التي أثرها ذلك النظر، ثم إذا غض الإنسان بصره أعقبه الله، وعوضه لذة يجدها في نفسه وقلبه، وسرورًا وانشراحًا، فهذا من الإيمان، ويكون بمعنى الزكاء الذي هو النماء، والزيادة، فيحصل له هذا، وهذا، وهكذا يقال أيضًا في حفظ الفرج ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ.

قال: وقال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً والشاهد هنا: ذكر البصر، فكما سبق في مناسبات شتى أن الإنسان يسأل عنه، كان عنه، أي عن البصر، وهي تسأل عن الإنسان، كان عنه، أي عن الإنسان، فتسأل، وتحاسب، والإنسان يسأل، ويحاسب، ماذا عمل بها؟

وتشهد عليه هي أيضًا، فإذا أطلق بصره يتذكر أنه سيحاسب، ماذا عملت بهذا البصر؟ وأن هذا البصر سيسأل عنه؟ فيقول: نظرت في يوم كذا إلى الشيء الفلاني، نظرت إلى المرأة الفلانية، إلى كعب امرأة، إلى يد امرأة، إلى نقاب امرأة، وهكذا.

والسؤال هنا يدل على المحاسبة، وقال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ خائنة الأعين ما يحصل من مسارقة النظر دون أن يشعر به الناس، فيكون ذلك خلسة، ينظر هنا، وهناك دون أن يشعر به، فمثل هذا الله يعلمه، فإذا تذكر العبد أن ربه يعلم هذه النظرات التي يسارق صاحبها النظر فيها إلى الحرام، إلى الغاديات الرائحات، وقد يشعر الآخرين أنه غير مكترث، لكن الله يراه، ويعلم ذلك، فهذا يكفه، ويزجره.

وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ من آثار هذا النظر، من التمني، وتطلب النفس، وما يدور فيها، وما يشغلها، وما يعمرها.

وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فهذه أيضًا فيها وعيد، وتهديد لكل من اجترأ على محارمه، وحدوده ، والله تعالى أعلم.

  1. انظر: جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (19/154).

مواد ذات صلة