الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا "باب تغليظ اليمين الكاذبة عمدًا" التغليظ بمعنى التشديد، أي: أن ذلك أمر عظيم، وجرم كبير.
واليمين المقصود بها الحلف.
والمقصود هنا بقوله: "اليمين الكاذبة عمدًا" هل يكون الكذب من غير عمد؟
يعني: بذلك أن الإنسان قد يحلف على أمر أنه كذا، فيتبين أنه ليس كما قال، لكنه كان يعتقد أن الأمر على ما حلف به، فيكون ذلك مخالفًا للواقع، لكنه يطابق ما في نفسه، فيكون صادقًا، لكن المخالفة لما في الخارج، يقال له في اللغة: كذب؛ ولذلك هذا يوجد في لغة السلف، وفي كلام المتقدمين، يقال: كذب فلان، بمعنى أخطأ، فيطلقون الكذب على الخطأ؛ لأن ما في نفس المتكلم إذا قاله وتبين أنه يخالف الواقع فهذا في اللغة يقال له: كذب، ولو لم يقصد، يعني: لو قال: سافر زيد، وهو يعتقد أنه سافر، فتبين أنه لم يسافر، فهذا في اللغة يقال له: كذب، لكن الكذب في الشرع الذي ورد فيه الوعيد والذم أربع من كن فيه كان منافقًا وذكر منها وإذا حدث كذب[1]، هذا ما يوجد فيه المخالفة بين ما في نفس المتكلم، وما في مقاله، سواء وافق الواقع أو خالفه، المخالفة بين ما في قلبه، وما نطق به لسانه هذا يقال له: كذب في الشرع، فلو قال: زيد سافر، وهو يعتقد أنه لم يسافر، فتبين أنه فعلاً سافر، لكن ما كان يعلم، هذا يعتبر كذب شرعًا، ويلحقه الذم، لو اتصل أحد وسأله عن فلان، فقال: غير موجود، وهو يعتقد أنه موجود، فتبين فعلاً أنه غير موجود، فهذا يعتبر كذب شرعًا.
فهذا الذي حلف لو قيل له: احلف على أنك قد اشتريت هذه السلعة بكذا، فحلف، فلما راجع الأوراق والفواتير، وجد أن الأمر وقع فيه لبس وخطأ لم يقصده، فهذا يعتبر كذب في اللغة، وليس بكذب في الشرع، وهذه لا يقال لها يمين غموس.
ولو أنه حلف أنه اشتري هذه السلعة بكذا، وفي نفسه أنه اشتراها بغير ذلك، فلما راجع الفواتير وجد فعلاً أنه كما قال، فهذه يمين غموس، مع أنها موافقة للواقع، لو أنه حلف أنه اشترى هذه السلعة بكذا في غير ما اشتراها به، وكان الذي اشتراها به يخالف ما قال، فهذه يمين غموس، فصارت الصور:
تارة تكون موافقة للواقع، وهي غموس.
وتارة تكون مخالفة للواقع، وهي غموس.
وتارة تكون موافقة للواقع، وهي غير غموس.
وتارة تكون مخالفة للواقع، وهي غير غموس.
إذًا الكذب الذي ورد فيه الذم في الشرع هو ما وجد المخالفة فيه بين قول اللسان، وما يقوم في قلب صاحبه، سواء وافق الواقع، أو خالف الواقع، فإن كان مخالفًا للواقع من غير قصد، فهذا الكذب في اللغة، ولكنه لا يذم عليه شرعًا.
فقوله إذًا هنا: "باب تغليظ اليمين الكاذبة عمدًا" فلو كان خطأ فهذا لا إشكال فيه، ولا يلحقه حرج رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أما ما يظنه بعض الناس من أنه إذا حلف ووضع يده على المصحف، أو يقال له: احلف على المصحف، ثم بعد ذلك يسأل ويقول: أنا حلفت على المصحف مضطر، وقد كذب، فمثل هذا ماذا يقال فيه؟ يقال: هذا لا يجوز أصلاً، والحلف يصيرها من قبيل اليمين الغموس، بصرف النظر عن كونه حلف على المصحف، أو لم يحلف على المصحف.
أما الحلف على المصحف، فلا أصل له في الشرع، وإنما هو من الأمور المحدثة، التي حصلت بعد القرون المفضلة، جرى على يد بعض القضاة، قيل: أول من فعل ذلك بعض قضاة اليمن، وليس له أصل في الشرع؛ ولهذا لا يستحلف أحد على المصحف، وكأن فيه من المضاهاة للنصارى في حلفهم على كتابهم الذي يسمونه الكتاب المقدس، وهكذا ما يفعلونه عند التخرج من جامعاتهم، أو من الطب خاصة مثلاً في بلادهم، يحلفون كما يقولون على الكتاب المقدس، فشابههم بعض المسلمين في هذا، فإذًا هذا أمر لا يلتفت إليه.
هنا يقول: "عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله، وهو عليه غضبان قال: ثم قرأ علينا رسول الله ﷺ مصداقه من كتاب الله : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً [آل عمران:77] إلى آخر الآية أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران:77] متفق عليه[2].
فقوله: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه ولو حلف أن هذا المال له بحق، أو أنه لفلان بحق، فهذا لا إشكال فيه.
وقوله: لقي الله وهو عليه غضبان يدل على أن الحلف الذي يكون بهذه الصفة من كبائر الذنوب، الذي يحلف وهو كاذب يقتطع حق مسلم بيمينه، يعني: بحلفه فهذا من كبائر الذنوب.
ثم ذكر حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي أن رسول الله ﷺ قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ليس المقصود بيده اليمنى، وإنما بالحلف فقد أوجب الله له النار ولاحظوا هنا لم يقيد ذلك بكثير ولا قليل قال: وحرم عليه الجنة وانظروا ما بعده، فقال رجل: "وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك[3] عود السواك. رواه مسلم.
فحق المسلم عظيم، فإذا اقترن مع ذلك الحلف عليه، فهذا أشد، والنبي ﷺ في قصة اللعان لما قامت المرأة تحلف، وترد أيمان الرجل، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة[4]، يعني: الأيمان؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرز، سواء كان في مجلس القضاء، أو في غيره، مما يتساهل الناس فيه بالحلف، فيأخذون ما لا يحل لهم أخذه؛ وذلك الذي يأخذونه كما قال النبي ﷺ: فإنما هي قطعة من النار[5]، فإذا وجد معها الحلف، فهنا فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة هذه الجملة تُؤكد السابقة، إذًا أوجب الله له النار فكأنه يفهم أنه حرم عليه الجنة، لكن قد يقول قائل: أوجب الله له النار ثم بعد ذلك يدخل الجنة، يعني: أوجب عليه دخول النار، ثم يدخل الجنة، قال: وحرم عليه الجنة هل هذا هو المراد؟
هذا من أحاديث الوعيد، فبعض أهل العلم يقول: نجريها كما جاءت؛ لئلا يذهب مقصود الشارع من الوعيد، فلا نتعرض لها بتأويل، لكن إن تطرق الفهم الفاسد: أن أحدًا من غير أهل الإشراك -من أهل المعاصي ولو الكبائر- يخلد في النار، فهنا يحتاج إلى توضيح وبيان.
فبعض أهل العلم يقول: إن كان مستحلاً لذلك فيكون قد كفر.
وبعضهم يقول: أوجب له النار، وحرم عليه الجنة لو أنه عاقبه بهذا، وأجرى عليه ما يستحق؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بأن أمثال هذا الوعيد هو متوقف على تحقق الشروط، وانتفاء الموانع" فقد يكون للإنسان حسنات عظيمة ماحية، وقد يكون للإنسان مصائب مكفرة، وقد يكون ثمة شفاعة، إلى غير ذلك من الأسباب التي تحصل بها المغفرة.
فهذا يدل على شدة هذا الأمر وأن الإنسان لا يتساهل ولو كان في شيء قليل، إذا قيل له: احلف النبي ﷺ يقول: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه[6] فإذا قيل له: تتوجه إليك اليمين احلف أن هذا الشيء لك، أو أن فلانًا لا يطلبك هذا المال، فينبغي عليه أن يتوقف، وأن ينظر في موضع قدميه هل هو متوثق بهذا أم لا؟ فإذا أخذ حق غيره باليمين، فإنه بذلك يكون معرضًا نفسه لمثل هذا الوعيد الشديد.
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس[7].
لاحظ هنا ذكر هذه الأشياء: الإشراك، والعقوق، وقتل النفس، واليمين الغموس ذكر فقط أربعة أشياء، مع أن الكبائر أكثر من هذا بكثير، فدل ذلك على أنها من أكبر الكبائر، فهنا ذكرها مع الإشراك، وذكرها مع قتل النفس، وذكرها مع عقوق الوالدين، فدل على أن اليمين الغموس من أعظم الجرائم، وقيل لها: غموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار -نسأل الله العافية- (غموس) وهذه صيغة مبالغة على وزن (فعول).
وفي رواية: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس" ذكرها بعد الإشراك في هذه الرواية "قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم" يعني: بيمينه، وهو فيها كاذب[8]، فهنا ذكرها بعد الإشراك، وهذا يدل على أن منزلتها عظيمة، وأنها ليست كما يظن البعض سهلة، فيتساهلون فيها، وبعضهم يسأل بعد ذلك، وبعضهم لا يسأل، بعضهم يقول: أحرجت، المرأة قال لها زوجها: احلفي، أو حصل مشكلة مع نساء أخريات، وقالت كلامًا، ثم لما ووجهت بهذا الكلام، وقيل: أنتِ قلت كذا، قالت: ما قلت، احلفي أنك ما تفوهتِ به، فتحلف أنها ما قالت هذا الكلام، ثم بعد ذلك تسأل، وبعضهن لا تسأل، تقول: أنا قلت، وأنا حلفت، ما الحكم هل علي كفارة يمين؟ هذه على قول الجمهور ليس فيها كفارة يمين؛ لأن الأمر أكبر من كفارة اليمين، هذه تحتاج إلى توبة عظيمة، وحسنات كثيرة ماحية، وكثرة استغفار.
أما اليمين التي يكون فيها الكفارة، فهي التي تكون على أمر مستقبل، أن يفعل أو لا يفعل، أو أن يلزم غيره بالفعل، أو الترك، هذه اليمين التي يذكرها الفقهاء، وهي التي تُوجِب الكفارة، ويحنث بها، ففرقٌ بين هذه وهذه.
إذًا اليمين الغموس هي يمين على خبر في الماضي، أو أمر واقع في الحاضر، أو على خبر في المستقبل، فهي على خبر محض -مجرد خبر-، كما لو حلف أن فلانًا سيسافر، فتبين أن فلانًا لم يخطر في باله هذا، ولكنه حلف كاذبًا، أو أن فلانًا سيشتري هذه السلعة في المستقبل منك، وتبين أن فلانًا لن يشتريها، لا يقسم عليه أن يشتريها، وإنما هو مجرد خبر، أو أخبره بخبر كاذب، أو أخبر عن نفسه أنه سيفعل كذا في المستقبل، وحلف، أو أخبر عن نفسه أنه سيسافر في المستقبل فهذا مجرد خبر، لا أنه يلزم نفسه، قال: والله لأسافرن، فهذا يمين يحصل فيها الحنث، لكن إن كان خبرًا فقط، فهذه اليمين الكاذبة.
وأما اليمين التي توجب الكفارة، فهي ما يُقصد به الإلزام بالفعل أو الترك، افعل كذا، والله تفعل كذا، والله ما تفعل كذا، خذ كذا، والله ما أفعل كذا، والله لا أفعلن كذا، هذه التي توجب الكفارة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم (34) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم (58).
- أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب الخصومة في البئر والقضاء فيها برقم (2356) ومسلم في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (138).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (137).
- أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ} [النور:8] برقم (4747).
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه برقم (2458) ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة برقم (1713).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه برقم (1341) وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس برقم (6675).
- أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة برقم (6920).