الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم الوصال في الصوم قال، وهو أن يصوم يومين، أو أكثر، ولا يأكل، ولا يشرب بينهما، تحريم الوصال في الصوم، وعرفه هنا بصوم يومين، أو أكثر، وهذا على قول الجمهور، عامة أهل العلم يفسرونه بهذا بصوم يومين، أو أكثر؛ خلافًا لمن فسر الوصال باستدامة الصيام،، يعني: أنه يصوم صومًا متواصلاً، العام كله كما يقوله الأحناف، فهذا المشهور في الوصال، يصوم يومين، بمعنى: أنه لا يأكل في الليل، ولا في السحر، وإنما يواصل إلى اليوم الآخر، قد يواصل يومين، وقد يواصل ثلاثة، وقد يواصل أسبوعًا، وقد يواصل أكثر من هذا، وقد نقل عن بعض السلف عن ابن الزبير مثلاً بعضهم أوصل وصاله إلى سبعة عشر يومًا[1] وقيل: إنه كان يواصل خمسة عشر يومًا[2] مع أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال دون ذلك، يعني: فيما ثبت عنه الوصال[3] -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
قال: ولا يأكل، ولا يشرب بينهما، لكن هل يجامع؟
الجمهور على أنه لا يجامع[4] يعني: من غير أكل، ولا شرب، لو جامع في الليل لا يكون وصالاً، فيكون قد أفطر، إلا أن بعضهم -كما قال بعض الشافعية- بأنه إنما يكون بالامتناع عن الطعام، والشراب فقط، لكن عامة أهل العلم على أن ذلك يكون من سائر المفطرات فمن لم يأكل، ولم يشرب، ولكنه جامع لم يكن بذلك مواصلاً، والمقصود بالوصال الذي جاء فيه النهي هو أن يكون مقصودًا للتعبد،، يعني: لو أنه ما أكل ولا شرب؛ لأنه لم يجد أكلاً، ولا شربًا إلى اليوم الثاني، كان في مكان لا يوجد فيه لا أكل، ولا شرب، أو أنه ذهل عن ذلك لسبب، أو لآخر بأن هذا الإنسان كان في حال من الاشتغال بخوف شديد، بحرب، بنحو ذلك، فلم يتفرغ لطعام، ولا شراب، كان مشغولاً عنه بما هو أعظم من ذلك، فهذا لا يقال له: وصال، يعني: ما تركه قصدًا للتعبد، ولا يأكل، ولا يشرب.
وهنا المؤلف -رحمه الله- عقد هذا الباب بهذه الصيغة، باب تحريم الوصال في الصوم، يعني: عامة أهل العلم إنما يطلقون الكراهة، ولكن بعضهم يحمل ذلك -كما يقول طوائف من الفقهاء من الشافعية، وغيرهم- بأن الكراهة كراهة تحريمية، قالوا: لأنه جاء النهي الصريح عن ذلك، وأن النهي للتحريم، وعلى هذا مشى الإمام النووي -رحمه الله- باب تحريم الوصال في الصوم، وبعضهم قال: إن ذلك للتنزيه.
أما الصحابة الذين، واصلوا كابن الزبير فقد قال بعض أهل العلم: بأن مقصودهم بذلك رياضة النفس، يعني: ما كان يقصد العبادة، وإنما يقصد رياضة النفس، وهذا فيه بعد، والظاهر -والله أعلم- أنهم لم يفهموا التحريم، وإنما فهموا من النهي أن المقصود به: الرفق والشفقة على الأمة، الرفق بها، والشفقة عليها، فكان قد نهاهم عن الوصال شفقة عليهم، ورفقًا بهم، وكان النبي ﷺ يواصل -كما هو معلوم- لكنه علل ذلك بأن ربه يطعمه، ويسقيه -كما سيأتي- فهم هؤلاء الصحابة ، وجماعة من التابعين كعامر بن عبد الله بن الزبير، وآخرون بأن ذلك إنما كان شفقة على أمته -عليه الصلاة والسلام-[5] فكانوا يواصلون، قالوا: ويدل على أنه لم يقصد بذلك المنع والتحريم: أنه بعدما نهاهم، وأبوا إلا الوصال، واصل بهم حتى رأوا الهلال، فوصاله بهم ﷺ ذلك الوصال كالمنكل بهم، دل على الجواز.
وعلى كل حال، ذكر هنا حديث أبي هريرة -، وعائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ نهى عن الوصال. متفق عليه[6].
نهى، والأصل أن النهي للتحريم، لكن النظر إلى العلة هو الذي حمل بعض أهل العلم على القول بالكراهة، كراهة التنزيه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله ﷺ عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم، إني أطعم، وأسقى[7] متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ آخر: إني أبيت يطعمني، ويسقين[8]واختلفوا في المراد بذلك، يعني: ما معنى كون النبي ﷺ يطعمه ربه، ويسقيه، فبعضهم قال: هذا على ظاهره حقيقة يطعمه، ويسقيه، فأجابهم آخرون بأن ذلك لا يتأتى، وإلا كان مفطرًا، فافترق جوابهم إلى قولين:
طائفة قالوا: إن قوله: أبيت معنى ذلك أنه في الليل، وهذا لا يبطل الصوم، لكن الواقع أن هذا لا يكون وصالاً لو كان أكلاً، وشربًا حقيقيًا.
الجواب الثاني: وهو أنه إنما يكون ذلك من طعام وشراب الجنة، وهذا لا يفطر بخلاف الطعام والشراب الذي يكون في الدنيا، فالله يطعمه ويسقيه من الجنة.
وذهب آخرون إلى أن ذلك ليس على ظاهره، يعني: أنه يأكل، ويشرب حقيقة، وإنما قالوا: بأن الله يعطيه القوة التي تكون للمفطر، يعني: كأنه قد أكل وشرب، فيكون فيه من القوة على الوصال والقدرة عليه بحيث كأنه قد أفطر وأكل وشرب في الليل، فيقويه الله على ذلك.
وحمله بعضهم: على أن ذلك بما يحصل للعابدين الذين استروحت نفوسهم بالعبادة، وصاروا من أهل المحبة لله فصار التلذذ بالعبادة ينسيهم التعب، والجوع، والعطش، كما يكون في حال الإنسان الذي يكون مقبلاً، محبًا، راغبًا، يلتذ بالعبادة فإنه يهون عليه ما يلاقيه من المشاق، ولهذا إذا كان الإنسان مثلاً كما يقولون: يتحدث مع محبوبه، فإنه لربما يقف الساعات الطوال، ولا يشعر بالتعب، ويلتذ بهذا الحديث الذي لربما يصدع من سمعه، ويتعب من تعاطاه مع غير المحبوب، ولربما يجلس وقتًا طويلاً، وهو يتحدث معه، وكأنها دقيقة واحدة، ولا يشعر بالتعب، وإذا كان الإنسان يزاول أمورًا يحبها، وتميل إليها نفسه فإنه لا يشعر بجوع، ولا عطش، ولا تعب، فهذه المشاعر الباطنة تذهب ما يجده الإنسان عادة من الأمور المحسوسة من الحر، والبرد، والألم، والجوع، والعطش، وما إلى ذلك -كما هو معلوم- يعني: في حالات الخوف الشديد، في حالات الفرح الشديد، في الحالات التي يعيشها الإنسان من أحوال نفسية قد تنسيه.
ولهذا قال الله : فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ في البداية، وقع الغم بسبب الهزيمة والجراح والقتل فاغتموا بذلك، فنادى الشيطان وصاح بأن محمدًا قد قتل، فكانت هذه أعظم من ذلك كله، فلما انجلى الأمر وانكشف عن أن ذلك لا حقيقة له، كانوا قد نسوا الغم الأول، كما يقوله بعض المفسرين[9] فالمصائب ينسي بعضها بعضًا.
أحيانًا تقع مصيبة، يقع شيء، تقع حادثة، فتقع حادثة أعظم منها، فينسى الناس الأولى، ويشتغلون بالثانية، ولذلك المصائب إذا تتابعت فإنها تهون، يهون بعضها بعضًا، وينسي بعضها بعضًا، فهنا قال: إني لست مثلكم إني أطعم، وأسقى يعني: إما أن يكون هذا حقيقة، وإما أن يكون هذا معنى أن الله يعوضه، وما يغذوه به من لذة المناجاة، وما يقويه به على العبادة، وما أشبه ذلك.
ولهذا فإن الإنسان -كما هو مشاهد- يعان، ولذلك نجد أن الإنسان إذا كان صائمًا مثلاً، وجاء وسط النهار إذا كانت نفسه قد ارتاضت على العبادة، في وسط النهار لا يشعر لا بجوع، ولا بعطش، ولا يلتفت لشيء، وإذا كان مفطرًا، فإذا جاء وسط النهار بدأ يرتعش، ويشعر بالجوع، وأحيانًا لا يستطيع أن ينهي مكالمة واحدة لشدة ما يجد؛ بينما بالأمس كان صائمًا ولم يجد من ذلك شيئًا، فهو يعان، وقد يكون الإنسان في حال من الصوم والمواصلة للعمل، وما إلى ذلك، ومع ذلك لربما يقوم بتعليم الناس والإفتاء، وما إلى ذلك، كما يكون للعالم، ومع ذلك هو لا يتعب، والناس يتعبون، ويجهدون في حضور مجالسه المتواصلة، يعني: قد تكون المجالس نصف نهار، أو نحو ذلك كما هو لبعض أهل العلم الذين قد انقطعوا للتعليم، فهو لا يتعب، ولا يظهر عليه أي أثر، مع لربما تقدم العمر، ونحو ذلك، والشباب يتعبون، ويتمايلون، ويغيبون، ويحضرون، وينقطعون، فهذه أمور الله يعين بها العبد.
وأما الوصال إلى السحر، فهذا قال الإمام أحمد: بأنه لا بأس به، وكذلك إسحاق بن راهوية[10] وابن المنذر، وجماعات من أهل العلم قالوا: وهذا لا إشكال فيه، ومنهم ابن خزيمة[11] إمام الإمام، وهو منسوب للشافعية، قالوا: وهذا لا إشكال فيه أن يواصل إلى السحر؛ لأن النبي ﷺ لما نهى عن الوصال أذن بالوصال إلى السحر من كان منكم مواصلاً فليواصل إلى السحر[12] قالوا: إلى السحر لا إشكال في ذلك، والأفضل كما قال الإمام أحمد: أن يفطر إذا غابت الشمس، وذلك ليدرك فضل التبكير بالفطر، فهذا أفضل من الوصال -والله تعالى أعلم-.
ثم ذكر الباب الذي بعده، وهو باب تحريم الجلوس على قبر، وذكر فيه حديثًا واحدًا أشرت إليه في باب مضى، وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر[13] رواه مسلم.
وهذا الحديث ظاهره التحريم، فهو شيء محرم، وكذلك لو أنه وقف على القبر، وكذلك الاتكاء عليه، وذلك لحرمة الميت، وقيده بعضهم: بأن ذلك ما لم يبل، يعني: لم يحصل له البلاء، وذلك بمدة معينة مثلاً ستة أشهر، أو نحو هذا، فهذه مظنة أن تكون هذه الجثة قد تحللت، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا يقيد بالبلاء؛ لأن القبر تبقى له حرمته، ولو حصل مثل هذا لاسيما إن كان ذلك لغير حاجة.
ثم ذكر باب النهي عن تجصيص القبر، والبناء عليه، تجصيص، يعني: أن يوضع عليه الجص، كالجبس، أو النورة، أو نحو ذلك، يعني: الاسمنت الأبيض، ونحو هذا مما يوضع، والآن ممكن أن يقال: الاسمنت، وما أشبه ذلك من المواد التي تستعمل اليوم، والسبب في ذلك هو: لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تعظيم القبور، والبناء عليها، وبناء القبب، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز؛ لأنه من ذرائع الشرك، فالقبر إنما يرد عليه ترابه فحسب، لا يزاد عليه، ولا بأس أن توضع علامة عند رأس الميت مثلاً؛ ليعرف أن هذا قبر فلان فيزار، كما فعل النبي ﷺ في قبر عثمان بن مظعون [14] أما ما عدا ذلك فلا.
ولا يزال الشيطان بالناس يستدرجهم شيئًا فشيئًا، فلربما فعلوا شيئًا، لربما وضعوا عليه شيء من الحصباء، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك تدرج بهم الأمر، فوضعوا شيئًا مكتوبًا عليه اسم هذا، أو تاريخ الوفاة، أو نحو ذلك، ثم يتدرج الحال، فيضعون عليه مثل قطع الرخام، أو قطع الحصى، أو شرائح، صخور، أو نحو ذلك، ثم شيئا فشيئًا يبدأ الوضع حواجز جانبية، وبناء من الطوب، أو نحو هذا، ثم لا يلبث الأمر حتى يكون ذلك مثل البناء، كما هو حاصل في كثير من البلاد، وهذا لا يجوز، وهو مضاهاة لليهود، والنصارى.
فهنا نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، فهذه الأشياء الثلاثة كلها ذكرها مقترنة، وذلك للتحريم، تجصيص القبر، ويدخل فيه كل المواد التي يمكن أن تستعمل غير الجص، وكذلك القعود عليه، والبناء بأي نوع كان، يعني: البناء على القبر، سواء كان هذا البناء فقط في أطرافه، ثم بعد ذلك يسطح، ويكون كالصندوق، أو كان بما هو أكبر من هذا، يوضع عليه قبة، أو يوضع غرفة، أو نحو هذا، فهذا كله داخل في المنع، فهذه أشياء محرمة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- انظر: المجموع شرح المهذب، للنووي (6/358).
- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/496)، وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري (4/204).
- انظر: فتح الباري، لابن حجر (4/204).
- انظر: الموسوعة الكويتية (43/164).
- انظر: طرح التثريب في شرح التقريب، للعراقي (4/130).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال، ومن قال: ((ليس في الليل صيام))، برقم (1962)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1102).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال، ومن قال: ((ليس في الليل صيام))، برقم (1962)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1102).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، برقم (1965)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1103).
- انظر: تفسير الطبري (7/306).
- انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، للكوسج (3/1212).
- انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (4/204).
- أخرجه الدارمي في سننه، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1747)، وقال محققه: إسناده ضعيف: عبد الله بن صالح سيئ الحفظ جدا غير أن الحديث صحيح.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم (971).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر والقبر يعلم، برقم (3206)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1711).