الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن لغير حاجة، مما أورده المصنف -رحمه الله- في هذا الباب ما جاء عن أبي طلحة زيد بن سهل قال: كنا قعودًا بالأفنية، يعني المكان الذي يكون أمام البيت، المتسع الذي يكون أمام البيت يقال له فناء، نتحدث فيه فجاء رسول الله ﷺ فقام علينا، فقال: ما لكم ولمجالس الصعدات الصعدات هي الطرق اجتنبوا مجالس الصعدات يعني الطرق، فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، يعني قعدنا لأمر مباح، لم نجلس لأمر محرم أو لريبة، قعدنا نتذاكر ونتحدث، قال: إما لا فأدوا حقها؛ غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام[1]رواه مسلم.
فهنا قال ﷺ: إما لا يعني إن كان، ولا بدّ، فأدوا حقها، فهذا يدل على أن الجلوس، ولو كان لأمر مباح، أنه خلاف الأولى، ولا بدّ مع ذلك من أداء حق الطريق، فذكر في هذا الحديث غض البصر -وقد مضى الكلام عليه- ورد السلام، وحسن الكلام، يعني ألا يتكلم بشيء لا يليق، ألا يتكلم بفحش، وألا يرفعوا أصواتهم رفعًا منكرًا {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فبعض من يجلسون في الطرقات، في الأماكن العامة لربما ترتفع أصواتهم ارتفاعًا منكرًا، فيؤذون المارة، ويتأذى بهم من يجاورهم، أو يقرب منهم.
وفي الحديث الذي قبله، قال: فإذا أبيتم هذا معنى وإما لا فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ولما سألوه قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[2] زاده في هذا الحديث.
وهناك حسن الكلام ومما يدخل في حسن الكلام: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو داخل في جملة قوله -تبارك وتعالى-: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فقول المعروف لهم أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر داخل في ذلك، وكل ما يقوله الإنسان من الكلام الطيب العف، الجميل، فهو داخل في هذا المعنى.
فعلى كل حال، هذه الآداب في الحديثين جمعها بعضهم بقوله، وقد مضى ذلك في بعض المناسبات السابقة، وذكرنا أبياتًا للحافظ ابن حجر، فمما جمع فيه هذه الأبيات الأربعة:
جمعت آداب من رام الجلوس على | الطريق من قول خير الخلق إنسانا |
افش السلام وأحسن في الكلام | وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا |
في الحمل عاون ومظلوما أعن | وأغث لهفان اهد سبيلا واهد حيرانا |
بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى | وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا[3] |
فهذه مجموعة من هذين الحديثين، ومن غيرهما.
ثم ذكر حديث جرير قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة، فقال: اصرف بصرك رواه مسلم.
والمقصود بنظر الفجأة، يعني النظرة الأولى، النظرة غير المقصودة التي تقع عليها العين لأول وهلة، فهل يؤاخذ عليها، سأله عنها، يعني عن حكمها، هل يكون فيها مؤاخذة، أو لا؟ فقال: اصرف بصرك ومعنى ذلك: أن الإنسان لا تمتد هذه النظرة، هي النظرة الأولى لأول وهلة، فلا يشخص بصره، ويمعن في النظر، ويقول: لا زلت في النظرة الأولى، فيطولها، لا، بمجرد ما يقع بصره على ما ينبغي أن يصرف بصره عنه، فإنه مباشرة إذا عرف أن ذلك مما لا يحل النظر إليه، فإنه يصرف بصره، وإلا فإن ذلك يكون محرمًا عليه، ويكون هذا النظر عليه، وتكون المؤاخذة.
ثم ذكر حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كنت عند رسول الله ﷺ وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، ابن أم مكتوم هو عمرو بن قيس القرشي وهو ابن خال خديجة -رضي الله عنها وأرضاها- تقول: وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبيﷺ: احتجبا منه فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى، لا يبصرنا، ولا يعرفنا، فقال النبي ﷺ: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه[4] يعني إن كان هو أعمى، هل أنتما عمياوان، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث فيه ضعف، فيه كلام معروف لأهل العلم، في سنده نبهان مولى أم سلمة، وهو مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان.
وفي الصحيح ما يدل على جواز النظر في الجملة إلى الأجنبي، وذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- في نظرها إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد[5] والمسألة فيها خلاف معروف، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: بأنه يقوي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج جماعة على الجواز.
فنظر المرأة إلى الرجل هل هو كنظر الرجل إلى المرأة، بعض أهل العلم يقول: هذا الحديث مختص بأمهات المؤمنين لزيادة التحرز، والاحتياط لهن، والتعظيم، ولعلو منزلتهن، وما أشبه ذلك، وهذا لا دليل عليه، أن هذا خاص بأمهات؛ لأنه ذكر العلة، وهو قوله: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟ فهذا يقال لكل امرأة، لكن إذا كان الحديث ضعيفًا، فإنه لا عبرة بذلك، ولا يوقف عنده فيحتاج إلى تأويل؛ لأنه في المعنى مشكل.
يعني الآن إذا احتجبتا عنه، غطت الواحدة وجهها، ولبست نقابًا، أو نحو ذلك، هل معنى هذا أنها لا تبصره؛ لأنه قال: أفعمياوان أنتما؟ يعني أنتما تبصرانه، إذًا هل الحجاب سيمنع من رؤيتهما له؟
الجواب: لا، الحجاب لا يفعل ذلك، لا يحصل حجب أنظارهن عنه، أما هو فهو لا يراهن أصلاً، فالحديث ضعيف على كل حال، ونظر المرأة إلى الرجل هل هو كنظر الرجل إلى المرأة، أو لا؟ هذا كما قلت: فيه الخلاف المعروف، وعائشة -رضي الله عنها- في قصة الخندق لما جاء سعد بن معاذ، وكانت قد نزلت من الحصن، ورأته، وكانت مع أمه، وكانت عليه درع قصيرة، حاسرة عن كتفيه، فالشاهد: أنها نظرت إليه، مع نظرها إلى الحبشة، وما إلى ذلك، فهذا كله يدل على أن نظر المرأة أوسع من نظر الرجل -والله تعالى أعلم- ومن أهل العلم من يقول: إنها كالرجل، ولها الأولى، وعليها الثانية، ويجب أن تصرف بصرها.
والأقرب -والله أعلم-: أنها أوسع نظرًا من الرجل، يجوز لها أن تنظر إلى الرجل، لكن من غير ريبة، ولا شهوة، ولا تفرس، فتنظر إلى الرجل، لا إشكال، لا يقال: لكِ الأولى، وعليكِ الثانية، لكن إن كانت تنظر بتفرس، وتمعن، أو بإعجاب، أو بريبة، أو نحو ذلك فهذا لا يحل.
وهذه المسألة كثر بسببها الشر اليوم بسبب القنوات الفضائية، حتى النظر إلى طلاب العلم، وإلى أهل الصلاح، والخير، وما إلى ذلك، يعني فضلاً عن النظر إلى المهرجين، والفنانين، ومن لا خلاق له، أولئك يفتن بهم كثير من الناس، فهل للمرأة أن تنظر إلى هؤلاء؟
أقول: حتى الذي يخرج ليعلم الناس، وما إلى ذلك، في الغالب هؤلاء أصلاً يخرجون، وهم في غاية التهيؤ بلا شك، ولا يخرج مبتذلاً في الإعلام، وهذا من متطلبات الإعلام أن يخرج في حالة مقبولة للناس، حتى يقبل ما يقول أيضًا، فيكون في حال من التزين على تفاوت بين الناس في هذا، منهم من قد يضع أشياء؛ لأنهم يقولون له: إن تسليط الأضواء يبين ندوبًا في الوجه لا تكون ظاهرة، فهذا يحتاج إلى أمر آخر، وهذا الأمر الآخر يحتاج إلى أشياء، كما يقال: كريم أساس، فيبدو وجهه مع الكاميرا، والبياض، والأشياء هذه، يبدو وجهه في غاية البياض، والإشراق، وما إلى ذلك، مع أن صورته في الخارج الحقيقية قد يكون ليس كذلك، وهو إلى السمرة أقرب، فإذا رأيت صاحبك رأيته في حالة أخرى، ما الذي حصل؟ ما الذي غيرك في الشاشة؟
فيقول: الأضواء المسلطة أمامي جعلتني بهذه الصورة، فيكون في غاية البياض، وهكذا لربما اللحية تصبغ بالسواد، وهي بيضاء لا شعرة سوداء فيها، مع فصاحة اللسان، ومع القدرة العلمية والبيان، وما إلى ذلك، فيعجب به خلق من الناس، والنساء قلوبهن ضعيفة، فإذا أطالت النظر لاسيما مرة بعد مرة، وما إلى ذلك فمن التي تأمن على قلبها، ومن الذي يأمن على محارمه ونسائه أن ينظرن هذا النظر الطويل إلى من هم أفصح منه لسانًا، وأحسن بيانًا، وأكثر علمًا، ولربما أجمل صورة، وما يدريه لعلها تنظر إليه فيما بعد بازدراء؛ لأن بضدها تتميز الأشياء، فبدلاً من أن المرأة لا تعرف إلا زوجها، وهو الكامل المكمل في نظرها، أصبحت ترى ناسًا مفوهين، ولديهم من القدر، والإمكانات، وسرعة البديهة، والعلم، والابتسامة العريضة، وما أشبه ذلك، وهي ترى زوجها لربما في حال من التقطيب، والعبوس، ولربما لا يحسن يركب كلمتين على بعضها، فيسبها هذا النظر، فهذا خطير، فكيف إذا خرج النساء في الإعلام؟
يعني بعض الناس يقول: ولماذا لا تخرج المرأة متحجبة، صوت المرأة ليس بعورة، هذا الكلام غير صحيح، يعني فرق بين المرأة تتصل، تسأل، تستفتي، أو ترد على الجرس، أو ترد على الهاتف، أو نحو ذلك، نعم، من؟ {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا} من غير خضوع بالقول، وبين أنها تلقي محاضرات، ودروس، وما إلى ذلك، فهذا لا شك أنه باب، وطريق إلى الفتنة.
على كل حال الحديث الأخير هو حديث أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد[6] رواه مسلم.
لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل عورة الرجل من السرة إلى الركبة، فليس له أن ينظر إلى ذلك، لا العورة المغلظة، ولا العورة المخففة، لا بقصد، يعني بشهوة، ولا بغير شهوة، وما عدا ذلك إن كان النظر فيه لشهوة فإنه لا يجوز، وبالنسبة للمرأة فإن المرأة أمام المرأة، النبي ﷺ قال: المرأة عورة[7] ولم يقل: أمام النساء، فدل على أن المرأة إنما تبدي في بيتها ما يظهر منها عادة في مهنتها، ونحو ذلك بالنسبة للمرأة المحتشمة، ما يظهر عادة من المحتشمة، ما الذي يظهر؟ الكفان، وموضع السوار، والوجه، والشعر، وموضع القلادة، والقدمان، ونحو ذلك، أما التبذل، وهذا اللباس الذي يلبس في المناسبات، والأعراس، وما إلى ذلك، تبدي الظهر والبطن، وتبدي الصدر جزء كبير منه، ولربما تلبس القصير، وتقول: عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة، هل يوجد فقيه في الدنيا يقول: يجوز للمرأة أن تلبس سراويل قصيرة، أو تنورة قصيرة إلى الركبة، من السرة للركبة، تفصل هذا، ثم تخرج للناس عارية الصدر تمامًا، وتقول: العورة من السرة إلى الركبة؟ هل يوجد فقيه يقول بهذا؟
أبدًا، لا يوجد أحد يقول بهذا، لا نعلم أحد يقول بهذا، وإنما يتكلمون عن شيء آخر، يتكلمون عما إذا بدا منها شيء، كونها تعمل، كونها في مهنتها، كونها كذا، لا أن تفصل ثيابًا فاتنة، تعري الجسد، فما معنى قول النبي ﷺ: صنفان من أهل النار ثم ذكر النساء الكاسيات العاريات[8] ما معنى كاسية عارية؟ هي هذه التي تلبس لباسًا يعري الجسد، وهي أيضًا في الوقت نفسه يقال لها: لابسة، لكنه لباس لا يزيدها إلا فتنة وإغراء، وهذا أمر مشاهد ومعلوم، فمثل هذا لا يجوز بحال من الأحوال، ويجب على الرجال أن يقوموا بما أمرهم الله به من حسن الرعاية للنساء، والتعليم، والتوجيه، والأخذ على أيديهن من أجل حملهن على الحق، وعلى الحشمة، وإلا فإن الذمة لا تبرأ فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته[9] فالرجل راع عن أهل بيته، ومسؤول عن رعيته، والله تعالى أعلم.
- أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام، برقم (2161).
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، برقم (6229)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، برقم (2121).
- انظر: فتح الباري لابن حجر (11/11).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، برقم (4112)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3116).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد، برقم (454)، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، برقم (892).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، برقم (338).
- أخرجه الترمذي في سننه، برقم (1173)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3109).
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (8664)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3524).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما يلزم الإمام من حق الرعية، برقم (2928)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4563).