الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «إن الله تعالى يغار..» إلى «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قال المصنف -رحمه الله-: باب التحذير من ارتكاب ما نهي الله ، أو رسوله ﷺ عنه".

يعني: هذا باب مجمل، بعدما ذكر المنهيات في هذه الأبواب الكثيرة، أعقب ذلك بهذا الباب، الذي هو في آخر هذه الأبواب قبل الأخير.

التحذير من ارتكاب ما نهي الله ، أو رسوله ﷺ.

قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ هنا: يخالفون، الفعل عدي بعن، ومثل هذا الفعل يعدى بنفسه، فيقال: يخالفون أمره، فهنا عداه بعن، يخالفون عن أمره، وذلك -والله أعلم-؛ لأنه مضمن معنى فعل آخر مثل: يعرضون.

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ مضمن معنى يعرضون، فهم مخالفون، مناكفون، منابذون، وهم أيضًا معرضون عن أمره.

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فهذا وعيد لمن خالف شرع الله -تبارك وتعالى-، فقد يبتلى، يصاب بفتنة، أو يصاب بقارعة وعذاب في بدنه، أو ماله، أو غير ذلك.

وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، يعني: يخوفكم، وينذركم.

وقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، يعني: أنه شديد العقوبة إذا نزل بأسه بأعدائه، والمحادين له.

وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، هذا ذكره الله بعدما ذكر القوارع التي أنزلها بالأمم المحادة لرسله -عليهم الصلاة والسلام-، فأنزل بهم العذاب المستأصل، فلما قص الله قصصهم في هذه السورة الكريمة سورة هود، قال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ كهذا الأخذ يعني، إِذَا أَخَذَ الْقُرَى القرى، يعني: الأمصار، وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ۝إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ [هود:102-103].

وعن أبي هريرة ، أن النبي ﷺ قال: إن الله يغار، هذا في إثبات صفة الغيرة لله ، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه[1]، متفق عليه.

يعني: الله يغار إذا انتهكت محارمه، والنبي ﷺ قال: إني أغير من سعد، والله أغير مني ومن سعد[2].

فالله -تبارك وتعالى- إذا رأى عبده يجترئ على حدوده، ويواقع ما حرم الله عليه، ويأتي الفواحش، ويتعرض لأعراض المسلمين، أو يريد إفسادها، فإن الله -تبارك وتعالى- يغار في مثل هذا، إذا انتهكت محارمه، فإذا غار الله –تبارك وتعالى- فماذا يرجيه العبد بعد ذلك من العافية أو السلامة، أو نحو هذا.

الإنسان يخاف إذا همَّ بمعصية، إذا أراد أن يواقع محظورًا، لاسيما ما يتعلق بالغيرة تعلقًا أوليًّا، ما يتصل بالأعراض، من جهة النظر، أو من جهة القول، أو من جهة المعافسة، أو من أي جهة كان بالتسبب في فشو الفواحش، ولهذا قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19].

ثم ذكر الباب الأخير في هذا الكتاب، كتاب المنهيات، وهو "باب ما يقوله ويفعله من ارتكب منهيًّا عنه".

الآن هذه الأبواب المنهيات الكثيرة جدًا إذا ارتكب محظورًا، ارتكب منهيًّا، ما هو الأدب اللائق في مثل هذه الحال؟

قال اللَّه تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، يعني: الشيطان ينخس، ينزغ العبد، يحركه، يأزه إلى فعل ما لا يليق، في المخاصمات مثلاً.

الله قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ [فصلت:34-36].

فيأتي الشيطان وينخسه، يحركه، يقول: أن تكون بهذه المثابة إذا عفوت تكون جدارًا قصيرًا، تكون ضعيفًا، يجترئ عليك الناس، يظن أنك ضعيف، تركت حقك لضعفك وعجزك، ثم بعد ذلك يطاول عليك من هبّ، ودبّ، ودرج، خذ بحقك بقوة، ورد الصاع صاعين.

هذا من نزغ الشيطان، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:36] قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

أصابهم طائف من الشيطان، يعني: بدأ الشيطان يلقي في قلوبهم الخواطر السيئة، الوسوسة، بدأ الشيطان يغريهم بالمعصية، لربما وقعوا بشيء من هذا، فهنا يتذكرون، تذكروا نظر الله إليهم، تذكروا رقابته، تذكروا العقوبة، تذكروا الجزاء والحساب، ثم بعد ذلك يرجعون مباشرة ويتوبون.

تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، عرف أنه وقع فيما لا يليق، فيبادر بالتوبة، هكذا المؤمن، وَإِخْوَانُهُمْ، إخوان الشياطين، ماذا تفعل بهم الشياطين؟ ماذا يفعلون بهم؟

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، يعني: تجد هذا الذي يمد بالغي لا يرعوي، لا يرجع، إلى أن يموت وهو على أسوء حاله، يقال: عجيب؟

الرجل فيه أمراض خطيرة، الرجل رجله في القبر، ما رأينا توبة، وإلى آخر نفس؛ لأن الشياطين.

فأهل الفطر الصحيحة، وأهل البصائر يستغربون! يقولون: هؤلاء لا يخافون من الله! ما يتوبون! يرون الموت صباح مساء أمام أعينهم، وهم في حال أقرب ما يكونون إلى القبر؛ ومع ذلك لا ترى توبة.

لا ترى رجوع إلى الله ، لماذا؟ لأن الشياطين لم تزل تدفع إلى أن يسقط في هذه الحفرة، القبر، بلا توبة.

وهذا الذي يفسر فعل هؤلاء المردة، إلى آخر لحظة، إلى آخر نفس لا يتوبون، إلى أن يموت الواحد وهو مارد؛ لأن الشياطين تأزهم، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ [الأعراف:202]، إخوان الشياطين يعني، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202].

وقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] فعلوا ذنبًا عظيمًا، أو ظلموا أنفسهم بصغيرة، أو ذلك، مباشرة تذكر.

ذَكَرُوا اللَّهَ تذكر عظمته، ورقابته، تذكر جزاءه، وخافه، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135] فذكرهم لربهم -تبارك وتعالى-، قال: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] على أحد الأقوال المشهورة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه[3]،"ولذكر الله فيها أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر".

يعني: ما في الصلاة من ذكر الله أعظم أثرًا في النهي عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفواحش والمعاصي والموبقات، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].

ويوسف ، لما راودته امرأة العزيز: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، ماذا تظنون في تلك القصور، والحياة المخملية من الترف، والنعيم، واللذة، والحماية، وكل شيء.

هَيْتَ لَكَ، ماذا قال؟

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، معاذ الله، تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، يعني: لا يحصل لهم يأس أيضًا وقنوط، مباشرة يستغفرون.

وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] يعلمون أن هذا معصية، أن هذا كبيرة، أن هذا ظلم للنفس، ومباشرة يتوب، ما جزاء هؤلاء، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمران:136] نكر المغفرة لتعظيمها، مغفرة عظيم.

وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [آل عمران:136] تجري من تحت قصورها، وأشجارها، خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136].

وقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أمر بالتوبة للجميع، الجميع يحتاج إلى التوبة، لا يوجد أحد يقول: أنا ما أعصي الله ، أنا ما عندي معاصي، أنا طاهر نقي.

الكل يحتاج، والإنسان بين فعل محرم، أو التقصير في واجب، دائمًا يحتاج إلى توبة، نحتاج إلى توبة دائمًا، لماذا نستغفر بعد الصلاة؟ بعد هذه العبادات، إذا قضينا مناسكنا لماذا نستغفر الله ؟

هذه الأعمال قد يكون فيها ما فيها من النقص، والضعف، فيحتاج العبد أن يستغفر بعد هذه الطاعات، فكيف بالمعاصي؟

وهكذا أيضًا الإنسان يحتاج إلى أن يستغفر، أيضًا من تقصيره في حق الله -تبارك وتعالى- أنه ما عبده حق عبادته، يستغفر من التقصير في النوافل، يستغفر من التقصير في الذكر، يستغفر من الغفلة التي ربما تكون غالبة علينا، نحتاج إلى استغفار من هذه الأشياء كلها، ما في أحد عاقل يقول: لا أنا ما أحتاج إلى استغفار.

من الناس من يكون للأسف! إذا قيل له: هداك لله، قال: هداك الله أنت، أنت ما تحتاج الهداية، قال: أنا ما الذي فعلت من أجل يهديني، أعوذ بالله، كما قيل: الجاهل عدو نفسه، لا يحتمل أن يدعى له بالهداية.

هو يرى أنه كامل مكمل، ما عندي شيء؟ وهو تقصير من رأسه إلى رجله، صلاة الفجر إن صلاها، يصليها متى ما استيقظ، وصلاة العصر إن صلاها يصليها متى ما استيقظ بعد المغرب، وهذا اللسان لا يفتر عن الوقيعة في أعرض الناس، وما إلى ذلك، ويقول: ما فعلت؟! أستغفر من ماذا؟

وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أي: من أجل أن تفلحوا، فدل على أن من أسباب الفلاح، من أعظمها التوبة.

وعن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، يعني: حلف باللات والعزى، ليقل: لا إله إلا اللَّه، هذه كفرته، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، هذا ما يجوز، بمجرد اللفظ هذا، كيف لو فعل؟ قال: فليتصدق[4]، متفق عليه.

يعني: هذه كفارة، وكما قال الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

وقال النبي ﷺ: واتبع السيئة الحسنة تمحُها[5]، وكان بعض السلف، يروى عن ابن عمر أنه كان إذا نام عن ورده من الليل، أو نحو ذلك، صام ذلك اليوم الذي بعده، يعني: يعوض، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، برقم (5223)، ومسلم، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، برقم (2761).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله، برقم (6846)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، برقم (1499).
  3. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/468).
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى} [النجم:19]، برقم (4860)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، برقم (1647).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم (1987)، وأحمد في المسند، برقم (21354)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (97).

مواد ذات صلة