الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فهذا "باب العفو عن لغو اليمين، وأنه لا كفارة فيه" وهو ما يجري على اللسان، بغير قصد اليمين، كقوله على العادة: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك.
"لغو اليمين" ذكر ما يترتب عليه، وذكر أيضًا حقيقته وصفته، فبيّن أن لغو اليمين لا كفارة فيه، هذا هو حكمه: لا كفارة فيه، وأن صفة لغو اليمين على الراجح: وهو الذي قاله الإمام الشافعي -رحمه الله- أن يقول: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، مما يجري على اللسان، لا يقصد به اليمين[1]، يعني: لا يعقد في قلبه اليمين، فهذا يقال له: لغو، وهذا الذي فسرت به عائشة -رضي الله عنها- كما سيأتي لغو اليمين.
قال الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].
قوله: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وهو: ما يسبق إليه اللسان من قول: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك، فهذا لا حكم له، ولا يترتب عليه كفارة.
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ يعني: بمن عقد في القلب، يعني: قصد به اليمين، والإنسان يعرف من نفسه هذا، ويفرق بين ما يجري على اللسان من غير قصد اليمين، يقول: والله اليوم رحنا إلى كذا، والله أنا ما أريد أن أفعل الشيء الفلاني، فهذا يجري في حديث الناس من غير قصد لليمين، ولكن الذي يُؤاخذ عليه الإنسان وعليه أن يكفر إذا حنث، هو ما انعقد عليه القلب.
قال: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فذكر هذه الأمور الثلاثة في المرتبة الأولى، فصار المكلف مخيرًا في إحدى هذه الخصال الثلاث، يعني: الإطعام، أو الكسوة، أو تحرير الرقبة؛ وأخّر تحرير الرقبة، مع أنه هو الأصعب، وبعض أهل العلم يقول: أخره تدرجًا من الأدنى إلى الأعلى.
وبعضهم يقول: إظهارًا للتيسير والتخفيف على المكلفين، فجعل الأشد في الأخير، مع أنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، إذا فعل واحدًا منها أجزأه ذلك، يعني: ليست على الترتيب.
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ هذا الإطعام لا بدّ أن يكون من القوت، بمعنى: أنه لو أطعمهم فاكهة، فإن ذلك لا يجزئ، أو أعطى كل واحد منهم الفواكه، فإن ذلك لا يجزئه، لا بدّ أن يكون ذلك من القوت، سواء كان هذا الطعام مطهيًا (مطبوخًا)، أو كان غير مطبوخ.
ومقدار ذلك: أن يخرج مدًا من بر، وغير البر كالزر مثلاً، أو نحو ذلك، نصف صاع، على قول كثير من أهل العلم، وهكذا التمر نصف صاع، وإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لاحظ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ الأوسط بعضهم قال: يعني: الأفضل، فإنه يقال له: الأوسط، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [القلم:28].
وبعضهم يقول: الوسط في السن.
وبعضهم يقول: لا أَوْسَطُهُمْ يعني: أعدل هؤلاء، وأعقلهم وأفضلهم -أي هؤلاء الإخوة-.
وكذلك في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] خيارًا عدولاً، فبعض أهل العلم يقول هنا: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ: يعني: الأفضل.
وبعضهم يقول: الأعدل، يعني: وسط، أي: أنه لا يعطي الطعام الرديء، ولا يطالب بأن يخرج الشيء الفاخر، وإنما من أوسط ما يطعم أهله، وهذا أمر مهم يحتاج الناس أن يتبينوه، فإن الكثيرين إذا أراد أن يخرج كفارة من الكفارات لربما يذهب ويشتري أرخص أنواع الرز، وكذلك في صدقة الفطر، يبحث عن أرخص نوع، لا يأكله أهله، ولا يطعمهم منه، فيذهب ويشتري هذا، أو يذهب إلى بلد فقير، وهناك الطعام لربما قيمته رخيصة، فبدلاً من أن يخرج هنا مثلاً كفارة اليمين الطعام قيمته تبلغ مائة ريال مثلاً، أو أكثر، هناك ممكن يخرج طعام من قوت البلد تلك بنصف هذا القدر، أو أقل، فهل هذا من العدل؟
الجواب: لا؛ لأن الله قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فإذا أخرج هنا يخرج من أوسط الطعام، من الذي يطعم أهله، أهله ماذا يأكلون؟
وإذا أخرج هناك ينظر في مقدر ما يطعمه لأهله هنا، وما قيمته هنا، ثم يخرج هناك، ولو زاد، فهذا يحتاج أن يُلاحظ ويراعى، فبعض الناس يبحث عن الرخيص، ويرى أنه يوفر لنفسه بهذه الطريقة، وأنه يربح.
والواقع: أنه لا يربح، وهذه تجارة مع الله ، لا يتاجر بها معه بالمرذول، والأشياء الوضيعة، التجارة مع الله تكون بالأشياء الطيبة الجيدة، ذات القيمة، وكما قال الله : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ولما ذكر الرديء قال: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] يعني: يأخذ على إغماض وحياء ومجاملة من الذي أعطاه، لكن لربما يأخذه من هنا ويخرجه من الباب الآخر، وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فلماذا إذًا تقدمونه للآخرين؟ ويبحث الإنسان عن الأشياء الرديئة؟
كذلك الكسوة يمكن للإنسان أن يأتي للباس الذي لا يريدونه في البيت، والذي لبس وصار رثًا، أو زهدوا فيه، ولا يريدون أن يلبسوه، ثم يخرج هذا يقول: هذه عشرة من اللباس والكسوة لعشرة من المساكين، وهذه كفارة، يقال له: لا، من أوسط اللباس؛ لأنه قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ فالكسوة تكون أيضًا من الوسط، ولا تكون من الرديء، ولا يذهب إلى أبو عشرة، ويشتري منه ملابس، وهذه الكسوة العلماء تكلموا في مقدارها، وما الذي يجزئ منها؟ للرجل مثلاً قميص وعمامة، ونحو ذلك، يعني: لباس يكون مكتملاً، لا يعطيه إزارًا فقط مثلاً.
قال: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وهذه الرقبة ذكرت لها قيود وشروط، رقبة مؤمنة، كما جاء في [كفارة الظهار][2]: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: 3] فالمطلق هنا محمول على المقيد هناك، فلا بدّ فيها من الإيمان، وذكر الفقهاء شروطًا أخرى مثل: أن تكون ليست ذات إعاقات، بمعنى: أنه يستطيع أن يعمل هذا الذي تعتقه.
قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هذا الذي لا يجد إحدى الخصال الثلاث، لا العتق، ولا الكسوة، ولا الإطعام، فيصوم ثلاثة أيام، لكن لو أنه يستطيع واحدًا مما سبق فإنه لا يجزأه الصوم، فلو قال: أنا صمت، نقول له: هل كنت تستطيع؟ إن قال: لا، نقول: يجزأك الصوم، فإن وجدت الاستطاعة فيما بعد، فأنت معذور، فإن قال: كنتُ مستطيعًا، ولكن كنت أظن ذلك على التخيير، يقال له: ما يجزئ، لا بدّ من إحدى الخصال الثلاث السابقة، وإنما العاجز هو الذي يصوم.
وهل يشترط فيها التتابع؟ جاء في قراءة غير متواترة "ثلاثة أيام متتابعات"[3] ومن مقتضى الصناعة الأصولية في حمل المطلق على المقيد: إذا اتحد الحكم والسبب، وهذا من أجلى صوره، فالسبب هو اليمين، والحنث فيها، والحكم هو الكفارة بالصوم، فهذا موجود في قوله: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ المطلق هنا، وفي القراءة الأخرى: "ثلاثة أيام متتابعات" ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أن التتابع شرط في صوم الأيام الثلاثة.
قال: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ يعني: بما ينعقد عليه القلب وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: احْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ بمعنى: ألا تبذل اليمين على كل شيء، ويحلف الإنسان على كل شيء، فالله أعظم وأجل من أن يحلف باسمه على الأمور التي تكون حقيرة، أو تافهة، أو غير ذلك، فلا يكثر الإنسان من الحلف، فإن ذلك مؤذن بقلة تعظيم الرب -تبارك وتعالى-.
والمعنى الثاني: احفظوا أيمانكم، فلا تحنثوا فيها، وإذا حصل فالكفارة، أما أن يحلف الإنسان، ثم يحنث، ولا يخرج كفارة، فهذا تضييع لليمين، واستخفاف بحدود الله -تبارك وتعالى-.
ثم ذكر حديث واحدًا في هذا الباب، وهو يفسر اللغو في اليمين.
وهو ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أنزلت هذه الآية: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [المائدة:89] في قول الرجل: لا والله، وبلى والله"[4]، رواه البخاري.
هذا تفسير من صحابي، فيُؤخذ به في بيان معنى الآية، لا سيما أنه لا يعلم ما يخالفه.
لعل هذا يكفي، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.
- الأم للشافعي (7/257).
- الصحيح: كفارة القتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
- تفسير القرطبي (1/47).
- أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} [البقرة: 225] برقم (6663).